أحمد بنميمون - مسألة وقت.. قصة قصيرة

تسمَّرتَ مُنبهراً وأنت تكتشف وقفتك على ضفة هذا نهر لا تدري لم اسماً ولا موقعاً، كما أنك لا تدري متى وصلت إلى هذا المكان ولا تعلم شيئاً عن مدة استغراقك في تأمل هذا النهر الذي كانت مياهه تغزر وتعم فتهدرحيناً ، ثم تقل حتى تكاد تنضب، فما بين ارتواء عام وظمإ يكاد تجف من آثاره خضرة نباتات الضفتين، عشتَ زمنا لا تدرك معنى ارتواء أو تأثيراً للعطش، كما تعرفه جهات أخرى من بلادك المترامية الحدود والسواحل، تتنبَّهُ الآن فتشرع في تأمل حدود ذاتك، بدءا من رأسك ووجهك،وصولاإلى جذعك وسائر أطرافك، وكانك ترى كل ذلك لأول مرة ، بل وكأن رؤيتك لكل الأشياء من حولك ،بعد استفاقتك مما لا تعرف ماذا كان، أتخديراً أم سكراً أم موتاً خاصاً،كما لا تدري شيئاً عن حالتك الجديدة:أشروع جديد في حياة بعد نشور، أم بعثُ بعد موتٍ، بل إنك تكاد تصرخ:
ـ من أتى بي إلى هذا العالم؟وكيف؟ ومن أحاطني إلى درجة الإغراق ، بأشياء لا أعرف عنها إلا أنني كنت أستعمل بعضها في حياتي السابقة قبل استفاقتي هذه؟ بل إنني أكاد لا أعرف من ألبسني ما أرتديه ألآن ، ومن وضع في قدمي هذا الحذاء، ودفع بي إلى الوقوف على هذه الضفة التي جرى ماء كثير أمامها ، فالنهر الذي أرى ليس مجرد مجرى مائي حديث، بل إن هذه المياه التي تمر أمامي الآن قد حفرت مجراها، منحدرت في قوة عرت الصخر حتى أصبح ملساء منذ أزمان سحيقة، بل إن بعض حجارة هذا الوادي قد تآكل تحت استمرار اندفاعها في انهمار شديد، يحدث أيضاً هديراً زائداً.
***
تدهشك الأشياء دهشة الذهن الخالي المتطلع في رغبة حارقة إلى اكتشاف الكائنات. لكن ألك أن تعرف من أين جئت؟ وأين كنت قبل اللحظة ؟ أكنت مع سائمة ضالة أم مع بشر بدو أم مدنيين؟ هل تستطيع أن تحدد ملامح عالم أو أحوالك التي كنت عليها قبل استفاقتك ؟
***
إنك لم تكن قطعاً في ظلمة واحدة ولا ظلمات ثلاث، رغم أن استفاقتك الآن لا تنقصها إلا صرخة لتكون ولادة جديدة، وتكون أنت الطفل، لا الراشد بحكم السن لا العقل، فصحوتك هذه إذن ليست اكتشافاً لزمان أو مكان، بل صحوة في الوعي وتفتح إدراك،فقد كنت ترى ولا تعي ، وتحس ولا تعرف، لكن ها أنتذا تكتشف أن خطوتك اللاحقة لن تسير بك إلا إلى مزيد من الحيرة والأسئلة ، فلن يقر لك قرار، فاحذر فقد لا تصدمك الصخور القريبة التي تراها ويسهل عليك أن تتنكبها، بل عليك أن تتنبه إلى ما قد يصدمك من رؤوس لم تتعود أن تتساءل مع كل خطوة تخطوها ، وكل مسألة تطرحها ، بل ويجب أن تطرحها أ،ت وهي ،منذ الآن. إذن، ها أنتذا موجود في عالم قائم بالرغم منك،أنت والعالم أحدكما ـ كما يبدو ـ موجود بالرغم من الآخر.أفتكون أنت الموجود بالرغم من هذا العالم؟ليس فيك ـ في مظهرك على الأقل ـ ما لا يتوافق أو يتواءم معه،لكن في هذا العالم كل ما لا يوافقك ، كما أن فيه الكثير مما لايوائمك، بدءاص من ظواهرة الطبيعية التي تسعى إلى أن تتفوق على نفسك ، حتى تتغلب عليها،قد يكون هذا الأمر مفهوماً،لا شك عندك أن كثيرين يدركونه، فليس من الناس من لم يفر من الحرور إلى الظل، ومن الشمس إلى الليل، فلا يزعج غروب الشمس جميع البشر،ولا يخيف الظلام إلا القليلين،ولا يرغب في إضاءة هذا العالم إلا الضعفاء، وأنت أحد هؤلاء الذين تعلقوا لضعف بادٍ فيهم بالضوء والنور،والطمأنينة التي تراقص الظلال على الآنهار ، ولم تتصور يوماً أن تستريح إلى احتمال جفاف ما حولك، بل إن سعادتك كما تتخيل الأمر عند جميع الناس،لتعظم كلما جرت الأنهار دافقة بغزارة زائدة من حولك ومن تحتك، وإن كنت لم تجرب أن تدنو لحظة مما تخزنه هذا السدود الكبيرة بأية صفة، لترى من يملك حقاً هذا الماء، لأنك لا تفكر إلا فيما يستحثك على الاقتراب من الإيمان بغير أساس مادي تختبر معه أن هذا الزخم من مشاعر الخير الذي يملأك إنما هو زخم وهمي، لأنه عندك دون أن يكون له مثيل عند غيرك، فأنت تحب عالما يعمُّه في جانبه الغالب المسيطر الشرُّ و احتمال الشر ، لو تهيمن عليه قوى الشر اللامحدود. أنت إذن موجود في عالم رغم أنف العالم ، وكأن الخلاص منك ، ومن أمثالك، مسألة وقت،أجندا مؤجلة إلى حين،ولا ينفع أو يشفع لك أن تمتليء نفسك بالحب له، والرغبة فب الحياة والسكينى فيه ، دون أن يفهم أن ذلك ليس منك ليس أكثر من موقف استسلامي، بل غن كل ذلك لا يؤثر فيه ، مادام هذا العالم يسبه الجرافة التي ترهق الجميع ، وتطحن كل من تدركه جنازيرها فتدوسه أقدامها الحديد. فهذا العالم لم يصبح فجأة هكذا،بكل ما يعاديك فيه، بل وبكل احتمالات إلغائك ، قتلك فموتك وانسحابك منه إذا لم تستطع أداء واجبات إقامتك فيه، فأنت لا توجد في أي مكان فيه إلا بعد أن تكون قد أديت واجب الإقامة فيه شراء أو كراء أو احتلالاً بالقوة ، قد يكون غيرك قد أداه عنك،واتسحابك منه إنما يعني خروجاًمن حياة حينما لا يتكون قادراً على على التاثير فيه ، في حاضره أم في حركة مستقبله، فشبيه بماضيك مستقبلك فيه، أنت الضعيف الشفيف، الخائف الشفيق،كثير الضعف حتى أمام انفجارات الشمس، أو تاي تصدع ولو في أبعد المجرات، بل كثيراً ما لاحظت أن اشخاصاً جميلين شعراء وفنانين وبسراً عاديين، كان الحب وأحلام الخير والحق والعدل والجمال والذعر من أهوال أوهام تملأ عليهم أنفسهم، ورغم ذلك قتلهم هذا العالم ببرود كريه، ولا مبالاة بليدة لا تصح نسبتها إلى أي نوع من الذكاء، فهو قتل من طبيعة الأشياء ومن عادة الطبيعة التي تتخلى كما أكد علماؤها عن الأضعف في آخر الأحوال،دون أن يكون في الأمر منطق صدفة أو غياب غير مقصود، فقتلهم بالأخرى لم يكن قسوة من هذا العالم الغريب،الذي بني على أساس احترام القوي، فلذلك يتساوى عنده أن تطعن آلة الموت فيه الشيخ أم الطفل، والشجرة السامقة أم الوردة الرائقة ، فائقة الفتنة والرواء، أو أن تعصف الريح المدمرة فيه بكل مخلوق جميل، فلا ينفع أن تحبه أو أن تكرهه، فحتى شمسه أم نجومه الشوابك، التي تبدو كما لو أنها أجمل مافيه، إنما هي مجرد كتلة هائلة من نار تضيء، وتملك من القسوة أن تضرب فتقتل على بعد ملايين الأميال، وهي لا تضرب غير الإنسان الضعيف في الصميم، ثم إن من مفارقاتها اغير المعقولة أنها رغم ذلك لا يمكن أن تكون للإنسان حياة بدونها، أو أن تقوم قائمة لأي حي في هذه العالم الغريب. فانظر ماذا يحدث وأنت في الليل الآن،وقد أدار هذا الكوكب الأرضي ظهره للشمس، فاستراحت الأشياء في طمانينة إلى هدوء ظلمة تغطيه وتغطيها،أليس من الحق أن الظلام أرحم لولا غرائز قتل تتحرك في الكائنات ، ولا سبيل إلى الحماية منها تحت الظلمات إلا أمام الأقوى والأقدر، فماذا يقدر أن يأتيه ضعيف في هذا الكون أمام عين الشمس أو تحت خيمة الليل البهيم؟ ألا ترى كيف نخدع بالأضواء حين نرى انفجارات نحسبها اصطناعية أو نيراناً صديقة، بينا هي أشد تدميراً من أية عتمة عاطفة حانية؟
***
فلتمض في الأرض ، ولتضرب في مناكبها، ولتحاول أن توجد لنفسك ما يحفظ لك ما تأخذ به حقوقك من كل ضوء فيها، إذا أشرقت الأوانها المخاتلة أو تراقصت أطيافها الخادعة. فإذا رفعت الشمس أحمرها،فلا ترفع البياض في وجهها يسقطْ فيه وجهُكَ، بل اتخذ من خيمة الظلام حرمك الآمن، ولا تأمن أو تطلب رحمة ممن لا يستأمنون. فما كل ظلام مامون الجانب، كيف ذلك وليس مثله حضناً يؤوي كل سفاح غاشم.

***
أنا ... يا متاهتي التي بلا نهاية ، ويا طريقي التي بلا آخر، إلا أن يكون سقوطي بين فكي من يفترسني وأنا أنظر إلى عينيه، يا لعذاب رؤى طريدة وهي تشهد سقوطها بين براثن من سوف يأخذ على الفور بخناقها، فيقطِّعَها أشلاءً ويمزقها شر ممزق، ما ذا يرى الظبي وهو يسابق الريح فراراً من قبضة قويٍّ لا يريد به خيراً إلا لنفسه؟ لكن ما أعقد النفس البشرية حين تستعذب الألم،فترتاح إلى وحشية من يتحرش بها طلباً لمتعة عابرة، فقد تشبع لحم الضحية جوع مغتصبها لكنه سرعان ما ينساها مع شبوب جوع آخر. ويا لهؤلاء الذين لمعت في عيونهم الشهوات، وقد سمعوا صوت استغاثاتي، فقد اكتشفوا أن كوني صوتاً يستحق أن تسطر في شأنه قوانين تحثني على عدم الصمت وقت يريدون، وتقمعني حين أحاول رفع صوتي إذا اأردت أن اصرخ بما لا يرغبون.

***
فها هي دساتيرهم تجتهد لكتم صرخاتي كما اجتهدت الصناعات في كتمان صوت النار أو إعلانه أنى يشاؤون.
وها أنذا قد قررت صداقة الظلمة ، حتى حين تقيدني كأي سجين.
***
أفاق (س) ليجد نفسه سجين فضاء، أم طليقاً لكن في قيد حالة لم يعثر له على مخرج منها،وليتأكد له أن هناك دينين لا ثالث لهما : دين َحب ودينَ كراهية ليس غير، فأتباع هذا الأخير ينشَّأون ـ منذ عهود ـ على خوف دفين واحتقار الآخر وكراهيته وضرورة الانتقام منه، وسن شرائع لاستغلاله أبشع استغلال بزرع الخشية والتوجس منه، ومن كلمجهول يتوقعونه باستمرار ، أما أنصار الأول فيربون على حب الحياة وعناق جميع أبناء الحياة ، دون أن تأمرهم أنفسهم بغير التسامح وعدم الانتقام من أحد، ولو كان مذنباً، بيِّنَ الضلال في الآخرين.

20.05.2015

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من المجموعة القصصية الثانية للكاتب (حومة الشوْك) الصادرة أخيراً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى