د. مصطفى أحمد علي - فنّة في الدهر... حزّة واحدة.

من الدارج في عربية سودان وادي النيل قولهم: "فنّة في الدهر"، تعبيراً عن الندرة، فالأمر يحدث "فنّة في الدهر" وفلان يزور فنّة في الدهر وفنّة في العمر وفنّة من السنة".
وذكر عون الشريف في (قاموس اللهجة العامّية في السودان): " الفنّة المدّة من الدهر كالفينة تقول: يجينا فنّة من السنة، أي قليلاً".
وذكر الشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير في (كتاب العربية في السودان): " الفنّة الساعة. تقول السودان: "فلان يجينا فنّة من السنة، أي قليلاً.
وبدا لي أنّ التعبير مع شيوعه وذيوعه في دارجة سودان وادي النيل، تكاد لا تعرفه معاجم الفصحى، فيما عدا ما ورد في لسان العرب عن أن " العرب تقول: كنت بحال كذا وكذا فنّة من الدهر وفينة من الدهر وضربة من الدهر، أي طرفاً من الدهر"، وفي المعجم الرائد: "الفنة المرّة من فن، والساعة، والطرف أو المدّة من الدهر".
وعلى خلاف فنّة، فقد كُتب الذيوع للفظ "فينة" وعُنيت معاجم الفصحى بتعريفه، ففي لسان العرب: الفينة: الحين، وحكى الفارسي عن أبي زيد: لقيته فينة، والفينة بعد الفينة، وفي الفينة...وفي الحديث: "ما من مولود إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد الفينة"، أي الحين بعد الحين، والساعة بعد الساعة.". وفي القاموس المحيط: "فانَ يفينُ جاء...وفينة: الساعة والحين، يقال لقيته الفينة، ولقيته فينة."، ولا يكاد يخلو معجم من معاجم الفصحى قديمها وحديثها، من هذه المادّة.
ولم أعرف على طول تتبّعي للهجات العربية في المشرق والمغرب، وجوداً للفظ "فنّة" في قواميسها المكتوبة والمنطوقة، والله أعلم.
ثم" إني تذكّرت لفظاً كان يجري على لسان خميسة بنت عبد الرجال، الهبّانية، من نواحي الكلكة في جنوب دارفور، ألا وهو"حزّة". تقول رحمها الله: فعلت الشيء "حزّة واحدة" أي مرّة واحدة وفي الوقت نفسه. والراجح عندي أن عبارة "حزّة واحدة"، ذائعة في عربيات نطاق البقارة الممتدّ من النيل الأبيض إلى بحيرة تشاد، وإن غابت عن عربيات وادي النيل، فلم يورد لها ذكراً الشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير في كتابه، الذي يضيق نطاق اهتمامه فلا يتّسع لغير لهجات السودان النيلي، بينما أوردها عون الشريف في قاموسه الأوسع نطاقاً فقال: " والحزّة الوقت والساعة، نقول جاء فلان ديك الحزّة، أي تلك الساعة، وهي عربية. قال الهذلي:
فرميت فوق ملاءة محبوكة
وأبنت للأشهاد حزّة أدّعي
أي ساعة أدّعي.
نعم. الكلمة عربية، ولئن كانت على الأرجح غائبة في قواميس اللهجات العربية المنطوقة والمكتوبة في المشرق والمغرب، فهي حاضرة في معاجم الفصحى القديمة والحديثة. ورد في لسان العرب: " الحزّ الحين والوقت، قال أبوذؤيب:
حتى إذا حززت مياه رزونه
وبأي حزّ ملاوة يتقطع
أي بأي حين من الدهر. والحزّة الساعة؛ يقال: أي حزّة أتيتني قضيتُ حقّك". وأنشد: وأبنتُ للأشهاد حزّة أدّعي. أي أبنت لهم قولي حين ادّعيت إلى قومي فقلت: أنا فلان بن فلان"
وفي القاموس المحيط: " الحزّ القطع كالاحتزاز والفرض في الشيء والحين والوقت.
وبعد، فلئن غابت هذه الألفاظ والعبارات العربية عن قواميس اللهجات العربية وعن دارج الفصحى في زماننا هذا، فإنها لم تزل حيّة، نابضة الشعور، ذائعة الاستعمال في دوارج السودانين الأوسط والشرقي، وعلى تخوم خط الاستواء.
ألا رحم الله خميسة بنت عبد الرجال، الشيبونية الهبّانية الفصيحة، وأكرم وفادتها، وأمطر مرقدها سحائب عفوه ورضوانه.


د. مصطفى أحمد علي
الرباط، 6 يونيو 2020م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى