مسعودة بو بكر - خيط أحمر في الصحراء

جاؤوا…

حشد من الفضوليين الذين كانوا يمرّون صدفة من ذلك الفجّ الصحراوي بين الكثبان، وحشد من حرس الحدود ومسعفان وصحفيّ مغامر. أمّا الفضوليين فقد غنموا حكاية جديدة يخوضون فيها في الطريق وحيث ستستقرّ بهم المجالس .. وأما الصحفيّ فقد وجد مادة جديدة سينشر تفاصيلها عبر الفاكس حال عودته إلى العمران.. وأمّا حرّاس النقطة الحدوديّة فسيسجّلون الحادثة في دفاترهم اليوميّة، حدث لا يعدو أن يكون واحدا من تلك التي باتت تتكرّر على مشارف الصحراء، لا يختلف فيها سوى الاسم وزمن اكتشافها وبعض التفاصيل.. صورة من الروتين اليومي الذي تعوّدوا عليه منذ سنتين ونيّف في هذه النقطة الحدوديّة بين بلدين هزّهما زلزال الثورة الشعبية منذ غضب الرّاخمون على بلواهم طيلة عقود وعقود. تفرّقوا وانفضوا عن المكان المقتطع من كبد جغرافيا شبّ حريق أحداث دامية وحالكة في أرجائها فاحترقت سدرة الطمأنينة وسنابل السّكون…
تفرّقوا بعد أن لملموا أشيائي التي تبعثرت حول جسدي الذي هوى فجأة في لحظة منبثقة من الغيب السّادر، لا يدرك ما حدث سوى أنّ شيئا ما حادّا وساخنا اخترق أعضاءه في أكثر من موضع.. رأيتهم يتفحصّون جسدي .. حاولت عبثا ـ في الأثناء ـ أن أحرّك لساني وأحدّث الحرس بشيء علق في الخاطر… جاهدت كي أحرّك يديّ وقدمي… وفي حركة أخيرة من اليأس وددت أن أطرف وأحرّك حاجبي علّني ألفت انتباه أحدهم، لكن كل شيء فيّ بدا هامدا… ما عدت أشعر بثقل رأسي ولا بعمودي الفقري الذي تتآلف حوله عظامي ولا بالنبض يتواتر عبر دواخلي ولا بحركة الأنفاس ولا بملامستي للأرض الصلبة… أهي حدّة الألم في قصوى حالاته تبعث هذا الخدر العجيب في الجسد المصاب؟تحسّس أحدهم نبضي. هزّ رأسه وأشار إلى مواضع النزيف. تقدّم عون الحرس ليقلّب جسدي ويملي تفاصيل ما عاين على آخر منهمكا بتسجيلها في دفتره.. دسّ أصابعه في جيوب سروالي ليعثر على حافظة الأوراق.. تمهّل عند هويتي ثم مدّ لرفاقه لفافة الأوراق النقديّة التي كانت مدسوسة بإحكام في جوف الحافظة الجلديّة… أحصوها بدقّة…أودعوا كل ذلك في كيس شفّاف تسلّمه حامل الدفتر.
نهر الحرسُ الفضوليين الذين خضعوا لسيل من الأسئلة لتبتلعهم سيّارتهم.
تقدّم أحدهم ليستر جسدي بملاءة بيضاء ثمّ رفعتني الأيدي على نقّالة إلى جوف سيارة إسعاف هدر محركها وابتعد في طليعة موكب الحرس.. غاصت العجلات في الرّمال وتلاشت بين الكثبان المسربلة في ما أثارته العجلات من غبار.
عاد الصمت الثقيل يجثم على المكان.. البقعة الحمراء حيث سقط الجسد بدأت تميل حمرتها إلى اللون البنيّ ربّما بفعل الضوء والصّهد… تمتصّها حبيبات الرّمل بشراهة. تنزع الكويرات المسفوحة إلى التلاشي وقد فقدت معنى وجودها بانفصالها عن الجسد وسرّ خلقها..
تركت كلّ ذلك خلفي، المكان والزمان وعلاقتي بالبقعة الحمراء على شفاه الكثبان الصهباء المصهودة بحميم الشموس والتي ستتعهّدها حركة الرّياح الأبديّة في تلك الفجاج.
عليّ أن ألتحق بمن أصبح غريمي، غايتي ومطلبي منذ اللحظة التي استقرّت فيها رصاصاته وسط الصدر وأسفل البطن، ثمّ لاذ بتخوم الصحراء حين فطنت دورية الحرس إلى دويّ الرصاص ولم يفز بما كان ينشد… عليّ تقصّي أثر من بات غريمي منذ تقطّعت أنسجة الوصل في شراييني، وارتبك ثمّ تعطّل ذلك النّظام العجيب في أعضائي الداخلية والخارجيّة… لأغادر أنا… الكتلة اللامرئية منفصلا للأبد الكتلة المرئيّة التي كانت قبيل ذلك بلحظات جسدي.. يعانقني وأعانقه… يؤنسني وأؤنسه..قلت لوالدتي وهي ترتّب في زوّادة صغيرة أقراص الفطير والتين المجفّف متجاهلة اعتراضي وتبرّمي من كثرة ما حشت به الزوادة:
– ألا يكفي الثّقل في داخلي حتى تزيدين كاهلي ثقلا؟ أنسيت أني مسافر غير عادي من المفروض أن أمضي خفيفا وحذرا مثل ذكر الرّيم؟
كنت أتهيّب ما اعتزمته منذ أشهر وما حان وقت الشروع فيه.. سأعبر فجاجا بين النقاط الحدودية عبر الصحراء متحاشيا ما أمكن عيون الحرس ومواقع ترصّدهم… سألقي بي إلى بحر الرمال والريح متوغلا باتّجاه الجنوب حتى أبلغ نقطة معيّنة بين الجبال، سيكون هناك قادمون أُخَر من أماكن متعددة اختلفت مسالكهم ومبتغاهم واحد .. اجتياز الحدود التونسية الليبية ووصول طرابلس وجلب البضاعة من هناك .. بضاعة تستحق كل هذه المجازفة ازدهرت سوقها في الفوضى العارمة التي اجتاحت المدن عقبت الثورة في تونس ثم مصر ثم ليبيا.. بضاعة تعود على صاحبها بخير عميم … ستكون مرّة بلا كرّة أغنم منها ما أترك للوالدة كي، يسدّ حاجتها وأمضي بما يكفي إلى حيث أستكمل دراستي المتعثّرة… هي فرصة استرزاق وفّرتها لنا المدن بفوضاها من حيث عجزت عن توفيرها لأبنائها في حالة الاستقرار… همس لي أحد أقربائيك
” الرّاجل عليه بالتجربة.. كان خسر راجل وكان ربح هو سيد الرجال. “عاد إلى موطنه وهو “سيد الرجال” رافقته نجمة السّعد في الذهاب والإياب، وتكاتف حوله كل الشياطين يحرسون سراه في غدوّه ورواحه فتمكّن من جلب بضاعته المحظورة التي نعلم تفاصيلها قدر ما نعلم ما درّت عليه… أبى “سيد الرجال” أن أظلّ بعيدا عن درب الثروة، مدّني بمعلومات خزّنتها في ذاكرتي وحفظتها عن ظهر قلب، وبلفافة أوراق نقدية من الأورو.. تلك التي أحكمت لفّها في قاع الحافظة الجلدية وكانت منذ قليل بين أصابع عون الحرس يحصيها ويثبّتها رقما في دفتره وآلت إلى الغيب…
***
هي ذي الصحراء تمتدّ أمامي … صحراء أبي وجدي والسلالة… مساحات من تيه في جسد الأرض أشرف عليها من حالق.. أراها من موقعي تمتد عملاقة بين نقطة بعيدة من مياه وأخرى من أحراش وغابات وصخور صهباء… تيه أرى عند بعض نقاطه حراك يقطع سكونه… سيارات حربية ومدرّعات وقوافل لا حادي لها قلقة جزعة، مقبلة مدبرة يسير في ركابها أناس يضرمون النار حيث حلّوا ويطاردون شياطين الإنس ـ في وقت ما
أصبح الآن بعيداـ حين كنت أرى أحلاما يرتجف لبهائها جسدي الذي انفصلت عنه، أحلام وارفة تزهر في العمق العذريّ منّي.. كنت ألتقط ما يروى من حكايات عن صحراء الأجداد من دوز حتّى تخوم السودان وبرّ الطوارق، وأرسم على خارطة صحرائي القريبة ـ صحراء أبي وجدّي ـ في خيالي مسالك من شهد وماء وعمار..
أحببت الصحراء عموما وأحببت من أحبّها وولعت بما كتب عنها الشعراء والروائيون، كان إبراهيم الكوني يعتلي في الخاطر سدّة أثيرة.
ها هي صحراؤك يا إبراهيم… تمتدّ أمامي بلا حدّ، لا أرى فيها الودّان سليل أهل الخفاء يذرع الأصيل إلى ملكوت الجميلة تامدّورت إذ تضيء وجه الصحراء… لا أرى تينيري ولا أودادا ولا أكّـا عند هذه الممتدات اللامتناهية، حيث رويت في الوقائع المفقودة من سيرة المجوس أنّ موسى التقى ولأوّل مرّة بالربّة الحجريّة … في أيّ نقطة يا ترى حصل ذلك من تلك العصور الغابرة؟ ترى هل بإمكاني الآن وأنا في رحلتي لأجتثّ “عرق الشيطان” أن أحطّ على كثيب بين أهل الخفاء وأتطلّع إلى نقطة ما حيث وقفت الربة الحجرية “مكابرة في مقامها الخالد”؟ هل لي أن أفعل ذلك الآن في صحرائك يا إبراهيم التي زمجرت فيها المدرّعات وباتت كثبانها مقابر للمعدن المتفجّر والقنابل المختومة والألغام ونثار الرّصاص؟ مذ عبر رومل رسول الموت والدمار.. هي ذي ـ في زمن غير الزّمن وظروف غير الظروف ـ فلول الفارين والمطاردين جنود بيت الطاعة وجنود النافرين عن الطاعة يقتنصون بعضهم بعضا… تمتصّ الرمال دماءهم على السواء وتطحن الرياح أجسادهم المهملة في دوامة الأعاصير لتجمعهم في دورانها تحت الكثبان في واد صلد.. تسربلهما الرّمال على حدّ سواء…
أعبر الغبار والضباب وأروقة الشّموس .. أعبر مدارات المُزن القفراء… لا شيء سوى السّديم … لا شيء غير القفر ورائحة الموت والخوف… فأين يا ترى أهل الخفاء وعرائس الجنّ والودّان الهجين وروائح المسك و الغزلان ومواكب النسوة يرتّلن التمائم في لحن مأتمي؟… أين؟
***
أحمل ملامح غريمي ورائحته ونبرة صوته، زادي في ملاحقته.. والظّفر به حيث كان، ولو في غابة سباع أو حصون مدرّعة.. فلا شيء يحول بيني وبين الذي اقتنص حلم أمّي.
“سأزوجك” قالت تنشر أمامي درّة أحلامها الأموميّة الأثيرة.” لا أرغب في الزواج.. و أريد العمل لأكفل ما يسمح لي بالسفر والدّراسة… ”
” نجمي آذن بالأفول يا بني .. وحضني متعطّش لذرّيتك ”
“سامحك الله يا أمّ .. ألا يكفيني عسر حالي فتزيدينني ذرية ؟ ابنك يحلم بأكبر من زوجة وذريّة الآن.. ابنك يحلم بشهادة علميّة… سيطاردها ويغنمها بكل السّبل.. فتمسّكي يا أمّي بنجمة العمر… اقبضي عليها جيّدا حتّى لا تأفل .. قولي لها أن تتريث حتّى أمتّعك ولو قليلا.. ألست تحلمين بلمس ستار الكعبة الشريفة وشمّ عطرها؟ ألست تأملين السجود عند قبر المصطفى؟.. سألبسك الحرير الهنديّ وأنزع عنك ملاءات البوليستار الفجّ.. سآخذك إلى مقاهي البحيرة ومطاعمها هناك في العاصمة… ليتذوّق لسانك هذا الذي يلهج بالدّعاء من أجلي طعم عصائر الفواكه، والمثلّجات بثمار جنان الدنيا… اقبضي على نجمة العمر.
قصم ظهرها ابن الزّانية… وطعن قلبها الرّقيق الوهن… فلا قرّت عينه ولا هدأ مضجعه.
***
حين اخترقت جسدي تلك الأشياء الحادّة والسّاخنة واختلّ توازن العناصر من حولي، رأيت الوحش يقترب منّي بوجهه المغبرّ ولفحت وجهي أنفاسه الكريهة.. وبكلّ ما ظلّ فيّ من وعي التقطت ملامحه الرّهيبة خزّنت كلّ تفاصيلها في حدقتي… تمكّنت أيضا من امتصاص رائحته عبر قناة الشمّ، وخزّنت في الأخير نبرات صوته البشع في دهاليز سمعي قبل أن يزحف عليها الخرس الأبدي.. هي ذي ملامحه البشعة ورائحة بدنه المقرفة ونبرات صوته الأجشّ… وقد خزّنها بعضي لبعضي في تلك اللحظة الفاصلة والوحش يجسّ الجسد ينبش بين جيوب الجاكيت والقميص، ثمّ جذب الزوّادة ونفضها ليتدحرج ما فيها.. في تلك الآونة رأيت دموع أمي لآلئ سوداء مبعثرة بين أقراص الخبز وحبّات التّين المجفّف.. وحتّى لا تستبيحها يد الآثم، نفخت فيها بقوة أوتيتها، وبعثرتها بين الرمال إلى مجرى الريح.. لتبتلعها الكثبان الشّاهدة على مصيبتي… كان الوحش يرغو ويزبد ببذيء القول والسّباب و يجسّ الثياب التي صبغتها الدماء… وفي اللحظة التي كاد يمرّ فيها إلى جيوب السروال الخلفيّة، شرخ السكون الرّهيب أزيز محرّكات.
لاذ الوحش بالفرار دون غنيمة سوى إثم بشع، رأيته يلوذ بالكثبان ثمّ يختفي مثل سحليّة.. وسيّارات حرس الحدود رباعية الدفع تدنو من الجسد.
***

في ذات اللحظة سكنني يقين أنّه لن يفلت منّي .. سألاحقه بعد أن أفرغ من وداع نفسي… من وداع بعضي لبعضي… بعد أن يقسم بعضي الذي سكنه الوعي للبعض الثاني الذي تخلّى عنه كلّ شيء أنّه سيثأر له من صائده.
البقعة الحمراء تتسع على الرمل .. وأنا أتسحّب من الجسد قليلا قليلا.. بين ارتجافات الأعضاء وانتفاضتها الأخيرة، لأتلولب وأستقرّ في موضع ما من الأفق، كائن على ما يبدو شبحيّا لا تراه عين.. أرقب ( بخفة كائن هلامي/ هبئيّ/ ضبابي/ ضوئي.. لست أدري ما محلّه من الوصف ) ما سيكون من أمر جسدي…

***
ها هي صحراؤك يا إبراهيم الكوني …لا شيء من قولك الآسر غير نار ذات لهب لم ترحم في تاريخها عدا إبراهيم الخليل.
وجدت غريمي..
قادتني إليه رائحته… يبدو أنّ حاسّة الشمّ لم تتخلّ عني بتلاشي خلايا الجسد وغدده الحاكمة بأمرها.. ها هي تعمل بقدرة قادر، و بشكل أكثر نشاط ونجاعة وتقودني إلى غريمي … أراه مثل حيوان مفرد كريه يتكوّم حول قبحه يطلب النّوم، عند مدخل المدينة التي دمّرتها الفوضى، وتجاوب فيها لغط أناس يتحرّكون على كفّ مارد.. تناهى إليّ أن زعيمهم الفارّ والمطارد قد وقع بين أيديهم وناله قصاص سريع وبشع… أرأيت أيّها الوحش الكريه.. كل فار آثم غير مرغوب فيه سيطارد.. سيقع وسيناله القصاص.. لكنني أبيّت لك عذابا قبل أن اقتصّ منك.. عذاب بحجم تلك الدّموع التي تسفحها الآن أمّ ثكلى مقصومة الظهر هناك خلف الصحراء.
تلولبت بطاقتي العجيبة التي أوتيتها بقدرة قادر إلى دماغه، أربكت دواليب النعاس ورحت أرسم ملامح وجهي الذي كان، على أنسجة دماغه، ونظرات العينين التي اختزلت كلّ الرّعب والوجع. انتفض الوحش ونطّ من موضعه كمن لُدِغ في مقتل. راح يخبط بيديه في الهواء ثم يضرب بقبضتيه على رأسه ويضغط بكفيّه على صدغيه. زأر.. صرخ.. هرع يسكب الماء على عنقه وأطرافه… ثمّ هبّ يترك المكان ينفخ الرّيح في ثوبه ليذوب في أزقة المدينة.لا مفرّ مني .. ها أني أنسيك مذاق الغفوة وراحة النعاس..
كان يتقلّب مع تقدّم الليل حتى ظهور الخيط الأبيض ليمضي ويسعى مثل حيّة مهدودة على خطى الضّوء وما نعمت أجفانه بغفوة .. وحين ترتاح به الخطى، تتجلّى له صورة وجهي عملاقة صارخة، تطالعه حيث ما ولّى وجهه… يصرخ ويسبّ ثم تهبّ شياطينه تؤازره وتشدّ متنه وتسند خطاه ..
قررت أن أتسلّل إلى قلبه لأشهد اختلاجات نبضه وما يواكبها من أحاسيس، وهل ترفّ في بقعة ما من سويداء تلك العضلة ببارق عطف ورحمة، لا أتصوّر أنّ الخالق قد سوّى كائنا بشريّا لا يبضّ منه إحساس رحيم، ولو بنزر ضئيل.. وفي أقصى الحالات برفّة ندم. أيمكن أن يقدح في داخله قبس ندم يا ترى؟
ظللت في موضع جّواني منه، ولم أظفر بما كنت أبحث حتّى عِفْتُ سواد طويّته..
لم تستو لديّ فكرة القضاء عليه بعد… كنت أطلب تعذيبه أوّلا، فقد دنا من الخبل جرّاء عبثي بدواليبه الداخليّة وعدم النّوم… لكنّه يعود في كل مرّة مثل حصان.
حصان أو مارد حتّى … سأتلفه.. خصوصا أني عرفت أنّ ضحاياه كثّر.. وهو سادر في غيّه … سأجعله يكتوي بسوامير نار لا قبل له بها ولا حول لشياطينه عليها ولا قوّة.. تكويه وتشويه شريانا شريانا ولا دفق رحيم يطفئها..
خطر لي أنّ لا شيء يحقّق ذلك سوى الضّمير.. أجل الضّمير.. تلك القوّة الحاضرة
والغائبة، والتي تسجّل حضورها عند بني البشر بمدى يقظتها وسباتها… اندسّ بين الناس ذاك اليوم الفاصل ويده سوداء مثل دواخله… سوداء كغرابيب الموت الزؤام. كان يسعى بين حراك الناس يأكل ويتحدث، يصرخ ويضحك، ينافق ويحتال، يكذب ويلبّي داعي شيطانه ويأثم. رأيته في فوضى الوقت والنّاس يخترق الحرمات ويكسر جدار طمأنينة تستظلّه عجوز وصبيّة. رأيت الفزع يتدفّق من أعينهما والصراخ ينكتم في مجرى الرّيق والنفس .. هالتني دموع العجوز تشدّ إليها الصبيّة لتذود عنها شرّا معلنا..
رأيت حينها كل من عرفت من النساء والصبايا والبنات، قريبات ومعارف، ومن صادفت في حياتي الأخرى.. رأيتهن في عيني العجوز، والوحش الكريه يمشي نحوها، عيناه على الصبيّة، مشية من يتقدم نحو فريسة ليس لديها منفذ فرار… مشية المعتزم جرما وإفكا.. رأيت دموع أمي لآلئ سوداء… وسرب غرابيب سود تنعق في فضاء الغرفة العارية من نسمات أمان… رأيت الأعاصير المدمّرة تدنو من أركان ذلك البيت القصيّ.
ابتلعت الصبيّة والعجوز صوتيهما، وغاصت الصرخة في دهاليز الفزع..
الآن.. الآن.. على الكتلة الهلامية أو الضوئية أو الضبابية أو الشبحية التي هي أنا، والتي لا أدري موضعها من الوصف أن تستجمع كلّ ما أوتيت من قوّة خارقة، فقد حان أوان القصاص.
رأيتني أمرق عبر حلق الوحش لأتموضع في مفترق القصبة والرّئتين، وقد حالت كتلتي الهيوليّة إلى صلب من نار وحديد بحجم رواق الأنفاس، في معبر الشّهيق والزّفير… شعرت بالجسد يهتزّ وينتفض .. يقع أرضا ويتمرّغ، يطلب الصّرخة ولا يقدر.. يخبط صدره ويشدّ جلدة عنقه يمطّطها كمن يبحث عن منفذ للهواء… وفي ما تصبح لحظات المحتضر دهرا من زمن آبق، ينكسر الضوء في العينين الجاحظتين وتزبد الشفاه رغوة بيضاء، وتنشب المخالب في لحمة العنق… تكسو الزرقة أنسجة الجلد وتتصلّب الشرايين والأطراف.. تهمد حركات الجسد ليتخلّى عنه الرّمق الأخير، فيخرّ عند عتبات البيت القصيّ الذي انتهك حرماته منذ قليل.
رأيت أمي تزغرد، ورأيتني عند موضع سقوط جسدي، تنعكس أشعة الشمس على
خيط أحمر لم تبتلعه الرّمال ولم تطلسه الرياح.
سأعود إلى تلافيف دماغه والنبش عن القوة الخامدة التي تكلّست تحت طبقات الشرّ..
سأواجه تلك التكلسات الصلبة، وسأوقظ الضمير الخامد.. سأرفع عنه كلكل النعاس، وأخلّص المارد من القمقم ليهبّ في الصدر وينفح ناره على جذوع الشرّ ليستأصلها من تربتها العفنة، ويطهّر الطينة التي غزاها عشب الحقد وأزهار الشر ليهطل الندم مدرارا.. سيهتاج الندم في أصقاع ذاته ويسكن كل ذرّة من كيانه، وسيكون في ذلك عذاب غريمي.
عذاب وأي عذاب.. كان يمكن أن يحدث ذلك لو أني فقط عثرت على ضمير.


* مسعودة بو بكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى