جعفر الديري - الساعة الثانية بعد منتصف الليل

توفي الحاج محمد، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في ظروف بالغة السوء. كان الظلام مخيما بعد انقطاع الكهرباء. وكان المطر ينهمر بغزارة، بحيث سد الطرق وملأ الشوارع بالبرك والأوحال. ولاذ الناس ببيوتهم يحتمون من زخات كأنها غضب السماء، يصاحبها رعد مرعب، تضج له قلوب الكبار قبل الصغار!
ولم تكن زوجة الحاج محمد «الأولى» ولا أي من أبنائه منها، إلى جانبه ساعة موته. وإنما أخرى شابة، هي أم لثلاثة أطفال أكبرهم لا يجاوز السابعة، وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه، فعدا عن كونها غريبة على أهل البلد، كانت مكروهة من أهل ضرتها، وأهل زوجها، ومن جاراتها، على حد سواء، نظرا لاعتقادهم أنها امرأة سيئة، سرقت زوجا من زوجة مخلصة لبيتها وأبنائها.
وفي ذلك الظرف الكئيب، وسط كثافة الظلام، وهزيم الرعد، وضجيج تساقط الأمطار على زجاج النافذة، لم تجد الزوجة الشابة بدا عن إبلاغ ضرتها هاتفيا، بموت زوجها. والجلوس قرب جثمانه المسجى على فراشه، عاجزة إلا عن الانتظار.
وإنها لفي جلستها هذه، تتقاذفها رياح الواقع الصعب، يمينا وشمالا. وتطرق رأسها هواجس المستقبل بمطارق من حديد!، لتشعر وكأنها تحدرت من قمة شاهقة إلى الحضيض، حين قطعت حبلا كان عليها أن تحافظ عليه. فلا زوجها دام لها، ولا أبناءها استووا شبابا يعينونها على شدائد الحياة.
لقد أوقعت بالرجل الكهل، وفرقت بينه وبين أبنائه الكبار. وملأت قلبه حنقا وغيظا، بحيث اقتنع أنه لا يمكنه الاعتماد على أحد منهم. وأن أبناءه منها سنده الوحيد. وفوق ذلك لم تحاول أن تزيل شيئا مما علق بأذهانهم، بل نفرت منهم نفورا شديدا، جعلها لا تتحفظ في إظهار مشاعر الكره والضغينة!.أما ضرتها فشأنها معها كان مختلفًا.
لقد فشلت في انتزاع حبه واحترامه لها. فإن الرجل الذي باء بحمله الثقيل، ظل طوال الشهور الأخيرة يعذبه إحساسه بالذنب، نظير ما اقترفت يداه بحق أم عياله. فكان لا يبرح يتذكر ما سلف من أياديها البيضاء. فهي طيبة ابنة طيبين، لم يحدث يوما أن شكت من قلة مال أو سوء حال، لأحد من الناس، على رغم عصبيته ومزاجه المتقلب!. أستاذة في العناية ببيتها، وبحسن ترتيبه. وطاهية لا تجاريها امرأة أخرى. تتقن من المهارات ما يؤكد أنها سيدة بيت حقيقية. أعدت من قبل أمها لتكون زوجا صالحة، لا تطلب شيئا سوى رضا زوجها، وسوى نجاح أبنائها واستقرارهم مع زوجات صالحات.
وعندما اضطر للزوم الفراش، بعد إجراء جراحة لفتح القلب، كان لسانه لا يتوقف عن الثناء عليها، وذمها هي الزوجة الثانية، وإلصاق صفات الكسل والإهمال والبلادة بها، متهما إياها بسوء النية، وتمني موته والتنصل من عبء رعايته.
وقد بلغ بها الغيظ أشده، حين أبدى ارتياحه لأنه لم ينجب منها بنات يكن على شاكلتها!.
والحق أنها لم ترتبط بالحاج محمد حبا فيه، أو إعجابا بسجاياه. وإنما هربا من واقع صعب، لم تشك في أن جميع أخواتها يشاطرنها الرغبة في الهروب منه. لقد كانت ضائعة وسط ثماني بنات، ضاق بهن أبوهن، حتى تمنى موتهن جميعا. وكان يقول إنه مستعد لمبادلتهن بولد واحد يقف إلى جانبه ويشد ظهره!.وقد باعها لزوجها هذا الميت، زاهدا فيها، سعيدا لأنها ستفارقه إلى بلد بعيد.
وكانت هي بالمقابل لا تقل سعادة عنه لتخلصها من بيت يقيم فيه أب لئيم وزوجة أب قاسية. ولو ان أمها كانت على قيد الحياة. لكان من الممكن أن تحظى من الحنان بما يرقق شعورها، ويهذب أخلاقها. لكنها لم تنل منه سوى نزر يسيل. إذ سرعان ما ارتحلت أمها إلى الرفيق الأعلى. فعاشت بين أخوات كن قانطات من كل شي. وفي هجير أب كان يقابلها بالشدة في القول والفعل. ولم ترث منه سوى الوجه العبوس، والمزاج السيء، وضيق النفس لأتفه الأسباب.
وعن لها وجه ضرتها بابتسامتها الطيبة، وعينيها الآسرتين، فأشاع في نفسها إحساسا هو مزيج من الاحترام للمرأة العظيمة، والاحتقار لنفسها، التي دفعت بها لأن تسير في هذا المنزلق المظلم، فتزعزع أركان بيت كان نموذجا للبيت الكريم، وتختم على سعادة من فيه بالشمع الأحمر!.
وصحت على صوت ضرتها تدخل البيت بصحبة أبنائها الثلاثة. وما أن وقعت عيناها على زوجها حتى علا صراخها شاقا جيب الليل. أما هي فانزوت، شاعرة بنفسها تتضاءل حتى تختفي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى