محمد بشكار - كمْ لَبِثْنا..؟

لا أحِبُّ التَّفلْسُفَ والتَّوغُّل بفكرتي البسيطة في مفاهيم قد لا يفْهمُها أحد، ربما لأني ولِيدُ مجتمع خُرافي يعْشق الحلم والموعظة الحسنة آناء الليل الموصول بإناء النهار، وما جدوى التوقُّف عن الحلم ما دام فائضُ السُّكرة كما يتكفَّلُ بتغييب العقل يُروِّج الاقتصاد الوطني؟
لا أحِبُّ التَّفلْسُفَ، ومع ذلك وجدتُني لأول مرة حين أيقظتني زوجتي باكرا للمُضيِّ إلى العمل بعد إعلان رفْع الحجْر، أُدْركُ قيمة بعض المفاهيم الفلسفية في تشريح الأوضاع وتوصيف تحوُّلاتها، وفهمتُ معنى القطيعة ليس الابستيمولوجية كما نحتها المفكِّر غاستون باشلار وتفيد تطور العلوم، بل القطيعة في الحياة وتعني الانتقال لعهد جديد، أجَلْ فهمتُ القطيعة بكل تمزُّقاتها بين النوم واليقظة حين فتحتُت جَفْنَيَّ على إيقاع صوت السِّتار في سِكَّة النَّافذة، ومعهُ تسربتْ أشِعَّة الشمس لتقْطع ما تبقَّى من حبْلِ التَّواصُل مع حلم أعلم أنه كباقي أحلامي لن يتحقَّق، كنتُ فقط أريد أن أكمل أحداثه المُشَوِّقة دون أن أعْكِفَ على كتاب ابن سيرين لتفسيرها خير وسَلام!
أوهمتُ دماغي ببعض الإشارات الكاذبة أنِّي يقظٌ فصدَّقَني دون وعْيٍ، لذلك تسمَّرتُ لثواني أحدِّق في زوجتي وأنا أشعر بكل التراخي الذي تعرف البلاد كساده هذه الأيام يُثْقل أوصالي، قلتُ عن أيِّ عمل تتحدَّثين، ألسْنا في حَجْر صحي وقد مدَّدوه شوطاً ثانيا قد تليه ضرباتُ الجزاء، ولم تكنْ دهشتُها أوسع من دهشة عَينَيَّ وهي تُخاطبني: ما زلتَ متأخِّراً في حلمك أما كورونا فقد ولَّتْ منذ أمد بعيد.. وما كان إلا أنْ استجمعتُ الوقفة هَلِعاً من حالتي الحرجة، ولا عجب فالرجل منَّا وبسبب ضُغوط تكاليف العيش إذا لم يخُنه قلبُه خانتْه الذاكرة، ولكن ما الَّذي عَنَتْهُ بقولها إنِّي ما زلتُ مُتأخِّراً في حلمي، أيكونُ الواقع قد تطوَّرَ في بلدي بينما كنتُ أعتقد أني نائمٌ في فترة حالة الطوارئ الصِّحية، تذكرتُ كل القطائع التي اختبرت البشرية أهوالها إما بسبب الكوارث أو الحروب أو موجات الجوائح، ولم تكنْ تخلو من مآسي كما لا يخلو كلُّ تمزقٍ من نزيف، وهي إذْ تستدعي إعادة البناء بوتيرةٍ مُتسارعةٍ تُغيِّر أيضاً تفكير الإنسان إما نحو الأفضل أو الأسوء، أنت وَزهْرُكَ، فقد يصبح هذا الزَّهر آخر باقةٍ تذبل على القبر إذا طَالَكَ من أحد البشر وباء..!
شَلَّتْ الحيرة ركبتيَّ حين أيْقَنْتُ أنِّي لم أنمْ ليلةً واحدة فقط، وأنِّي ما كنتُ أظنُّهُ مُجرَّد أمْسٍ صارتْ تفصِلُني عن حلمه أو كابوسه سنوات عشْتُ واقعها الجديد في سباتٍ دون وعي، تذكرتُ أيضاً القطائع السَّبْع التي عَرِفَتْها قصَّة حَيْ بن يقظان، منذ أرْضَعَتْهُ الظَّبْية حتى خروجه عارياً إلى الفضاء الأوسع ليكتشف العالم، ولمْ أنس القطيعة التي أحدثَتْها النَّوْمَة السَّحيقة لأهل الكهف فمسَّتْ حتى ما بجيُوبهم، فهُمْ لم يستيقظوا بعد مئات السنين إلا حين تغيَّرت العملة ولم تَنْفعْهُم في شراء كِسْرة خبز من الأسواق!
استسلمتُ لأطروحة أنِّي في الزمن البعيد الذي يجعل حقبة كورونا درساً آخر في كتب التاريخ، وماذا يَضِيرُ المرْء إذا استمرَّ في العيش دون ذاكرة، تناولتُ فطوري دون أن أستطْعِمه على عجلٍ، ورافقتُ ابنتي وأنا نازلٌ من العمارة في طريقي إلى العمل لتأخذ سيَّارة المدرسة، ولم تمْضِ دقيقة حتى فُتِح بابٌ وأطلَّ من النافذة نفسُ السَّائق بِتحيَّتهِ المعهودة وبشاربٍ كثٍّ يكاد لفرط بشاشة صاحبه يقفز من الوجه، بادرته بذهول مشيراً إلى اسم المدرسة البارز على واجهة السيارة (مدرسة الشعب): هل غيرتُم اسم المدرسة، ما كنتُ لأدع ابنتي تركب السيارة لو لم تكنْ سائقها، فأجاب بالنيابة عن اللسان شاربه الذي قفز بابتسامة من أعلى لأسفل الوجه، يبدو أنه لم يفهم سؤالي أو لم يسمعه حتى، ولكن وجدتُ جواباً ليس مُقنعاً فقط بل يمشي أيضاً على عجلات عبر كل شوارع المدينة، رأيتُ كل سيارات نقل التلاميذ من مدارس مختلفة بلونٍ مُوحَّد تحْمل نفس الإسم (مدرسة الشعب)، فأيْقنتُ أنه انتهى زمن التعليم الخصوصي، لا أعرف بالضبط ما حدث في نومي، ولكن يبدو أنَّ الدولة قد أمَّمَتْت كل المدارس الحُرة التي تسْتعبدُ جيوبنا، ربما اشترَتْها من أصحابها لتضيفها بأطرها للقطاع العمومي، ليُصبح جميع أبناء البلد سواسية في الحصول على تعليم جيِّد وفي مناخ نقي، أخيرا فَطَنَ المسؤولون أن العِلْم لا يُباع ولا يُشترى وأنَّه كالهواء من حقِّ كل شرائح المُجتمع لا يُقَدَّرُ بثمن !
لا أصدِّق ما يحدث معي لقد تغيَّر العالم من حولي بينما كنت غاطّاً في النوم، الشَّهْرُ في آخره ولكن الأجْر ما زال في أوَّله لم تُنْهِكْهُ المصاريف ليصل إلى صفر درهم، وما ذلك إلا لأنَّ كل المواد الأساسية من السِّلع أصبحتْ تحظى بدعمٍ حكومي، لقد أمَّمَتْ الدولة كل المواد الحيوية التي تُستخرج ثرواتها من أٍرضنا، لم يعُد توزيع الماء والكهرباء مثلا تحت وصاية شركاتٍ أجنبية تسْتنزف شهرياً جيْب المواطن، فما أغرب أنْ يأتي من خارج الحدود من يبيع لك ماء البئْر وهو في دارِك، لقد استفادتْ الدولة من فترة الحجْر الصِّحي التي أغلقتْ كل الأجواء بينها وبين دول أخرى، واستمرَّت في الاعتماد على إمكانياتها الداخلية وكفاءاتها في كل القطاعات لتحقيق التوازن الاقتصادي، لم نعُد بحاجةٍ إلى تبعية الآخر الذي يسْتنزف خيْراتنا ويسْتغِل بشركاته المتعدِّدة الجنسيات أيادينا العاملة بأبْخس الأثمان، لقد أكَّدتْ تجربة كورونا أن التَّباعد رغْم قساوته بين الأفراد، لم يكُنْ لِيخْلو من منافع وهو يفْصلنا عن دولٍ رأسمالية أنهكتْ اقتصادنا بأجْشعِ استغلال، وقد صَدَقَ سارتر حين قال إن الجحيم هو الآخر، يا لَهِذه الذَّاكرة التي جعلتني أفْقِد في ذروة جائحة كورونا الماضي لأستيقظ على واقع أجمل من كل أحلامي، لا أعرف كيْف حدث ما حدث وأنا نائمٌ بنفْس صُدفةِ مجيء الوباء، ولكنني موقنٌ أنَّ النوم وما أكْثر مُحترِفيه بيْننا اليوم لنْ يُوقف عجلة التَّاريخ، وأنَّه لابُدَّ أن نُوقِّع وثِيقة استقلالٍ أخرى تُحرِّرنا من قيد الاسْتِغْلال، أنا لم أنمْ، ولا أصدِّق شيئاً ممَّا حولي، ثمة من يتلاعب بأدمغتنا جميعاً بحَجْرٍ أو بدونه في آخر العربة.. فكمْ لبِثْنا؟
...........................................
حُرِّر يوم الثلاثاء 9 يونيو 2020 بالحجْر المنزلي بمدينة الصخيرات.
...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 11 يونيو 2020
...........................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:
http://alalam.ma/…/uploads/2020/06/alam-du-11-6-2020_compre…








90

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى