محطات ابدية

ثمة أمور في حياة المرء لايسعه إلقائها خلف ظهره وهذا الشيء صحيح بالنسبة لي أنا على الأقل ، انا الذي أدركتني الشيخوخة قبل الاوان ؛ إذ انطوت حياتي على ومضات لن أبارحه أبداً ، لمحات من أيام حياتي الغابرة ، لمحات تجذرت في قرارة نفسي ، وترسخت في أعماق روحي لأنها مفعمة بمعنى ما ، معنى لا أستطيع تحديده ، معنى بلامعنى لانه قد لايعني شيئاً للأخرين ..
والآن وأنا أحث الخطى على طريق النهاية مثقلاً بعنائي وذكرياتي ستموت معي هذه الومضات وقد لاتكون الخسارة فادحة الى هذه الدرجة ، لان ومضاتي هذه كانت قد اختفت فعلاً منذ زمن بعيد ، زمن ضم بين حناياه حيزاً أعتدت على رؤيتِك فيه وانت تمارسين شيئاً من طقوس حياتك اليومية لكن كل ذلك أنتهى الآن ، أنتهى ذلك الزمان وأنتهيتِ أنتِ أيضاً وبعد قليل سأكون أنا نفسي قد أنتهيت ؛
هذه هي الحقيقة لكني في هذه اللحظة أراك وكأني أراكِ لأول مرة عندما كنت تخطوين عبر فناء المدرسة تسيرين بنفس إيقاع خطاك الذي لم يغادر دمّي إلى الآن ، لقد شدني شيء ما في مشيتك وفي ميلان جذعك الى الأمام بكبرياء وحياء وكأنكِ تحاولين إخفاء شيءٍ ما ، كنت أراك تخطرين عبر فناء المدرسة ومن مشيتك كان ينبعث زهو غامض ، شيء ما أصابني وقتذاك ، شيء بلا معنى ، شيء عميق الغور ، لكن لايهم ذلك الآن بيد أن تلك اللمحات المضيئة لا تزال تذكّرني بك ، تذكرني بمشيتك في ذلك اليوم ، عندما رحت تتنقّلِين خطاك عبر فناء المدرسة ، تلك المدرسة بالذات ، تلك السنة بالذات ، ذلك الصباح بالذات ، في وقت ما من أواسط ذلك الخريف ، لقد أسرّت لي حركات جسدك بشيء ما في تلك اللحظة وذلك المكان ، شيء كان يلوح في تعطفات جسدك ، شيء تجذر في نفسي وفي ذاكرتي ..
لكِ أن تضحكي ، نعم أضحكي لأن الأمر بلامعنى ، لكن ذلك الشيء الذي لمحته في أعطافك أضْحى قريباً مني الآن ، إنني أقترب منه الآن وسوف أراه من جديد ، ذلك الشيء هو أنتِ ، صورتكِ التي أراها جداً واضحة بعين خيالي ، تلك الصورة المفعمة بكل معنى بالنسبة لي ، تلك الصورة التي تمثل لمحة من أكثر لمحات حياتي إشراقاً وبهاءاً ، تلك الصورة التي اراك فيها تجلسين في حانوت المدرسة مع فتيات أخريات لكنكِ مع ذلك كنت تبدين منفصلة عنهن ، وحدك تجلسين في نهاية الطاولة في مكانك المعتاد ولاأدري كم مره رأيتك تجلسين هنالك ، لاأدري كم مرة لكني أتذكر هذه المره الوحيده ، أتذكركِ فيها تجلسين هناك وفي عينيك يومض شيءٌ ما ، شيء ما كان يتجلّى للعيان كلّما رفعتِ رأسك ، شيء خفيّ كان يلمع في نظراتك آنذاك ، شيء غامض يتحدى إدراكي ، وكل ما أقوله عن تلك النظرات يبدو خاطئاً فليس من السهل علي أن أصف ما كانت تقوله تلك النظرات التي كانت تحمل بين طيّاتها الكثير والكثير في ضُحي ذلك الصباح حيث كنتِ تجلسين في نهاية الطاولة وشيء ما عميق الغور كان يلمع في عينيك للحظة واحدة ، تلك اللحظة بالذات ، لايسعني نسيانه ، إني أحمله معي أينما حللت لانه تجذّر في أعماقي ، لايمكن لأي إنسان ادراك ذلك بسهولة لأن مارأيته في عينيكِ حينها قد لايعني لغيري شيئاً أبداً ، وقد لايكون له أي مغزى بالنسبة إليه ؛ لكنه بالنسبة لي الآن وأنا مشرف على نهاية ربيعي التي ستنتهي لامحالة ، أدرك بأن ما لمحته في نظراتك حينئذ يمثل أكثر لحظات حياتي صفاءاً وروعة ؛
قد يبدو ما أقوله سخيفاً ومضحكاً لكني لم أر في كل مَن رأيت وأحبَبْت شيئاً مثل ذلك الشيء الذي رأيته في مشيتك ذلك الصباح ، ذلك الشيء الذي كان يلوح لي من بين ثنايا جسدك ، أذكر انّكِ كنتِ حديثاً في مدرستنا عندما كنت تجلسين وترفعين رأسك لتنظري بتلك العينين ، عيناك اللتان رأيت فيهما ذلك البريق ، ذلك المستحيل الذي يمثل كل مافي حياتي من معنى ؛
أنا متأكد من إني لوكنت قد أخبرتكِ بذلك ، لو أخبرتك بما كنت أشعر لشعرتِ بالحرج ولرفضتِ الحديث معي ثانية ولأصبحت علاقتنا علاقة خرقاء ، علاقة مرتبكة وصعبة جداً ، لأنكِ كنت سَتَعِينَ كيف كنتُ أنظر اليكِ والى حركاتك ونظراتك الأكثر براءة وعفوية ، ولجعلك ذلك تشعرين في حضوري بالجفاء والقسوة والإرتباك ، أنا متأكد من أنك كنت ستشعرين بذلك لو أخبرتك بمعنى ذلك الشيء الذي كانت تخبئه حركات جسدك في ذلك الصباح الخريفي البارد الذي رايتك فيه عندما كان الرذاذ يهمي والريح تهب ناعماً ؛ ماكان بوسعك أن تفهمي لو كنت قد حدثتك بما يدور في مخليتي ولما كان بعد ذلك بمقدروك العيش معي ؛
لو كنت حدثتك عن ذلك الشيء الذي لمحته في نظراتِك لما كنت قادرة على التحديق بحرية بكل تلك السنين التي ضمّتنا معاً ،
لاشك عندي في ذلك لهذا السبب لم اخبرك ؛
ولكن حتى عندما كنت أمسك بيدك وأنت تموتين لم اخبرك أبداً ، لم أخبرك حتى في لحظاتك الأخيرة حتي عندما سمعت أنفاسك تتباطأ وتشرف على النهاية ، سمعت أنفاسك تتقطع ثم تختفي لوقت طويل ثم شاهدت الحياة تعود الى عينيك ثم تعود ثانية لتتلاشى من جديد ، حتى أنقطعت تماماً ، وفي تلك اللحظة رأيت ماكان كامناً في عينيك يتحرك في فضاء الغرفة يتحرك يداً بيد مع ذلك الشيء المخبوء في حركة اعطافك ، وشاهدت ماكان في نظراتك وحركاتك يتغير ، شاهدته بلمحة مضيئة واحده يتحول الى شيء بلا ملامح ثم يغيب الى الأبد ؛
شاهدت الخواء يحتل عينيك ، شاهدت عينيك للمرة الأخيرة واغلقت جفنيك وسمعت صوتك ، صوتك الذي سمعته عدة مرات ، صوتك الذي سيظل طالما حييت وقبل أن أتلاشى أنا أيضاً سيظل صوتك يرن في ضميري ؛
تماماً مثلما سمعته في منتصف نهار ما ينساب في درسٍ ما ، في فصلٍ ما ، عندما وقفتِ وقلتِ شيئاً ما وعدتِ للجلوس مرةً ثانية ، لا أتذكر أي درسٍ كان ، لا أتذكر ماذا قلتٍ يومها ، لكني اتذكر شيئاً ما كان يرن في صوتِك ، يرن بتلك الطريقة التي تتناغم فيها صوتك وجسدك؛ عندما وقفت وقتها سمعت شيء في صوتك شيء ظل يتردد في أعماقي منذ ذلك اليوم ، لا أتذكر ماذا قلت ، لا أتذكر ذلك لأنه بلا معنى ، وليس له أهمية تُذكر ، لكن ذلك الشيء الذي كان يسكن في صوتك في تلك الظهيرة سيظل يرنّ ابداً في قلبي ؛
ولم اخبرك بذلك قط ، لأني لم أستطع أخبارك بمثل هذه الأمور
ولو كنتِ حية لما حدثتك به لأن ذلك كان سيجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لك ، لأن كل ماكنت أتمناه هو أن يتحرك جسدك بنفس الطريقة التي كان يتحرك بها دائماً ، عندما كنتِ تستيقظين مرهقة ومتعكرة المزاج ، عندما كنت تغضبين ، عندما كنت تشعرين بالسعادة ، عندما كنت تنفجرين غاضبة وتشتميني ، كنت أريد جسدك أن يكون بالضبط كما أريده ولم اشأ أن أقل لك ذلك ، ولم اقل لكِ كيف أنّ شيئاً ما في صوتك قد تجذر في أعماقي لأني لو كنت قد قلت ذلك ، لما تسنّى لي سماع رنين الغضب فيه وهو يتجلى بكل وضوح ، فدائماً ما كنتِ تمنحيني شيئاً من روحك طوال اليوم ، بل طوال كل الأيام ؛
لم أحدثك أبداً بشئٍ من بين كلّ تلك الأشياء لأنك الآن لا وجود لك ، لاوجود لحركاتك ، لنظراتك ، لصوتك ؛
إلا أنّ كل هذه الاشياء موجودة معي الآن في داخلي ، ولهذا لا أخشى الموت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى