عبد الواحد السويح - وقائع سكرى.. قصة قصيرة

إلى محمد البدوي أستاذا ومعلما وإنسانا


" أكاد أشكّ في نفسي لأنّي أكاد أشكّ فيكَ وأنتَ منّي"
... وقوارير البيرة المتناثرة وشمعة وشيء من اللّحم يحترق ونديم كما ترغبُ والمكان؟ هل ستذكر أنّه الجبّانة؟ قد تتجرّأ وتفعلها.. ولكن أحذّرك من مغبّة السّقوط في الابتذال.. على الرّؤيا أن تكون عميقة على قدر عمق المقدّس...
_ لو كنتُ أعرف أنّي سأسكر مع ميّت لجلبتُ معي امرأة.. اشربْ.
أيّها الغرّ.. قوارير العالم لن تسكركَ.. هل تنسى؟ ما أحقر الكتابة ولكنّ ثمن القلم رخيص وكذلك الأوراق.. ويمكن لأيّ تافه مثلك أن يشتري هذه الأشياء ويتوهّم.. ربّما يستطيع أن يستميل بعض السّذّج!
( _ من النّادر أن نجد في شعرنا العربيّ أبياتا وردت تامّة من حيث الوزن...
_ أستاذ.. إنّ لي بيتا على البحر البسيط بدون زحاف ولا علّة...
وينظر إليك الأستاذ أوّل مرّة ينظر إليك... هذا الّذي لا تستميله إلاّ الأوراق التي أمامه ومحفظته الكبيرة.. وأحيانا طلبة يجلسون في موقع ما خلف الحائط... سألك بعد أن انتهى الدّرس:
_ هل لك إنتاج؟
أجبتَه وقد أوتيتَ كتابكَ وراء ظهرك:
_ نعم...
قال كمن بيده كلّ شيء:
_ مدّني به فقد أنشر لك بعضه...)
لو تمتّع رجال النّقد بسعة النّظر وبفطنة حادّة منذ أوّل وهلة أمام الدّخلاء لما وجد القرّاء كتابة يتندّرون بها ويضحكون على أصحابها!
_ أنتم هكذا الطّلبة.. تغادرون أسوار الجامعة لتتركوا داخلها عقولكم وقلوبكم... بنات الجامعة يا سيدي!
لو تصارحه بالحقيقة.. لو تصف له يوما واحدا من أيّام الجامعة... هل يصدّق؟ لا، لن تصدمه.. دع الجامعة في قيروانها... قال لك الأستاذ: دعك من الكتابات السّياسيّة، هل تريد أن تخرب بيتي أم تحسب أن الإذاعة من غير بوّاب؟ وأنتَ الآن عليك أن تمارس شيئا من الرّقابة على هذا الّذي يتسامر معك. احرمْه من عنصر هامّ من عناصر حدوث اللّذّة الأدبيّة.. هذا العنصر هو تخييب توقّع السّامع!
_ ربّما.. ولكن لا أدري لِمَ تتلاشى لهفتي على "بنبلة" منذ اليوم الثّالث من كلّ عطلة... الجوّ مجدب أليس كذلك؟
_ ماذا نقول نحن؟ بطالة وكساد وحياة ميت بأتم معنى الكلمة!
تعتني دائما بمظهركَ ومن يراك لا يمكن إلاّ أن يصنّفكَ من خاصّة الخاصة... لكنّكَ إن تكلّمتَ، ترعب كلّ الانطباعات الحسنة فتغادرك تسبّ وتلعن أقنعة هذا الزمن الزّاني...
_ ولِمَ لا تعمل؟
نظر إليكَ نظرة ماسح الأحذية ثمّ قال دون انفعال:
_ توفّرت لي العديد من فرص الشّغل جميعها خارج "بنبلة".. ولكن يبدو أنّك لم تسمع ب" الرّافل"! إنّهم يضيقون علينا الخناق كي يجنّدوننا... والغريب أنّهم لا يمسكون الواحد منّا إلاّ بعد أن يكون قد تحصّل على شغل " اللّهم عافنا"!
ثمّ صبّ لنفسه كأسا أتى عليها دفعة واحدة وصبّ لك مثلها وقال مازحا:
_ قد آتي في الرّبيع إلى القيروان.. ها! هل تعدّ لي وزّة كما أعرف وأشتهي؟
يتكلّم معك في كامل راحته. انت لا تمثّل له أيّ عائق! لكن من يتكلّم في كامل راحته لا يجني غير البذاءة والتّفاهة. حرّية التّعبير لا تصنع الإبداع وإنّما تبدع الاصطناع...
( قلتَ له وكأنّك وحيد زمانه:
_ ولكنّي يا أستاذ أريد أن أوجّه كتاباتي إلى عامّة النّاس فهم يمثّلون الأغلبيّة الّتي لن نتقدّم إلاّ بتقدّمها...
_ ولكنّ الأدب نخبويّ!
قالها أستاذ الجامعة بكل بساطة، بدون نقاش، من غير تفكير... هذا الأستاذ يريد من الأدب أن يُكتب له، فقط له! ويرى أنّ من يكتب لسواه أحمق وابن زانية! أمّا الواقعيّة فهي مجرّد موضوع للدّراسة ولنيل الشّهائد العالية!)
_ ما رأيك في حكاية الوزّة؟
رأيُك؟ ينتظر رأيك! هل يتوقّع أن تصبح قوّادا؟ مثير ما ذهب إليه... لماذا امتقع لون وجهك؟ هل غيّرتَ رأيك في نديمك؟ قبل أن تجلس معه قدّرتَ أنّه يساوي ورقات عديدة قد تصل إلى رواية كاملة! مازالت الطّيبة موجودة عند بعض الحمقى... لماذا تفكّر بأن تعيده إلى حديث حاول أن يتجاوزه؟
_ ولِمَ لا تقوم بواجبك العسكريّ فينفتح الطّريق أمامك؟
_ واجبي العسكريّ! انت تقول ذلك! هاهاهاهاها!!!
تكاد تنفجر غيظا من نوبة الضّحك الّتي تملّكته... ولكن حاول أن تصمد.. لن تطول ضحكاته.. كيف قبلتَ السّهر معه؟ تابعَ:
_ واجبي العسكريّ! ولماذا التّجنيد؟ لتقشير البطاطا وغراسة الأشجار وسنة في الجحيم... ثم رفع بصره إلى القبور المترامية وقال كالمستدرك:
_ صحيح أنّي كالميت الآن ولكن ميت من غير حساب والحساب قضية أخرى..
وأطلق ضحكة عالية ثمّ واصل:
_ ألا تدرسون في الجامعة كيف يقضي الجنود خدمتهم في الدّول الأخرى وما الّذي يحصدونه وهل قارنتم بعد ذلك بين حالتنا وحالتهم؟
ما أتعس من يفتح على نفسه موضوعا يجهل جوانبه! هل فاجأتك أسئلته؟ انطفئي أيّتها الشّمعة وانقذيه!
_ أعرف كلّ شيء ولكن يجب مراعاة الفارق بيننا وبينهم في مختلف الأصعدة... ثمّ يجب مراعاة مصلحة البلاد قبل كلّ شيء!
ياه! احمد ربّك لأنك في مقبرة ولا من شاف ولا من درى غير صديقك السّكّير... لو تتصوّر كم تبدو مضحكا وأنت تنطق بمثل ذلك الكلام لاكتشفتَ في نفسك موهبة أخرى قد تنفعك أكثر... واصل على هذا المنوال مع إضافة كلمات أخرى من نوع تكريس وازدهار وعمل بنّاء... وستلاحظ النّتيجة! وتشعل سيجارة أيضا! لا ينقصك إلاّ ذلك.. هل انت طالب؟ يا سبحان اللّه! وأديب ايضا؟ هذه قالت لهم اسكتوا!
" _ سيداتي سادتي، حان الآن موعدكم مع برنامج واحة المبدعين..."
تتذكّر دائما أوّل مرّة سمعتَ فيها قصيدتك.. كاد أبوك يبكي وانت تمسكه من يده تقبّله وتقول أبتاه، أنالك الإله، أعطاني المعلّم، جائزة هل تعلم...
_ ها قد بدأ البرنامج الّذي حدّثتني عنه كثيرا.. دعنا نسمع الأدب يا سيدي!
(_ سأوجّه لك الدّعوة لأقدّمك إلى المستمعين...
واندهشتَ في سرّك... أليس مدهشا أن يهتمّ أستاذ بأشباه الأدباء وهو الّذي يدرّس بالجامعة جميلا وعمرا والأصفهانيّ؟!)
_ لن يذكرني الأستاذ في هذه الحصّة.. أنا أعرف متى يقرأ لي...
حتّى امام هذا البسيط تكذب! وإذا فعلها الأستاذ وقرأ لك؟ لا شكّ أنّك ستتصنّع المفاجأة الممزوجة بالتّواضع حتّى تكبر أمام هاتين العينين السّكرانتين! امض في غيّك.. ستصبح مشهورا وغنيّا وربّما يتحوّل البرنامج الإذاعي خصّيصا للإشادة بعبقريّتك!
_ سأكون سعيدا لو كتبت عنّي بعض الأشياء.. ولكن لا تذكر أنّي سكّير!
(_ لماذا قلتم عن قصيدتي الأخيرة إنّها تأمّلات فلسفيّة وإنّها ليست من الشّعر؟
_ لأنّها بالفعل ليست من الشّعر.. لقد غاب الإيقاع والإيقاع ركيزة الشعر...
أجبتَه بمرارة طاووس فقد ريشه:
_ ليس لهذا السّبب قلتم ذلك ولكنّها طريقة ذكيّة لإخفاء الحقيقة...)
"_ واحة المبدعين، برنامج يُعنى بأدب النّاشئين، نشرا ونقدا وتوجيها..."
_ ما رأيك هل تكتب كما اريد؟
( قلتَ له في محاولة يائسة لإخفاء عجزك:
_ سيدي انت الّذي يكتب فيّ...
ولم يندهش الأستاذ... كانت كذبتك سخيفة إلى أبعد الحدود!)
_ ولماذا تريدني أن اكذب عنك؟
_ لا.. ولكن هل تريدني أن اظلّ بائسا حتّى في الخيال؟ ثمّ إنّي أتشاءم كثيرا من الخمر!
_ لِمَ تشرب إذن؟
_ حالة مؤقتة في انتظار الفرج!!!
ياه! هل ستذكر ذلك في الرّواية؟ هل ستكتب أنّك لا تمثّل له سوى حالة قلق وضياع وأنّك لا تعدو أن تكون إلاّ حانة مكانا للتسلية والبول؟ هل من حقارة كمثل حقارتك؟ ولكن من يدري، ربّما تصرّ على الكتابة لتنعتَه بنعوت تعجز الآن عن التّفوّه بها! اقترح عليك أن تعدّ له كمينا كي تجنّده وتتخلّص منه منذ بداية الأحداث. أمّا إذا أردت أن تبدع وتجانب أقلّ ما يمكن من الصّواب فاقتدِ بغيرك واستنجد ب" دون كيشوت"! كم ورقة بقيت لك الآن من الرّوايةِ الموهومة؟ ثلاثة؟ اثنتان؟ واحدة؟
"_ يمرّ الوقت مسرعا في واحتنا الجميلة، نعتذر للأصدقاء الّذين لم نتمكّن من الرّدّ على محاولاتهم، فإلى فرصة أخرى."

عبد الواحد السويح


L’image contient peut-être : ‎‎‎أبو محمود السويح‎‎, selfie et gros plan‎

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى