مصطفى نصر - صيانة الموهبة وحمايتها

الموهبة هبة ربانية يمنحها الخالق العظيم لمن يختاره ويخصه بها،. بعض الناس يفرطون في هذه الموهبة ولا يصونوها، فتتبدد منهم وتتلاشى.
فقد استمع الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب للمقريء محمد محمود الطبلاوي فأعجب بجمال صوته. لكنه لاحظ أن الشيخ الطبلاوي يقرأ بطريقة رتيبة، فأحس بخبرته وعلمه بأنه في حاجة لدراسة فن الموسيقى والغناء. فاتصل به في بيته، فلم يجده في البيت، فترك له رسالة بأن محمد عبد الوهاب – الموسيقار - يريد أن يتحدث معه في أمور تخصه، كان سينصحه بأشياء كثيرة ليطور صوته، منها دراسته للمقامات الموسيقية، فصوته الجميل في حاجة إليها. لكن الطبلاوي لم يعط للموضوع أهمية، ولم يتصل بالموسيقار الكبير، وتمسك بطريقته الرتيبة في القراءة التي تشبه قراء المدافن في القرى، وعاش طوال حياته يقرأ بهذه الطريقة. لم أكن أعلم أن المقريء يتعب ويكد في الدراسة والتعلم ليصل إلى ما وصل إليه كبار المقرئين المصريين أمثال الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، حتى شاهدت وسمعت لقاءً بين عمار الشريعي والمقريء السكندري الطبيب أحمد نعينع، الذي قال إنه ذهب إلى شيخ في منطقة الشمرلي التابعة لحي بحري بالإسكندرية ليعلمه المقامات وأصول التلاوة، وعندما مات الشيخ أكملت معه الدراسة زوجة الشيخ.
والبعض يحافظ على الموهبة وينميها بالجهد والدراسة. وهناك مواهب محظوظة يجند لها الله شخصيات تحمي الموهبة وترعاها وتصقلها وتنميها.
وأرجوكم، تخيلوا المشهد معي، وعودوا به إلى زمنه القديم، أيام كان الرقص الشرقي من المحرمات في الأسر الراقية والمتوسطة والفقيرة أيضا، وجاءت بدوية من مدينتها الإسماعيلية إلى القاهرة وسميت باسم تحية، ثم أضافوا لاسمها لقب كاريوكا – اسم الرقصة المشهورة التي أجادت رقصها - ماذا سيكون وضع هذه الفتاة، ثقافتها وتصرفاتها؟!
لكن تحية كاريوكا – لحسن حظها، وحظنا أيضا - قابلت شخصية رائعة اسمها سليمان بك نجيب، كان مديرا للأوبرا، وصديقا لأحمد حسنين وكيل الديوان الملكي، وأقرب شخص لفاروق ملك البلاد، كما أن سليمان نجيب كان يجيد لغات كثيرة، ويقدر الفنون.
حتما سليمان نجيب أحب كاريوكا كأنثى جميلة، فعلمها كل شيء، كان المخرج ولي الدين سامح يبحث عن فتاة نغشة، جميلة، تجيد الرقص والغناء، ابنة عازف قانون اسمه إبراهيم نفخو، وأمها عالمة مشهورة اسمها سنية جنح، لفيلمه الأول لعبة الست. وتقرر أن يقوم سليمان نجيب بدور اليهودي إيزاك عنبر صاحب المحلات التجارية. عندما قرأ سليمان نجيب الدور، وجد تحية كاريوكا تتحرك أمامه، فأحس بأنها أنسب من تقوم بهذا الدور، فحدث المخرج ولي الدين سامح عنها، وبفضل سليمان نجيب حققت تحية كاريوكا مجدها على كل المستويات، الفنية والإجتماعية والسياسية.
وهذا ما فعله حسين فوزي – المثقف الراقي - مع نعيمة عاكف التي ولدت في سيرك عاكف، وتركها أبوها هي وأمها وباقي أخوتها، وتزوج من امرأة في السيرك، فكان لابد للفتيات أن يعملن ليعشن، عملت نعيمة عاكف في السيرك، وكانت تحضر الموالد، وبعد انتهاء نمرتها، تمسك " التار " وتطوف بين صفوف المتفرحين، فيضعوا القروش القليلة لها في " التار"
وشاهدها المخرج السينمائي المثقف حسين فوزي في مولد من الموالد، فتاة جميلة، تجيد الرقص الشرقي، وتصنع الأكروبات، وتغني أيضا. اقترب منها، وعرض عليها أن تعمل في السينما، هو الذي علمها كيف تتعامل مع الآخرين، وعلمها التمثيل، حولها لأهم استعراضية في العالم.
وشاهد الممثل اللبناني الأصل إلياس مؤدب الفتاة الصغيرة فيروز ( ابنة أسرة أرمنية جاءت إلى مصر بعد نكبة الأرمن من الدولة العثمانية)
كان إلياس مؤدب صديقا لوالد فيروز، وعندما غنت أمامه، بهرته بخفة دمها وجمال صوتها، وخفة حركاتها، فقدمها إلياس مؤدب للعبقري أنور وجدي فخلق منها بطلة لأفلامه رغم صغر سنها، أنتج لها أفلام دهب وياسمين ومثل معها فيهما، ثم انتج لها فيلم فيروز هانم الذي كتب القصة والسيناريو له عبقري آخر هو عباس كامل ( وبالمناسبة هو الأخ الأصغر لأحمد جلال وحسين فوزي ) الغريب أن أنور وجدي – منتج الفيلم لم يمثل في هذا الفيلم. إنني أرى أن فيروز فاقت كل ممثلي السينما العالمية الصغار بفضل أنور وجدي وعباس كامل.
وفي لقاء تلفزيوني شاهدت وسمعت عمار الشريعي يتحدث عن المطربة آمال ماهر، قال - ما معناه – فعلت معها ما فعله كمال الطاروطي مع صدفة بعضشي في مسرحية سيدتي الجميلة. يعني علمها كيف تأكل وتتحدث وتتحرك وتعيش، وهذا هو الأهم في صناعة النجم.
وبدأ معها في الموسيقى والغناء، بالغناء الصعب- التدريب على غناء أغاني أم كلثوم الصعبة على أي مطربة غير أم كلثوم - لذا، عندما غنت آمال ماهر أغاني خاصة بها كانت مختلفة عن كل مغنيات جيلها.
وأنا شديد الإعجاب بصوت المطربة شيرين عبد الوهاب، أفضل صوتها الآن على كل الأصوات المصاحبة لها، ففي صوتها خصوصية حباها الله بها، لكنها لم تتقابل مع سليمان بك نجيب ولا حسين فوزي ولا أنور وجدي ولا عباس كامل ولا عمار الشريعي لكي تتعلم كيف تصون هذه الموهبة النادرة وتحميها من جنوحها ونزقها. ما الذي حدث في زماننا هل تبخرت القيادة والقدوة وتلاشت؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى