فكرى عمر - حُلم "ع".. قصة قصيرة

حَلُمَ المواطن "ع" بأنه يجهز أوراقًا للترشح لمنصب رئاسة جمهورية البطيخ، وحين استيقظ من نومه وجد نفسه فى فراشه مكبلًا بالسلاسل وقد أحاطت به قوة شرطية مدججة بالبنادق الآلية، وأجهزة الاتصال اللاسلكية، ومن فرجة صغيرة بين جنديين متجاورين أمام شباك السرير رأى فى المرآة انعكاسًا لجنود على باب الشقة المخلوع من مكانه، يحملون مدافع الآر بى جيه، وعلى صدورهم سلسلة من قنابل عنقودية فى حجم قبضة اليد.
أغلق عينيه وهو يعتقد أنه يتحرك داخل كابوس، ربما تذوب تلك الأجساد المستنفرة، والوجوه المتوعدة فور أن يستيقظ فى موعده اليومى فى السادسة والنصف صباحًا، غير أن الصفعة التى تلقاها على وجهه وجانب رأسه من قبضة كالهاون فتحت عينيه على حجم الورطة التى هو فيها.

"أين الحلم وأين الحقيقة؟". لم ينطق طبعًا بذلك السؤال الذى فكر فيه، بل لم يتحرك فمه الذى كان ساخنًا يرتجف، وخيط من الدم ينسال منه على المخدة، ولم يُرحه أحدهم بكلمة توضح حقيقة الموضوع. كانوا يحدقون فيه بشراسة، ونقمة. هو لا يعرف طبعًا أن هناك إنزال مِظلي على سطح بيته، وثلاث مدرعات تحيط بالبيت، وقوة تفتيش تقف على رؤوس الشوارع؛ لتمنع المارة من العبور بجملة واحدة: "هناك عملية خطرة تجرى فى هذا الشارع".

"هل هى عملية إرهابية؟. "ما نوعها؟". "كم عدد الإرهابيين، والجناة؟". يسأل الجمهور المتعطش للإثارة، لكن إشارة من عين قائد كل فريق كانت تكفى لدفع المارة إلى الوراء، بعضهم رفع يديه بالدعاء: "ربنا ينصركم، ويقويكم"، ثم عَرض المساعدة إذا كانت هناك فرصة لذلك، القليل من المارة كان يركع على ركبتيه كما فى كل حادث، أو يقعد مستندًا على جدار بيت مدعيًا أنه لن يغادر مكانه، وأن جسده وروحه يقدمهما مجانًا لحماية قوات الأمن، والدفاع. وأنه بإمكانهم الاستعانة به فى المواجهة ودون سلاح؛ ليضحى بنفسه راضيًا فى سبيل الوطن.

سيرى "ع" طرفًا من القوات المتمركزة حول بيته، والقوات المتجولة فى الشارع قبل أن توضع على عينيه طاقية سوداء كريهة الرائحة.
قبل ذلك، وهو ما يزال على الفراش ينتظر إجابة، جاء أمرٌ من كبير القادة لعساكره: "تحركوا". فك الجنود السلاسل من جوانب السرير، وأخذوا يجرجرونه ابتداء من قدميه، كانت يداه معقودة على صدره فلم يستطع دفع إحداها وراء رأسه ليتلافى سقطتها على بلاط الحجرة. ارتج رأسه، وكاد يفقد وعيه، لكن أحد العساكر فى الخلف دفع بوز حذائه فى جنبه، فاستفاق متألمًا وهو يشعر بلزوجة فى فمه، وتشوش أمام عينيه.

تمزقت ملابس النوم على أرضية الشقة، والسلالم. خيط الدم الذى بدأ ينز من جلده كان يمكن أن يشكل ذكرى وحيدة لوجوده ذات يوم فى هذا البيت، ولبعث الحزن مرة بعد أخرى حين تشير زوجته إلى آثار الدم وهى تقول: "حصل قُدام عيني، لن أنسى ما حييت". ثم أين هى زوجته؟ كان يود أن يراها وأن يطالع وجه ابنه وابنته لمرة يعتقد أنها ستكون الأخيرة. كان هناك بكاء طفل ونواح متقطع لامرأة، ثم لطمة هائلة تلاها صمت تام.
مثلما يفعلون فى كل مرة، لن يسمحوا للذكرى الماثلة أمام الأعين أن تظل هكذا. اثنان من الجنود حملوا قطع الموكيت الصغيرة التى أصابها الدم، ونظفوا الأرضية، والسلالم، ثم أخذوا المخلفات مع ملابسه، وكل ما يخصه من منزله، وشحنوها مع الركب فى عربة أخرى غير تلك العربة المدرعة التى حُمل إليها فى طريقة إلى المحاكمة.

كان يفيق كل حين، ويود أن يسأل: أين هو؟ ما الذى حدث؟ ثم هجس لنفسه أن ذلك ربما كان بسبب حُلم أمس. كان موعد الانتخابات الجديدة قد هَلَّ على الأبواب، وكانت القنوات التليفزيونية وخصوصًا برامج التوك شو تتحدث دائمًا فى الموضوع، تتهم الخونة والعملاء والصغار بالتجرؤ على ذلك. ربما فكر فى تفاصيل ما يراه أكثر من اللازم، فحلم بأنه يرشح نفسه للرئاسة. تُرى من رأى حلمه، وأبلغ عنه؟

لم يكن "ع" طوال حياته من المهتمين بالسياسة، ولا بالكلام عن الحاكم، والوزراء، والقضاة، والجيش، والشرطة، ورجال الإعلام. كان يشعر أن الكلام فى السياسة هو أمر خطير ومعيب يشبه تمامًا الكلام عن الجماع أمام الناس فى الشارع، والمواصلات العامة. بالإضافة إلى تصوره الدائم أن تلك الطبقات، التى ينحرف الكلام إليها دائمًا إذا ما تحدث أحدهم عن ظروفه الصعبة، لا تنتمى إليهم. بل هم أناس ولدوا هكذا، ولا يجب أن يعيشوا إلا هكذا، فهذا رزق ساقه الله إليهم، وكل من يلمس سيرتهم بالتجريح إما حاقد، أو مجنون، أو متآمر.

الاستثناء الوحيد كان فى أيام خرج فيها شعب جمهورية البطيخ عن وعيهم حسب رأيه، وأطاحوا بزعيم من زعمائها، بل وفكروا فى تغيير اسمها لاعتقادهم أنه منسوب إلى ثمرة البطيخ المشهورة بالنكات، لكن لا أحد يعرف لم كان اسمها هكذا. أكيد هذا سر كبير من أسرار الدولة. حينذاك شعر أن ما يراه حقيقة، وتحركت بعض المشاعر الغريبة فى صدره مثل إحساسه بأنه إنسان له حقوق مساوية لحقوق الفئة التى تمسك سدة الحكم فى البلاد، لكن الزعيم الجديد بعد ذلك حسم المعركة بكل ما يملكه ويملكه رجاله من قوة وبطش، وأعاد القناعة الأزلية إلى عقول أبناء جمهورية البطيخ بأن جمهوريتهم لا يمكن أبدًا أن تهزمها الفوضى، أو أن يحكمها أحد غير سلالة الزعماء القادمين من مجمع الآلهة العسكرية ولو تكلف ذلك جبلًا من الجماجم، ونهرًا من الدم، وبِركة من العيون المفقوءة، والأعضاء المبتورة.

صُور المواطن "ع" الشخصية والعائلية، وبطاقة هويته، وعقد زواجه، وعقد ملكية بيته أُحرقوا مع ما أُحرق من ملابسه أمام عينيه فى قفص حديدى عال بحجم حجرة من حجرات بيت كبير. رُفع اسمه من دفتر الحضور والانصراف فى نفس اليوم من جهة عمله الحكومى، ومحي اسمه المُلحق بأسماء أبنائه الأولى.
فى انتظار المحاكمة جلس "ع" ويداه على رأسه حزينًا ومرعوبًا: "تُرى من أى جحيم أتانى هذا الحلم؟ ومن أبلغ عنى حينها؟". يعرف أنهم كانوا سابقًا يساومون من يريد الترشح حتى يتنازل، ثم ينتهون منه بإرساله إلى دولة أخرى بعيدة، أو إرساله إلى الآخرة.. سيان، فأخبار من انتوى الترشح وأُجبر على التراجع غير مسموح بتداولها إطلاقًا فى الجرائد، والإعلام، بل وعلى ألسنة العامة، وفى مواقع التواصل الاجتماعى المُراقبة والمحاصرة بقوانين تسمح للسلطة بمحاكمة أى فرد فيها لمجرد عبارة تم تفسيرها على أنها تهديد للدولة، ونشر الفوضى.
وقف المواطن "ع" فى قفص الاتهام مسلسلًا بالحديد من يديه وقدميه وعلى فمه لاصق أمام هيئة قضاء رآها من قبل، الجالس فى المنتصف صاحب ملهى ليلى شهير بعاصمة جمهورية البطيخ، وعضو اليمين صحافى، والآخر مقدم برامج تليفزيونية. لم يكن هناك محامون.. لا للدفاع، ولا للإدانة. كانت محكمة غير عادية شكلها الزعيم لمحاكمة الخونة والمتآمرين.
"سيد ع، ما الذى دفعك لتفكر فى هدم الدولة؟" سأله الجالس على كرسى القاضى فى المنتصف، فرفع الجندى اللاصق من جانب فمه، وسمح له بالكلام لثوان.
"غصبًا عنى". أعيد اللاصق.
"ما الجهة التى تعمل لديها، وكم دفعت لك، وفى مقابل ماذا، الإنكار لا يفيد أبدًا؟"
كان "ع" قد رأى طرفًا من خبر جهنم فى حجرة الحجز الافتراضية، فكاد يبكى ويقسم بأغلظ الأيمان أنه بعيد تماما عن كل هذه الصراعات.. هو أصلًا لا يذهب للانتخابات، يستغل أيام إجازتها فى الراحة من عمله الإضافى، لكن لا وقت أمامه للتعبير عن مشاعره. عليه أن يقول الحقيقة بصلابة؛ لأنها قد تنقذه.
"لا..." لم يستكمل جملته فقد أعيد اللاصق فورًا.
"سيد ع، نحن لا نلفق لك تهمة. معاذ الله، فدولتنا دولة الدستور والقانون والعالم كله يعرف ذلك، وينقله فى وسائل الإعلام، ألا تراها! التهمة ثابتة ومصيرها الإعدام، ومن رحمة زعيمنا أنه سيجعلك تختار الطريقة التى تنتقل بها إلى الآخرة. لكن أمامك فرصة وإلا عُد الموت أمنية تنتظرها. من حرضك على وضع رأسك برأس الزعيم؟".
"أنا مواطن...." ولم يكمل جملته فقد وضع اللاصق مباشرة، ورأى نظرة الذعر فى وجوه القضاة، نظرة كزخات الرصاص.
"المواطن يا ابن الكلب يحترم الدولة، ويعرف واجباته قبل أن يطالب بحقوقه، كل ابن حرام يتمطى على سريره تحت غطائه الدافئ ويقول "أنا مواطن". لا. أنت خائن، ومتآمر، وفوضوى. ألا تعرف أننا نواجه الإرهاب الكُحلى.
بالقاعة يجلس بعض الناس يدونون أشياء فى أوراقهم دون أن يرفعوا رؤوسهم أبدًا، لكن الجملة الأخيرة شدت انتباههم، فنحوا الأوراق جانبًا، وأخذوا يحملقون فى قاضى المنتصف. كانت الكلمة المتداولة هى الإرهاب الأسود، أما الكُحلى فعُدت سخرية لا تغتفر. المواطن "ع" عرف بعد ذلك أن هذا الجالس فى موقع القاضى تربى فى ريف كان يقال فيه إزاء كل مصيبة: (يا ليلة كحلى)، فظن أن هذه الكلمة ستدخل قواميس الزعيم باسمه وحده لينال الرضا، لكنها على عكس المراد سببت سجن هيئة القضاء مع المواطن "ع"؛ لأن الجلسة تم رفعها بإشارة، وفى الجلسة الثانية رأى القضاة الثلاثة تبكى عيونهم وهم مسلسلون بالحديد مثله، وعلى فم كل منهم لاصق. ربما لا يغفر الزعيم الخطيئة.

أمام هيئة المحكمة الثانية التى أضيفت إليها ممثلة كانت تدير شبكة للدعارة، وقد قدمت بعد ذلك ولائها للزعيم، فمُحيت قضيتها وصمت الإعلام عنها تمامًا. كان "ع" يرمقهم بذهول. "هؤلاء جادون إذًا، يرتدون زى القضاة، ويتكلمون بنبرات ولغة سليمة تدربوا عليها.
"ألا تعرف يا أيها المواطن "ع" ما الذى فعلته؟ لقد أخرجت الخونة من جحورهم، فصاروا يتصورون أن بإمكانهم الإطاحة بالزعيم فى لعبة من ألعاب الدول إياها".
اكتسب المواطن قليلًا من الثقة نتيجة وجود هيئة المحكمة السابقة بجواره. إذًا لن يروح وحده فى خبر كان، على الأقل هو الآن ليس فى الدرك الأسفل من الجحيم.
"ولكنها انتخابات..." ومثلما حدث فى المرة الأولى رفع الجلوس فى القاعة رؤوسهم عن أوراقهم التى يدونون بها أشياء معينة، وأخذوا يحدقون فى هيئة المحكمة، فتكفل أحدهم بالدفاع عن الثلاثة.
"كلمة انتخابات هذه أيها المجرم الجاهل نفعلها بترتيب لحمايتكم؛ كى يحصل الزعيم على السلاح والمال والدعم. من أين تأكلون، وتشربون، وترتعون؟ هه؟"
وظن القاضى أنه حقق انتصارًا وأفلت من مصير سابقيه، لكن اللاصق فور أن رُفع من فم المواطن "ع" قال بسرعة: "لكن الزعيم ورجاله لم يحققوا انتصارًا سوى على جُثثنا".

ومثلما حدث فى المرة الأولى حدث فى المرة الثانية. ثم تلتها الرابعة، فالخامسة، فـ.... كل مرة كانت تفلت من فم المواطن "ع" جملة تودى بهيئة المحكمة إلى السجن لسماحها له بنطقها، وتداولت الألسن كلماته، حتى صار المواطن "ع" أضحوكة المدينة، ومثار اهتمامها. وقبل أن يفلت الزمام، ويفكر شعب البطيخ فى مغزى كلمات "ع" أعلن الخطاب الرئاسى أن هذا المتآمر قد كشف كل رجاله، وأن الدولة ستتخلص منهم واحدًا وراء الآخر.

لم يعد "ع" يرى فى منامه أية أحلام. كان ينام، فيستيقظ، والهوة الزمنية التى تفصل بين النوم واليقظة كانت تروح إلى العدم، ورغم ذلك فالعدم كان أجمل من تلك الأخبار الصباحية اليومية، كل يوم يستيقظ "ع" على خبر تصفية مجموعة من البشر كانوا قضاة، ثم صار حالهم مثل حاله، ولم يقف الخبر عند هذا الحد، فقد كانت تفاصيل الخبر نفسه مرعبة.. بعضهم أُلقى به من عمارة فى مرحلة البناء، وبعضهم ربط إلى شريط قطار الليل، وبعضهم تم حرقهم بالغاز، وبعضهم أُلقى به من طائرة إلى البحر وهو مكبل الأيدى والأقدام.
المواطن "ع" من الرعب تمنى الموت، ولم يطله. تتساقط بعض الأجساد من حوله موتى الذعر والضعف والجوع، حتى أطل عليهم صباح رأوا فيه رجال الشرطة وهم يرصونهم فى دائرة داخل قفص حديدى، ثم ارتفعت البنادق الآلية من خارج الأسوار فى استعداد للخلاص، حينذاك انطلق الكل فى هتاف يعرفون أنه ربما يجعل رجال الزعيم يرحمونهم، ويتركونهم يموتون أثناء النوم مثلًا بدلًا من التمزق بالرصاص، ودون اتفاق بينهم انطلقوا جميعًا فى جوقة واحدة: "تحيا جمهورية البطيخ .. تحيا جمهورية البطيخ .. تحيا جمهورية البطيخ"، لكنهم أثناء صياحهم وهتافهم العالى لم يسمعوا لزخات الرصاص التى كانت تصم آذانهم، فلم يعرفوا حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم هل هذه أصوات الرصاص، أم صوت هتافهم العالى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى