مصطفى نصر - المــــــــــأزق.. قصة قصيرة

يعمل منصور سائق أتوبيس، والده " الضانى" كان صاحب محل دراجات، لا يبيعها، إنما يؤجرها. يستأجرها الأولاد منه ليلعبوا بها فى الحوارى المجاورة لدكانه.
جاء أبناء " الضانى" كلهم تخان، لكن منصور كان أكثرهم تخنا، حتى ضاقت المساحة المحددة له كسائق للأتوبيس، فحطم الإطار الألمونيومى ليستطيع الدخول والخروج بحرية.
سبب التخن مشاكل عديدة لمنصور، آخرها عندما مات، فقد وضعوه فى عربة نقل الموتى، وحمد المعزون ربهم لأن الموتى ينقلونهم – الآن – بالسيارات. كانوا فى الماضى يحملونهم فوق خشبة، يحملها أربعة رجال. وعندما يتعبون، يحل محلهم أربعة آخرون، حتى يصلوا إلى المدافن. وإذا ضاق الرجال وتعبوا من حمل الميت يصيحون:" أجيرونا". فيسرع الرجال القريبون منهم بإنقاذهم بحمل الثقل عنهم.
سارت عربة نقل الموتى إلى " عمود السوارى". ثم حملوا الجثمان. حاول اللحاد أخذه منهم ككل ميت يدفنه، لكنه لم يستطع. كاد منصور أن يقع ويرتطم جسده بشواهد القبور الكثيرة جدا هناك، لولا أن أعان الموجودون اللحاد وحملوه عنه. انحنى اللحادون – كانوا كثرة فقد أحسوا بأن العملية – اليوم – ليست سهلة، ولابد من أن يتعاونوا جميعا لإتمامها – حاولوا إدخال الجثمان من الفتحة التى أعدوها من ساعات قليلة، عندما أبلغهم أقرباء منصور بموته، وطلبوا منهم فتح المقبرة، لكن الجثمان لم يدخل.
هذه أول مرة تحدث منذ أن عملوا فى هذه المهنة. تأتى إليهم جثث كثيرة كل يوم فيدخلونها من الفتحات المعدة دون مشقة. لكن هذه المرة الأمر غريب.
لقد ورثوا هذه المهنة عن آبائهم. وآباؤهم لم يحكوا لهم عن مشاكل صادفتهم كهذه. المهم أن اللحاد صاح:
- ذلك القبر لا يصلح، ولو وسعت الفتحة أكثر، سيهدم الشاهد فوقه.
غمغم المعزون وذكروا الله كثيرا. قال قريب لمنصور، صعب عليه أن يجد جثمان قريبه مهانا هكذا:
- تعالوا، لدينا مقبرة كبيرة جدا، تتسع لجسده الكبير.
ضاق اللحادون لهذا. فمقبرة ذلك القريب بعيدة، وتقع فى اختصاص لحادين آخرين، ولا يستطيع هؤلاء التعدى عليهم. هكذا أصول العمل.
وحمل الرجال الجثمان فوق المحفة التى كانت فى عربة نقل الموتى. وسائقها مازال يسير خلفهم فى انتظار أن يجدوا مكانا لذلك الجثمان ليعطوه محفته ليعود بها.
ظلوا رافعين المحفة لأعلى فوق شواهد القبور غير المستوية. حتى عثروا على لحادى هذه المنطقة، جاءوا بهم من بعيد، وعرضوا عليهم المشكلة، فخلعوا ملابسهم النظيفة وارتدى بعضهم ملابس العمل، وعمل البعض الآخر بملابسه الداخلية. ظلوا يحفرون، وصنعوا دخلة للقبر. لكن أكبرهم سنا أدرك أن هذه الفتحة لن تكفى لدخول هذه الجثة الكبيرة، فصاح بأعلى صوته لصاحب المقبرة:
- الفتحة لن تكفى الميت تخين.
- تصرف.
- لا أستطيع، لو حفرت أكثر، سينهدم القبر كله.
نظر الرجل إلى المقبرة فى أسى ولم يرد، فهى مصنوعة من الرخام، وكلفته – هو وأخوته – مبلغا كبيرا. وأحس الذين يحملون المحفة بالتعب، وكادت أصابعهم – التى تمسك مقابض المحفة – أن تتراخى وحدها من شدة الألم، فصاح أحدهم:
- أجيروني.
فأسرع رجل قريب منه وحملها عنه. ولأنه كان قصيرا فقد مالت المحفة ناحيته وكاد الجثمان يقع.
قال أكبرا للحادين سنا بعد أن وجدهم قد حاروا فيما يفعلون:
- سأدلكم على مقبرة مساحتها كبيرة جدا. لكن أصحابها ليسوا من حيكم ولا من أقاربكم.
غمغم أهل الميت، فكيف يدفنون ميتهم فى مقبرة أغراب لا يعرفونهم، ولا يعرفون مسكنهم؟‍ لكن ماذا يفعلون، أيعودون بالجثمان ثانية إلى البيت؟‍
قال رجل عاقل للحاد كبير السن، بعد أن رآهم مترددين:
- وهل سننتظر حتى نأخذ الإذن من أصحاب المقبرة؟
- لا، سيحدث هذا دون علمهم.
تعقدت المشكلة أكثر. فمعنى هذا أن أهل منصور لن يستطيعوا زيارة مقبرته، لا فى " الخمسان" ولا فى الأعياد- كما هو متبع- فإذا جاءوا للزيارة سيكتشف أصحاب المقبرة ما حدث، وربما يرمون بقاياه عن مقبرتهم. لكن الرجل العاقل صاح فى اللحاد:
- أتكل على الله، إكرام الميت دفنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى