عادل الأسطة - "شكرا حيفا".. ( جزء ثان عن حيفا)

في حيفا تتذكر ما كانت تقوله والدة الشاعر أحمد دحبور لابنها في مخيمات اللجوء الفلسطينية حين كان الابن يعبر للأم عن سخطه من بؤس واقعه.
كانت الأم تقول للطفل: "أجمل الدنيا هناك "وتخفف من شعوره بالمعاناة بوعد عن مستقبل أفضل.
ولم يكن الشاعر راشد حسين يرى في نيويورك جنة الدنيا-كما يراها المتحدثون معه-،لم يكن يرى نيويورك أجمل من حيفا، فكتب:
"أتيت الطب في نيويورك
أطلب منه مستشفى،
فقالوا: "أنت مجنون ولن يشفى،
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا"
وفي حيفا تعبر عن مشاعرك للشاعر عبد الناصر صالح قائلا: إنني لو خيرت بين زيارة أية عاصمة عالمية وبين زيارة أية مدينة فلسطينية في فلسطين 1948 لاخترت زيارة حيفا أو يافا أو عكا.
ومع أنني لم أتفق مع سطر الشاعر محمود درويش في "جدارية":
"عكا أجمل المدن القديمة"
لأسباب منطقية إلا أنني أجد العذر لأي فلسطيني يرى في مدن بلده أجمل مدن الدنيا، وهذا ببساطة تعبير عن حب المرء لبلاده.
كان علي أن ألبي دعوة نادي حيفا الثقافي للاحتفال بي كاتبا فلسطينيا على الرغم من أنني أتوجس من السفر عبر المعابر والحواجز وأشعر بالضعة والمهانة والهزيمة معا.
أن أزور حيفا أو يافا أو عكا فهذا يعني لي الكثير ويدخل الفرح إلى قلبي، إذ سرعان ما أنسى، وأنا هناك، المعابر والمذلة والمهانة والهزيمة.إنها المدن التي ربينا على حبها والتطلع إليها واعتبارها مدننا الأولى وحقنا السليب: في الطفولة من كلام الآباء والأمهات والأجداد والجدات، ومن معلمي الصفوف المدرسية الأولى ومن قصائد الشعراء التي علمناها.
والاحتفال بي كاتبا فلسطينيا في فلسطين وفي حيفا حدث يفرحني لا شك، ولكن ما يفرحني أيضا هو السير في شوارع المدينة ورؤية البحر والإصغاء إلى الناس الذين بقوا ليقولوا لنا ما قاله الشاعر أحمد دحبور:
"بلغي دمعة أمي
أن حيفا لم تزل حيفا "
وحيفا لم تزل حيفا.
في أثناء استقبال المحامي فؤاد نقارة لنا؛ أنا والشاعر عبد الناصر صالح وزوجته، تناولنا طعام الغداء في مطعم على شاطيء البحر في منطقة وادي الجمال -إن لم تخني الذاكرة- وهناك أشار مستقبلنا إلى منزل الشاعر اللبناني وديع البستاني الذي أقام في فلسطين وظل فيها حتى العام 1951، وهو صاحب ديوان "فلسطينيات "المعروف، وله في الدراسات الأدبية الفلسطينية شأن يذكر، وهو القائل: "
أجل عيسوي؛ إسألوا الأمس والغدا/
ولكن عروبي يحب محمدا "
وهو الذي رد على الشاعر العراقي ،معروف الرصافي، -الذي حضر حفل افتتاح الجامعة العبرية بحضور المندوب السامي البريطاني الصهيوني (هربرت صموئيل )، وأشار إلى صلة العمومية بين العرب واليهود،- رد عليه موضحا :
"أجل عابر الأردن كان ابن عمنا/
ولكننا نرتاب في عابر البحر"
وحكاية الشاعر وديع البستاني تطول عموما، وهي حكاية مؤثرة ولافتة.
هل أذهب بعد تناول الغداء إلى الفندق أستريح أم أذهب إلى وسط المدينة أتجول فيها؟
آثر الشاعر عبد الناصر صالح وزوجته الذهاب إلى النزل/ بيت الضيافة للاستراحة من السفر، واخترت أن أذهب مع المحامي حسن عبادي إلى وسط حيفا.
في سوق الخضار والفواكه عرفني حسن عبادي إلى أم الياس وابنها اليأس وأبو زعبي وآخرين، ولم نتمكن من زيارة مكاتب جريدة الاتحاد لانشغال الكاتب هشام نفاع وارتباطاته في أماكن أخرى.
قبل العام 1983 كنت أزور مكاتب جريدة الاتحاد بين فترة وفترة وأتذكر الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)وظل سوق الخضار والفواكه في الذاكرة وظل منظر السمك الطازج المصطاد صباحا حاضرا في الذاكرة.
كان الوقت عصرا ويبدو أن الناس تبضعت مبكرا، فلم يكن السوق مكتظا ولم يكن السمك الطازج معروضا علنا للبيع.
تحدثنا مع أم الياس بلهجتها الحيفاوية التي ذكرتني بلهجة أم وليد ياسين وأم فايز عبد الجواد من مخيم عسكر ومن حيفا من قبل، وأخرجت لي أم الياس عدد الجريدة الذي كتب فيه حسن عبادي عنها. كانت أم الياس ترتب أوراق السبانخ وتفرز الأخضر منها من الذابل، وكانت إلى جانبها امرأة خمسينية تدخن سيجارتها،وطلبت أم الياس من ابنها أن يضيفنا وأن يطعمنا من الفواكه المعروضة. نظرت إلى الفواكه والخضار المعروضة فلاحظت لأول مرة الباذنجان والكوسا المحفورتين المعدتين للحشو. سألت أم الياس إن كانت تفعل هذا باستمرار فأجابت: "نعم، ونجهزه للنساء العاملات "،وما لاحظته في حيفا بهذا الخصوص لم ألاحظه في نابلس أو في عمان.
سأل حسن عن الزيتون المهيأ له، وأخذنا نتمشى في الشارع نفسه وتفرعاته وتوقفنا مطولا أمام بيت أشار إليه: "هذا هو بيت الشاعر أحمد دحبور ".
الصورة التي رأيتها من قبل للشاعر أحمد دحبور في مدينته التي ولد فيها هي صورته أمام فرن أبيه.
ومع أن سميح القاسم ومحمود درويش واميل حبيبي أقاموا في حيفا وكتبوا عنها وظهرت في نصوصهم، ومع أن عبارة اميل حبيبي "باق في حيفا "صارت أيقونة تقريبا، إلا أن لعلاقة أحمد دحبور بحيفا معنى آخر. إنها علاقة المنفي وأهله قسرا بوطنهم، وهذا ما لفت نظري في أشعاره فكتبت غير مرة في الموضوع.
حسن عبادي محام ميسور الحال ومثله المحامي فؤاد نقارة وكلاهما شغوف بالأدب لدرجة الوله والعشق. ومنذ سنوات قليلة أخذ حسن يكتب وآثر فؤاد القراءة التي فضل أن يستمتع بها وألا تشغله الكتابة عنها. ولأن حسن ميسور الحال فقد كان كريما في الحركة واصطحبني إلى الكرمل وأنفقنا ساعة نتأمل فيها البحر الأبيض المتوسط من هناك، قرب بيته الذي يملكه، قبل أن يعيدني إلى النزل المقابل للشاطيء، لأستريح قليلا قبل ابتداء الأمسية.
أنظر من غرفتي في النزل إلى البحر وأستعيد شعرا للشاعر العراقي سعدي يوسف:
"للبحر أنت تعود مرتبكا
والعمر تنشره وتطويه
لو كنت تعرف كل ما فيه
لمشيت فوق مياهه ملكا "
لم أكترث كثيرا لغرفة النزل ولم أتأملها جيدا إلا في الصباح وللأمر قصة تطول.
في الأمسية التقيت بالشاعر حنا أبو حنا الذي التقيت به أول مرة في جامعة بيت لحم في العام 2007 ومن يومها وأنا أشعر بتقصير نحوه.انسان خلوق دمث قدم خدمة كبيرة للحركة الأدبية الفلسطينية وما زال، على الرغم من أنه بلغ التسعين، يواظب على حضور الأمسيات ويشارك في النشاط فيها.
كان الحضور حقا رائعا وكم سررت حين رحب بي السيد جريس خوري قائلا: "أهلا بك في حيفا ".
بعد الأمسية رأيت حيفا، لأول مرة، في الليل.
عندما درست اللغة الألمانية في مدينة (فرايبورغ )جنوب ألمانيا، اصطحبنا الألمان إلى مدينة ساحرة حقا تقع في الغابة السوداء. كما لو أنها مدينة الأحلام. في حيفا ليلا تذكرت تلك المدينة ولم أر حيفا أقل جمالا. كانت حيفا مدينة ساحرة. الأضواء والحركة في شارع الحدائق البهائية شيء مذهل، والمذهل أيضا هو حب أهل حيفا الحياة. سهرنا في المطعم حتى الثانية عشرة والنصف وغادرناه والمدينة ما زالت تحتفل بالحياة.
في الصباح أنظر إلى البحر فأتذكر عكا .مرة في 1979 نمت في بيت على الشاطيء وصحوت على أصوات الأمواج. يقول لي حسن ونحن أمام بيته في الكرمل: "لا أنام ليلا إلا وأنا أحتسي كأس نبيذ أتأمل البحر".
أغسل وجهي وأشرب النسكفيه ولا أجد زوج الجرابات. كأن حورية البحر تسللت إلى غرفتي وراق لها. (كانت الغرفة التي أقمت فيها واحدة من اثنتين لهما مدخل واحد. بدت الثانية مقفلة لا أحد فيها ولم أغلق باب غرفتي، فلم يكن في الباب مفتاح أصلا. هل كنت مستغرقا في النوم حين تسللت الحورية؟ وترحمت على حورية والدة الشاعر محمود درويش وتذكرت بعض تعاليمها: "واحمل عبء قلبك وحده/ ولا تصدق امرأة سواي/ و...وتزوج اية امرأة من الغرباء) ونسيت القصة كلها. خربشت بعض خربشات على قصاصات ورق وتناسيتها قصدا، وغادرت الغرفة أتأمل النزل، فالتقيت بشاب إيراني من البهائيين يشرب قهوته على باب الجناح الذي استأجره له ولوالده البالغ من العمر 92 عاما.
تحدثت والشاب عن البهائيين وعن إتقانه العربية فأخبرني أنه عمل في حيفا قبل 25 عاما مدة 4 سنوات وأنه يصطحب والده في زيارة، وأوضح لي أن البهائية ديانة وليس البهائيون طائفة، ونفى أن الواحد منهم يدفع كل صباح دولارا. قال لي هذه إشاعات ونصحني بألا آخذ معلوماتي من أفراد، بل بالبحث في محرك غوغل.
وأنا أتناول طعام الإفطار مع الشاعر عبد الناصر آثرت عدم الحديث عن الحورية التي زارت غرفتي ليلا وأخذت الجرابات. صارت الحكاية مملة وصار التكرار لعبة ولم يتعلم الحمير.
صاحب النزل هو أبو جورج لطيف طيب المعشر أحضر البيتزا بالزعتر وسمبوسك من إعداد يدي زوجته أم جورج وذكرني ابنه السمين جدا ببعض أشخاص رأيتهم مرة أو عرفتهم. ومنذ فترة صارت اللعبة مملة وصارت الحكاية مملة وفقدت الكلمات تأثيرها وفعلها. صرت مثل سيزيف منذ سنوات واعتدت على حمل الصخرة.
***************
حيفا صباح الجمعة تبدو هادئة تماما أو هكذا خيل إلي.
أقلنا المحامي حسن عبادي إلى المدينة ليعود بنا إلى طولكرم، ولكنه عرج على مكتبة "كل شيء "لصالح عباسي حتى يحضر لي نسخة من كتاب الشاعر أحمد حسين "رسائل إلى محمود درويش "2012 ،فما زال محمود حاضرا ويحضر أكثر كلما أشير إلى كتابي عن ظاهرة الحذف والتغيير في أشعاره، وقد كان كتابي موضوعا من موضوعات الأمسية. وتذكرك مكتبة "كل شيء"بالمكتبات الكبيرة في العواصم العربية، ولم يكن ثمة مكتبات مثلها في حيفا قبل أربعين، بل قبل ثلاثين عاما. وإذا ما قارن المرء واقع الكتاب العربي في المدينة الآن بما كان عليه بعد نكبة 1948 وحتى 1994 تقريبا يلحظ اختلافا كبيرا.
كانت الكتب العربية إثر النكبة نادرة والآن تتوفر بكثرة. استيراد وطباعة أنيقة و...وحيفا صار عدد سكانها العرب 50 ألفا وأكثر. كان عدد سكانها قبل 1948 حوالي 75 ألفا هجروا ولم يبق منهم في أيار 1948 إلا بضعة آلاف أبقى الإسرائيليون عليهم، كما ورد في كتاب (ايلان بابيه)"التطهير العرقي "حتى يقوموا بتنظيف الشوارع وخبز الخبز والعمل في المطاعم. كانت الحاجة إليهم ملحة فلم يطردهم (بن غوريون)بناء على توصية قائد القوات التي احتلت المدينة.
يقترح عبد الناصر صالح على حسن أن يريه حارة الغزازوة. لقد سمع عنها وطلب منه بعض معارفه أن يلتقط لها بعض الصور.
كان بعض أهل غزة قبل النكبة وفدوا مثل نابلسيين وحورانيبن وسوريين إلى المدينة التي بدأت تزدهر وتحل اقتصاديا محل يافا. كان ذلك لسببين رئيسيين كما أسمع هما تأسيس الميناء وإنشاء الرفانيري- محطة تصدير البترول.
في قمة السفح، أسفل الحليصة التي ورد ذكرها في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا "1969 التقينا بحيفاوي أخذ يشرح لنا عن المنطقة والمباني. أشار إلى قسم من بناية وقال:
-هذا هو كل ما تبقى من حارة الغزازوة، وأما المباني كلها فقد أقيمت بعد العام 1948. كان الرجل مرحا وبسيطا واكتسب من التجارب حكمة. كما لو أنه رأى أننا نبحث عما لا يبحث عنه. كل شيء تغير وطلاب اليوم لا يعرفون التاريخ ولا يريدون أن يعرفوا. هل كان يسخر من المناهج والمدارس والتعليم؟ هل كان يسخر ممن يقف على الأطلال؟
كنا نقف على أطلال حيفا 1948 وكنت استرجع وصف غسان كنفاني للمدينة وبعض ما ورد في رواية "اخطية "1985 لاميل حبيبي التي هي حنين ابن حيفا إلى حيفا قبل قيام الدولة .حنين اميل إلى طفولته وإلى المدينة في الزمان العربي لها.
المنظر جميل وأخاذ والحسرة في القلب تعيدك إلى قصيدة أحمد دحبور "مسافر مقيم"1997 وإلى حسرته على مدينته التي ولد فيها وهجر منها وهو ابن عامين وظل يحن إليها ويتأمل في العودة إليها ولكنه عاد إليها زائرا لا مقيما "وصلتها ولم أعد إليها/ يا حسرتها علي أم يا حسرتي عليها".وفي حيفا تترحم على الشاعر وأمه ....
يسترجع عبد الناصر صالح سيرة أبيه مرارا. يسترجع نضاله ضد الانتداب وسجنه في عكا وعلاقته بالثوار. يسترجع سيرة القائد الشهيد عز الدين القسام ويطلب من حسن أن يقلنا إلى المقبرة التي دفن فيها. المقبرة التي دمرت القرية التي تقع فيها "بلد الشيخ "وهجر أهلها ولم يبق شاهدا عليها إلا قبورها/ مقبرتها .
يبحث الشاعر عبد الناصر عن قبر القسام ليقرأ الفاتحة على روح الشهيد الذي رثاه والده بقصيدة ظهرت مؤخرا في ديوان والد عبد الناصر المرحوم محمد علي الصالح "مرافيء العمر"( 2016 ) وبعد جهد نعثر على قبر الشهيد ونلتقط الصور بجانبه. لقد استشهد القسام قبل 83 عاما وما زالت ذكراه حية في ذاكرة أبناء الشعب الفلسطيني الذين ظلوا أوفياء لذكراه ولقبره.
قبل سنوات عبث بعض المتطرفين الصهاينة بالقبر وحطموا جانبا منه، وقد بدا هذا واضحا، ولم يترك الفلسطينيون القبر محطما، فلقد رمموا ما عاث به المتطرفون ووضعوا شاهدا جديدا باديا للعيان. نقرأ الفاتحة على روح الشهيد وبقية الموتى وننظر إلى شجر الدوم المرة ثماره مثل مرارة حياة شعبنا في الضفة وغزةوالشتات ،ومثل مرارة حياة الأجداد في حيفا ويافا واللد في فترة الحكم العسكري من 1948 حتى 1966. كما لو أن الثمر المر بعض منا أو كما لو أن مرارة حياتنا انتقلت الى مرارة ثمر الشجر .
نغادر حيفا وفي القلب غصة ،نغادرها من طريق أعادني إلى ما قبل العام 1982 حيث كنت أزور حيفا باستمرار سالكا طريق نابلس جنين حيفا. كم من عام مر دون أن أرى هذا الطريق؟
قرب قرى المثلث يهطل مطر غزير. نحن الآن في تشرين الثاني وفي التاسع عشر منه تمر الذكرى 83 لاستشهاد القسام.

( جزء ثان عن حيفا

- من كتاب
" مدن في الذاكرة : ما شاهدته العين وروته الذاكرة وقرأته )
19 تشرين الثاني 2018

** (نشرت الجمعة في الأدبيات جريدة "المدينة" في حيفا 23/ 11/2018)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى