علجية عيش - les hommes livres

(في الحديث عن الكتب القديمة كمرجع )
لم أخسر شيئا و أنا أقل سيارة "كورسا" للنزول إلى وسط المدينة، و قادتني قدماي إلى المدينة القديمة، و إلى المكان الذي يصطف فيه بائعي الكتب القديمة، كانت رحلة استكشافية قصيرة في زمن الكورونا، وجدت أحد الباعة يرتب كتبا و يخرجها من الكرتون، وقفت أتأمل و أحدق في عناوينها، حتى قال لي خذي راحتك، و بعفوية و تلقائية جلست على ركبتاي مفترشة الأرض، و رغم انبعاث رائحة كريهة من الكرتون تعود لقدم الكتب، إلا أنني رحت أفرز الكرتون، و أخرج الكتاب تلو الآخر و اضعه على ركبتي، حتى وقعت عيناي على مجموعة من الكتب، اقتنيت بعضا منها، رغم أنها كلفتني مبلغا قد أستهلكه لمدة اسبوع، لا علينا..، فمن هذه العناوين التي وقعت عيني عليها كتاب بعنوان العرب و الحرب العالمية الأولى للدكتور صلاح العقاد، و كتاب بعنوان قراءات في التكامل و التواصل في منهج الإصلاح بين الباديسية و المزابية و هو كتاب قيّم جدا تطرق فيه صاحبه و هو الدكتور محمد الصبيحي إلى موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من المذاهب الإسلامية، و بخاصة السنة و الشيعة، و كيف وقعت الخلافات بين أعضاء الجمعية و انقسامهم و تأسيسهم جمعية علماء السنة و غيرها من المحاور التي تستقطب القارئ و تجعله أسير افكار الجمعية.
أما الكتاب الذي لفت انتباهي و أثار اهتمامي أكثر، قديم جدا، أوراقه صفراء هشة ، بعضها ممزق كما أن الكتاب بدون غلاف (مفقود)، و الحمد لله أن كتب في جانبي الكتاب عنوانه: "الثورة في التجربة"، لصاحبه الدكتور مطاع صفوي صدر عن دار الطليعة بيروت، وهو يقع في 509 صفحة ، من الصعوبة بمكان قراءته في وقت وجيز، وبالأحرى قراءته بتدبر و تأمل تحتاج إلى نفس طويل، فمن خلال الفهرسة يبدو أن الكتاب ذا قيمة علمية و له أهمية تاريخية، لأن مؤلفه قدم رؤية فلسفية لجملة من القضايا العربية، و في مقدمتها الثورة العربية كـ: "إيديولوجيا " واصفا حالة الخمود التي كان يعانيها المجتمع العربي ، ليطرح من خلالها "الجدلية الحضارية في الواقع القومي"، و كيف تتشكل "الطليعة" و تنتقل إلى التنظيم الشعبي، الكتاب شيق جدا، و يجعل القارئ متشوقا لقراءته ، لأنه يعالج قضايا التحرر، و كيف يتشكل المد الثوري و يصعد من قاعدة الهرم للأمة بكاملها، خاصة و أن الكاتب قدم سوريا و لبنان كنموذج و تحدث عن ظروف الحرب العالمية الثانية التي أنتجت ثورية واعية وحدت الأهداف و طرحتها على مستوى قومي شامل.
الحديث عن هذه الكتب أعاد إلى ذاكرتي فيلما شاهته منذ سنوات باللغة الفرنسية، كان بعنوان:les hommes livres و هو يرسم مشاهد للنظام الدكتاتوري الذي أراد أن يغرق الشعوب في الجهل و الأمية، من خلال محاربة المثقفين و المفكرين، و حرق كتبهم، فكان على "النخبة " إلا أن تكلف كل مثقف أن يحفظ كتابا عن ظهر قلب، و شرع المثقفون في حفظ هذه الكتب، و بعد مدة قامت السلطة بحرقها كلها، و لم تكن تعلم أن تلك الكتب تم حفظها في قلوبهم، و لما تغير النظام أعيد تحرير تلك الكتب و طبعها، فقامت ثورة فكرية لم يشهد لها العالم مثيلا، و السؤال: من يستطيع قراءة كتاب و تلخيصه، و لا نقول حفظه، لأنه صعب على جيل " البطاطا فريت" و "الهمبورغر" ، و جيل الجال و السروال الممزق على الركبتين، و صعب على جيل الإنترنت أن يتحمل عناء قراءة كتاب يضم مئات الصفحات، و الإطلاع على محتواه بتدبر، لأن هذا الجيل يبحث عن الجاهز ( كوبي كولي) لإجراء بحوثه المدرسية من الإنترنت و يصعب عليه البحث في الكتب الورقية.
فالحديث عن القراءة و التثقيف و الكتابة ، يقود إلى معرفة ما في الكتب القديمة من أهمية لما تحمله من أفكار نيّرة ، هي ذات قيمة فكرية و تاريخية، لكنها للأسف مهملة، و قد غطاها الغبار، و لم يعد القارئ يكترث لها، فيعرضها للبيع مع الأشياء القديمة التي استغنى عنها الناس، و قد يقوم بإتلافها و الإلقاء بها في المزابل، أو يقوم بحرقها، حتى وزارة الثقافة و التربية لا تولي اهتماما بهذه الكتب، رغم ما تحويه من حقائق تاريخية و ما صنعته الشعوب من انتصارات ، جيل اليوم يجهل الكثير منها، و لذا بات ضروريا إعادة تحيين الكتب القديمة و إعادة الإعتبار لأصحابها، و هذا متوقف على دور النشر في بعث هذه الأفكار من جديد باعتبارها مرجعا وجب الحفاظ عليه، و وضعها تحت تصرف الباحثين و الطلبة الجامعيين.

علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى