د. سامي عبد العال - فلسفياً: لماذا نكره الإرهاب؟!

ليس هذا السؤال ساذجاً رغم أنَّه مألُوف الطرح، وفيما يبدو لن تكون إجابتُه بسيطةً. صحيح أنَّ الكراهية جزءٌ من نسيج الحياة الإنسانية، وأنَّها جانب مُراوِغ يتم تبريره على مستوياتٍ عدةٍ، ولكنها لا تُعْطّىَ مجاناً، فهي ليست واقعةً عشوائيةً. إذن يتجدد الاستفهامُ بطرقٍ أخرى: لماذا تكره( أنتَ) شيئاً ما؟! ودلالة الـ(أنت) أعمق من الحالة التي تعيشها، هي عمق وجودك وأصالته. هل ثمة سلطة بإمكانها فرض الكراهية؟! هل هناك كائن يبثُ الكراهيةَ مباشرةً؟! بالطبع لا، لكنها مثل الحب لا تُفرض دون أسبابٍ أبعد من الحالة العامة.

وفلسفياً، هل توجد أسبابٌ للكراهية hatred ميتافيزيقية أو اخلاقية مثلاً؟ فنحن ندرك أنَّ الكراهية تجربة نفسية أو اجتماعية، لكن علاقتَّها بأسئلة الفلسفة تبدو غامضة، أسئلة الماهية والحياة والإنسان والله. وربما يجيء الغموض نتيجة أنَّ الفلسفة بالنسبة للإرهاب غير واردة، كما أن الارهاب يكثف حضوره داخل المَشاهد( اللقطات) سواء أكانت تفجيراً أم دماءً أم تعذيباً. حتى يبث الرعب على نطاقٍ أوسع كأنَّه يحيط بالمجتمعات من كل جانب. بينما الفلسفية أبعدُ من هذا العراء الخالي، هي ليست مسرحاً متلفزاً تتعلق بالعيون، لكنها إيقاع إنساني كوني تأتي بالأعماق، تنبض بالإحساس الغائر والمأساوي في الأفعال الدموية. الفلسفة لقطة كلية تفسر وتُسائل الفوضى المتناثرة جراء العنف باسم الدين.

المسألةُ أنَّ كراهية الجماعات الدينية ارتبطت بنتائج أفعالها السياسية والاجتماعية، لكنها لم تتضح علاقتُها بالعمق الوجودي للإنسان. وهذه النتائج ظاهرية لا تمسُ ما ينازعنا الارهابيون وجودَّه. أقصد أهميةَ فهم كراهية الارهاب من باب (الذات) لا الموضوع. علينا ملاحظة أنَّ كل ما قِيل بصدد كراهية الارهاب جاء بالجوانب الخارجية (الموضوع)، ولم تكُّن لتمس الجوانب الذاتية. والأخيرةُ جوانب تلتقي مع جوهر الدين كـ(إيمانٍ حُر free faith) أو لا يكون. أي أنَّ الحرية تساوي وجود الدين من عدمه. الدين في قوامه هو حرية اعتقاد، حرية امتلاء روحي وحرية تكوين نفسي ووجودي.

فلقد قِيلت في كراهية الارهاب أسبابٌ كثيرةٌ: هناكَ من اعتبرَ الجماعات الاسلامية أفظاظاً لا رحمةَ لديهم. وهناك من عدَّهم كائنات تراثية جاءت متأخرةً بعد فوات الأوان. وهناك من وصفهم بالصد عن سبيل التسامح والاعتراف بالآخر. وهناك من نقدهم كمذاهب دينيةٍ مغلقة لا تفهم الحياة وتطوراتها. وهناك من ناداهم كمتنطعين باسم الدين يلوكون عبارات ثقيلة الوطأة بلا فهمٍ. وهناك من رمقهم كفارغي عقول لاهثين بأشكال التدين ورسومه. وهناك من أفزعه تدميرُهم للمجتمعات والدول والأفكار بمعناها المعاصر.

لكن الفكرة الأعمق: أنَّنا نكره جماعات الارهاب لأنَّهم يستعملون ما يمتلكه الإنسان من إيمانٍ للتسلُط عليه فيشعر بالانتهاك والإهانة الداخلية. وفعل (يمتلك) فعلٌ مقصود، الإرهابي لم يُعْطَّ أيُّ سندٍ لاغتصاب ايمان الآخر، لا من قبل الله ولا من قبل الدين ولا من قبل المجتمعات ولا من قبل الناس ولا من قبل الفرد. من ذا الذي أعطاه الحق ابتداء؟! لنفترض أنَّ ذلك السبب هو الأهم بخلاف أي شيء آخر، أي بقطع النظر عما يفعله الارهابيون. فالايمان علاقةٌ أصيلة بذاتك، علاقة خاصة، علاقة جذرية، علاقة وجودية ... إذن: كيف لمن لا يعرفها، ولا يقدرها أنْ يضعها في قبضته، ويقلبها بين راحتيه؟!

الارهاب يُحاكِّم الخاص داخل الإنسان بما هو عام. فالإيمان فعل يقين وتصديق خاص، وحين يحتكره إرهابيٌ في شكل مساءلة للمؤمن ذاته، سيكون ذلك وبالاً على الذات. وههنا يمكن تحديد الأسباب الفلسفية وراء كراهية الجماعات الاسلامية، وقد لا تكون أسباباً معلنة ولا يصرح الإنسانُ بها ولا يدركها. فلم يكن لكل إنسان أنْ يفتش فلسفياً فيما يقول ويفعل. لأنَّها اسبابٌ وجودية، من صميم اللاوعي الجذري في حياة الإنسان.
  • سرقة دلالة الله، السرقة هي سرقة لكل مؤمن وليس فرداً ولا مجتمعاً بعينهما. كأنَّ الارهاب يستولي على مساحة الله داخل البشر. هو يفعل ذلك بتهور طوال الوقت. ففي المقام الأول: الارهاب لا يعرف حجم الله داخل الإنسان، وبالمقام الثاني لا يدرك ما سيقول إزاءه بموجب تكفير الناس. لأنَّ التكفير فعلُ اغتصاب ميتافيزيقي وروحي بملء الكلمة، نظراً لأنَّ الايمان لا يطَّلع عليه شخص ولا جماعة، كما أنَّ صاحبه قد لا يستطيع التعبير عنه كذلك. الإيمان فعل صامت، هو أبكم وأخرس لا يتكلم ولا ينادي إلاَّ على نفسه فقط. وحين ينادي عليه الإرهابيون ولا يجيب، فهم يعتقدون أنَّ الايمان صاخب، ويتم تفريغه من أي ثراء لصالح الضجيج أمام الآخرين.
الارهابي لا يدرك ماذا سرق، فالميتافيزيقا لا تُسرق وإلاَّ ستصيب السارقَ لعنةُ الطيش، واللعنة بالنسبة للإرهاب هي فعل القتل على اللا شيء من الأساس. فإذا كان الإيمان غير مرئي، فمن العتّه تعيينه في أشكال ثمَّ محاسبة الفرد على ما لا يدرك ولا يحدد. وبخاصة أنَّ الله داخل البشر هو الوجود الذاتي، كيف سيقدم لك ما يوجد ذاتياً كموضوع، كيف يمكن قلب الذاتي إلى موضوع؟! النكاية أنَّ الارهابي يشترط إخراج الله الذاتي للعفو عن الإنسان وإفلاتَّه من التكفير. وكأنَّه يريد تصنيم الله من حيث استحالته في تاريخ المعتقدات التوحيدية. الصنم هو الشكل البراني الذي يخرجه المرء قائلاً: إليك ما أؤمن به!! ومن زاوية أخرى: كيف سيصدق التكفيري أن هذا الايمان(أو غيره) ليس المعبّر عنه كاملاً؟ ألاَ تكون الأصنام صورة زائفة كما كانت طوال التاريخ؟ أليست الأصنام عبودية ساذجة لا تقدم حقيقة ولا معنى، وهي مجرد رغبات سائلة للهو الميتافيزيقي؟!
  • امتلاك وجود الله، ذلك باعتباره اقتصاداً محدوداًlimited economics ، أي منذ استيلاء الارهابي على دلالة الله يضعها في البورصة الاجتماعية والسياسية. وأخطر ما يُشْعر المرءُ بالضآلة أنْ يرى ذاته قد عُرضَ للبيع والشراء. فالإيمان لا يُباع ولا يشترى وإلاَّ لغدا سلعة تتقاذفها الأيدي. تزداد الكراهية طالما يستعمل الارهابيون هذه السلطة في كل خطاباتهم وأفكارهم. خطابات الاسلام السياسي تعْرض كلمة الله كمقولة توزع دلالتها كعائد الاستثمار. فلو أنّك انضممت إلى تنظيم اسلامي، تصبح أنت رابحاً معاني الرضا والعفو والغفران. والدائرة التي تحكم الأمر أسواق لاهوتية يدرك أصحابها قائمة الاسعار وآليات السوق ومن يبيع ومن يشتري!!
هذا التصور التجاري ينسحبُ على كافة أفكار الاسلام السياسي، لأنَّ خطاباته ربحية لدرجة السخرية. فمن حيث أنَّه لا يلوي على شيء حقيقيٍّ في جعبته، فالعائد الاقتصادي من استعمال الخطاب هو الأهم. ورغم صعوبة التكفير وما يتبعه من عنفٍ، إلاَّ أنه يمثل معياراً لما هو مقبول أو مرفوض. الفرد المُعرّض للتكفير يشعرُ بنوعٍ من الانتهاك الخاص دون سواه. التكفير يفقدك خصوصيتك ويجعلك سلعة معروضة في تلك الأسواق، بضاعتها هي الغنائم والسبايا وبقايا حطام البشر وسلب المجتمعات وذهنيات القطيع ونفايات العقول وغُثاء البشر. هذه ليست مبالغات، بل تجسدت في دولة الخلافة الداعشية عياناً بياناً.
  • المقدس سلطة قتل، أخطر شيء أنْ يتحول إيمانُك إلى رصاصة في صدرك أنت لا سواك. فالارهابي حين أصطنع لنفسه سلطة المقدس فعل ذلك، وكم كان قاسياً على الإنسان أن توضع سلطة الرحمة والغفران كتكفير للمتطلع إليها. ليست هناك صورة أوقع أثراً من صور التكبير والتهليل التي كانت تلقى أثناء ذبح الضحايا على يد الدواعش، فاقترن التكبير بالقتل وسفك الدماء وجز الرقاب.
وبخاصة أنَّ عبارات التكبير في الثقافة الشعبية مرتبطة بمعاني النجاة والملاذ الآمن والاحتماء بالله والاعتراف والتسليم الواعد. وهي لون من اليقظة التي تتطلع إلى السماء رجاءً وأملاً. وفي الوقت نفسه- على الجهة الأخرى- أمست صيغ التكبير سكيناً في يد الارهاب. ونحن نعرف أن آذان الصلوات الخمس يردد التكبيرات مراراً طوال اليوم. وهذا رَبَطَ إحساس الفرد بجوهر ما يُؤمن، ويجعله كلمات جارية تلقائياً خلال المواقف والأعمال. ورغم ان التكبير لغة، لكنها لغة هي الوجود مع تكملة الصيغة بمناحي الدين والاعتقاد.
  • الإيمان الوثني، الايمان في تعريفه سرٌ، خفاء لا يطَّلع عليه أحدٌ. والتنظيمات الاسلامية تهتك الاسرار وتحولها إلى أحداث ساخرةٍ. عندما يطالب الاسلاميون غيرهم بالكشف عن هوياتهم الدينية religious identities، فهم ينصبون وثناً دون دراية. الهوية الدينية – من منطلق الدين الاسلامي- ليست واحدة ولا تنسحب على كل الديانات. وكأنَّ الاسلاميين يكررون معتقدات غابرة تخص الوثن كشكل ليس غير.
وحتى عقل الإنسان عندما يصور موضوعاً، فهو يثبت الصورة في إطار بعينه، فما بالنا بكون موضوعات الدين متعالية وخارج المعتاد وتُبنى على أخيلة وعواطف يصعب الهيمنة عليها. وليس بعيداً عن مفارقة الإرهاب أن الدواعش كانوا يكتبون على سياراتهم: أن ماركة سيارة (كذا ومؤمنة: شيفروليه مؤمنة). في اقتران بوهيمي بين الآلة والروح من قبيل الايمان السطحي. لكن هل هناك فارق يذكر بين صنيع الدواعش وبين قول بعض القبائل في استراليا القديمة بأن الأرواح الشريرة تتلبس جبلاً معيناً أو أنَّ روحاً خيِّراً يسكن شجرة مقدسة أو يجسد حيوان مفترسُ أسرار القوة( الطوطم). ربما الفارق أن ذهنية الدواعش استبدلت الجبال والوديان والغابات بالسيارات الفارهة والأسلحة المتطورة والدولارات الخضراء واستعمال الاضاءة بدلاً عن الحطب.

الفرد العادي لا يستطيع رؤية إيمانه مجرداً من الروح، حين يصر الارهابيون على اخراجه في شكل أوامر تنظيمية لإثبات الولاء. وبالتالي فالوثنية هي جوهر الارهاب، إنه قناعها المعاصر، هناك هوس داعشي مثلاً بالأيقونات والرموز المعبرة عن دولة الخلافة. وتلك الاشياء ليست مجرد لغة، لكنها معتقدات تخص العالم والحقائق وكيفية التفكير.
  • التطفُل على ما هو خاص، يدرك الإنسان أنَّ ما يخصه يجب أنْ يكون كذلك، لكن الارهابيين يعرُون أعماقه عندما يفتشون ضميره ووجدانه وعقله وإحساساته وخواطره. هو يتحول إلى موضوع مكشوف تماماً. الإنسان إجمالاً ليس إلاَّ خصوصية داخل كيانٍ منطوٍ على ذاته. يحرص على إظهار وجوده متى شاء ويواريه متى شاء. وهذا المبدأ بسيط لدرجة التسليم باستقلال الأفراد، لكن الارهاب لا يسلم بأي شيء خاصٍ. وهذا معناه اعتبار الإنسان مُباحاً، كل شيء فيه يجب تعريته من جسمه إلى ذاكرته حتى دُنياه وانتهاء بآخرته.
ليس للإنسان العادي غير ما يضمر من اعتقاد يبث إليه شكواه ويردده بعيداً عن التطفل. في حين أن الإرهابيين لا يعترفون بأية مساحة دون مراقبة. الإخوان المسلمون – على سبيل التوضيح- يجعلون ثمة مراقبين طوال الوقت ليتعرفوا على التغيرات النفسية والفكرية لأعضاء التنظيم ويتابعون بدقة: بماذا يفكرون وينشغلون. وقد لا يكون الأمر صريحاً هكذا، إذ يتم تجنيد الأفراد بإشغالهم ليل نهار بأدبيات وطقوس الجماعة. الهدف ألاَّ يترك التنظيم أية برهة زمنية لانشغال النفوس بأشياء أخرى. هذا يؤدي إلى تدمير الخصوصية وإعادة انتاجها في شكل طقوس جمعية، بحيث لن يتمكن الفرد من مغادرتها إلاَّ بالموت. وكأنَّ الدين أصبح سطحاً لا بد أن يراه الآخرون كل لحظة دون أن ينمو تلقائياً في ثراء التأمل وحرية الذات.
  • معيار خارج الذات، لم يكن الدين عبثاً حين أقر حرية الاعتقاد للأفراد، ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ولم يقل (من شاءوا فليؤمنوا ومن شاءوا فيكفروا ...)، واو الجماعة تتدخل عضوياً في تشكيل مادتها. وسيكون على الفرد ألاَّ يفعل دون الجمع. وهذا بأدق التفاصيل ينتهك المسؤولية، يشوِّه الاعتقاد ويجعله نهباً لكل من هب ودب. وخاصةً أنَّ لكل فرد بصمةَ إيمان تترك أثراً روحياً فيما يمارس. وهذا بالنسبة للإنسان العادي يساوي حياته، لأنَّ التعاطف الديني لا يأتي مصادفةً، بل بفضل الجزء الحر من النفس والالتصاق به.
هذه العلاقة تحمل ربطاً عميقاً بين الاعتقاد والأنا، حيث تحقق إشباعاً نفسياً لصاحبها، فكلمة الإيمان تُقال على وجوه الحب والعلاقات الإنسانية والدين. فالمحب لآخر يعتقد أنَّه يؤمن به وبإنسانيته، ومن خلال تكوين العلاقة باطنياً يتوزع الإشباع النفسي. فكيف لمتطفل باسم ما تُؤمن أنْ يضع معياراً خارجياً لذلك؟ ولا سيما أن الجماعات الاسلامية تطرح الداخل كمادة هي التداول اليومي لاعتقاد الأفراد. وهذه ليست سمة عارضة بل( بنية حركية) تهم الجماعات كلها بلا استثناء. وتؤكد كيفية الامساك بها وقولبتها من وقت لآخر. فحين يندمج الأفراد في نمط ديني غالب ومرسوم ولو شكلياً، يظل الأعضاء تحت سلطة الجماعة وتطويعها للمشاعر والأفعال. الأمر نوع من الولاء الحسي والنفسي للتنظيم، ونتيجة معايشة الأفكار يشعر الفرد أن عقلة( الذي هو له) لم يعد له، إنما أصبح جزءاً من جسم الجماعة لا خيالاً ولا تصوراً نوعياً.

هكذا يتخلق لدي كل جماعة إدماج لتجارب الايمان في نمط ثابت دون اختلاف. ولذلك ليس عبثاً أنَّ أعضاء الجماعات نسخ مشوهة من بعضهم البعض، العقول والمشاعر والأفعال وردود الأفعال واحدة لدرجة الغرابة. أكبر ثغرة في الجماعات الاسلامية هذا التشابه الذي يصل حدَّ التطابق، حيث يكون قهر التكرار ماثلاً أمام كل فرد ولا يستطيع التصرف بمفرده. ورغم تسميته (السمع والطاعة) و( رابطة الأخوة)، إلاَّ أنه تدمير لماهية الإنسان، وإفشال لتنوع البشرية الخلاق.
  • تحطيم الآخر، أي كسْر دلالة الآخر داخل الفرد. فعندما يتعرض لعنف الجماعات الاسلامية رؤيةً أو فعلاً، فهناك ما يتحطم من الآخر داخله. فليس الآخر خارج الإنسان، لكن كل منا ينطوي على آخر يحفظ توازنه ثرياً ومتنوعاً. وهو ما يتكون نتيجة المشاعر الإنسانية التلقائية، وقد يبلغه الإنسان في تجارب الصداقة والحب والتعاطف والتواصل.
إن اعتبار الآخر مهدور الدم ومباح الوجود، هو قتل لجوانب الإنسان، وقد يتحول المقتول داخلياً إلى لعنة مدمرة، فالفرد يصبح كارهاً لأية علاقة إنسانية حرة. لأن تلك الصور التي تشكلت لديه قد لُّوثت بالعنف، تركت فجوةً غير قابلة للردم.

ولذلك كان طبيعياً تحول الدواعش إلى كائنات مفترسة بالفعل لا المجاز. ولفظة الذئاب المنفردة ليست خبط عشواء، هي معبرة عن النهم الوجودي للدماء والقتل. ربما تكف حيوانات الغابة عن الافتراس بمجرد الاحساس بالشبع، غير أن الارهابيين لا يتوقفون جوعاً للقتل والتكفير. وليست الفكرة بعيدة عن الإنسان، لكنها تستفحل ضمنيَّاً مع تكرار عمليات الارهاب. التوحش هو القاعدة التي بات الإرهاب يتعبد عليها بجميع أفعاله. وهذا يقتل الآخر ويخيفنا منه معاً. وكأن بول سارتر يؤكد المعنى قبل تصاعد الإرهاب بنهاية القرن العشرين: الآخر هو الجحيم!! ولم ينسحب ذلك على الارهاب عينه بل يتحسس الناس الآخر المظلم داخلهم لمجرد أنَّ شخصاً قد يتحدث في الدين، لأن الجحيم مازال مفتوحاً. وكأن الارهابيين يقفون على أبواب الذوات ماسكين أسلحتهم لكل خارج وداخل... هم خزنة جهنم الجدد!!
  • غلق آفاق الأمل، تضع الجماعات الاسلامية حارساً على ذوات الأفراد، لكنه ليس للقتل بل حارس ليلي على الخيال والآفاق الرحبة للحرية والزمن. وكل حارس يتمثل نسخته المشوه من الخليفة، فالداعشي المُهمل في وديان وصحارى الدول(والذي نعتقده نسياً منسياً) يتمثل خليفته حرفاً بحرف، هو نسخته البديلة في مكانه القصي. معتقداً أنه يحرس ثغور الخلافة التي تحدها السماء الزرقاء وكواكب ونجوم المجرات الأخرى، مع أنه قد يتعثر في حفرة تحت قدمية!!
لا يستطيع هذا "المرمي هناك" العيش من تلقاء نفسه، لأنَّ كلَّ ما يلوي عليه هو تعبأة التنظيم لهويته الدينية المتصرف على أساسها. كائن مفرَّغ من أي شيء إلاَّ تعاليم التنظيم، إنَّه كذبة داخل إزار وجلباب الدين ليس أكثر، جسد أغبر أشعث هو الهوام الآدمي من حطام الإنسان. لم يدرك معاني الألم إلاَّ ما يأكل من جوعٍ ويشرب من عطشٍ ويحتمي من لدغات العقاربٍ. جسده هو المهم بالمقام الأول، لكن ماذا وراء الغمام، ماذا وراء الأيام، هل بهذه الأفعال الدموية سيكون الدين أفضل حالاً أم لا؟!

إنَّه لا يفكر أصلا ويستعيذ من خليفته طوال الوقت أنْ مرت عليه خواطر التفكير في الدنيا تاركاً زمن الجهاد والفتك بالأعداء. الكائن المجوف هذا يقف بالمرصاد لكل أمل بين أنامل الناس. يفرغ فيهم الرصاص بمجرد أن يأملوا فيما هو آت، يعاقبهم على إنسانية دفعها إلى الوحل. لقد كان مشهد الأيزيديين والأيزيديات في (سنجار العراق) فارين من مذابح الدواعش مشهداً كئيباً، جهنم تمشي على الأرض. بينما يتضاحك الارهابيون ويتصايحون بالتكبيرات فوق العربات الحربية كأنهم في سندباد العصر. اصطنع الارهاب مدن الملاهي(ديزني لاند) لممارسة عمليات القتل وجز الرقاب!!
  • الإيمان حظيرة تنظيمية، هذه الأوضاع جعلت الذات لدى الإنسان جثة متحركة، والأبرز أنها أفرغته من التأمل والتساؤل، والفكر، لأن الخليفة – كسلطة دينية وزمنية لدى التنظيمات- يعني تشكيل الاعتقاد كما تمارسه سلطة المراقبة والمعاقبة. فالفرد داخل التنظيم غير معترف به، هو ليس أكثر من زائدة لحمية تُقطع متى شاء ولي الأمر أو تصفي نفسها بنفسها. هذه حظائر( زرائب) لاهوتية لا مدن فاضلة كما أرادت الفلسفةُ. فإذا كان الفلاسفة منذ أفلاطون مروراً بتوماس مور وليس نهاية بمدن الواقع الافتراضي قد رسموا إنساناً له حياته النوعية والبراقة، فالإرهابيون أرجعوه إلى محميات ميتافيزيقية metaphysical reserves يحرسُها شبحٌ فظ.
الفرد العادي يخشي دخول هذه المحميات، لكونِّها أشبه ببيوت الرعب على طريقة سينما الرعب، لن ينال الإنسان فيها إلاّ التشوه وقد يتحول كأفراد التنظيم إلى زومبي Zombies يقتات على لحوم البشر. عندما بدأ تحرير شمال العراق من الدواعش، أخذ الارهابيون في تصفية بعضهم البعض والانتحار بأمر التنظيم نفسه. وهذا شيء غريب حقاً، فالمفروض أن هناك هدفاً هو إقامة الخلافة على منهاج النبوة كما يزعمون!!، لكن ما حصل أنَّهم أصبحوا كائنات ليليةً بلا أملٍ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى