جعفر الديري - الزجاج السميك.. قصة قصيرة

اكتشف الحقد، أو اكتشفه الحقد، أوّل عهده بالبطالة! لم يترك طريقة ولا واسطة، تليّن قلب أبيه إلاّ وسلكها!، لكن دون جدوى! حتّى قرّ في نفسه أنّه يكرهه ويرغب في تقزيمه أمام إخوته!، بل أمام الآسيويين «الحفاة... الجياع»، اللابثين سنوات عديدة خدماً لأبيه!

هذا مكان رائع يطلّ على شارع تجاري، كان يمكن أن يشيّد فيه محلّا يدرّ دخلاً ممتازاً، يقيه العوز، ويزيل ما علق بقلبه من التعاسة والشقاء وهو يجري وراء عمل يعتاش منه، بعد أن عاد من الخارج بشهادة لا تسمن ولا تغني من جوع!

رغم ذلك، رفض أبوه أن يساعده، دون أن يوضح السبب حتى؟!...

- هل أبدى أحد من إخوتي رغبته في المكان؟!

- لا

- هل هناك مشروع تخطط له؟

- لا

- ماذا إذن؟!

ويصمت أبوه، ثمّ يتشاغل عنه بهاتفه!

ثمّ يتفاجأ في صباح يوم نحس بالآسيوي وقد شمّر ذراعيه للعمل بهمّة! ولا تجديه نفعاً، ثورته عليه، ولا صراخه الذي ارتفع حتى جاوز محيط الدّكان، ولا شحوب وجهه وأبوه ينهره أمام الآسيوي!

وها هي البرّادة اليوم رائعة بواجهتها الزجاجية السميكة، بأرففها الممتدّة على طول الجدران ملآى بالبضائع. مقزّزة بالآسيوي كريه الرائحة، يتحرّك بخفّة ملبياً طلبات الزبائن، وعلى فمه ابتسامة الظفر، وربما الشماتة به هو الواقف في الخارج، ينظر إليه بعينين ملؤهما الحقد.

ورغم تحذير أبيه، دخل البرادة وفتح باب الثلاجة وأخذ علبة مياه غازية. ثم ألقى بثلاث قطع نقديّة من ذوات الخمسين فلساً، على طاولة الآسيوي باستهانة!

وكان يودّ لو أن الآسيوي يحتجّ ولو بكلمة، لكي يمطره بوابل من السباب! إلاّ أنه آثر الصمت وابتسامة الذلّة والمسكنة مرسومة بوضوح على وجهه. فتركه، بعد أن سدّد إليه نظرة تشي بكل ما يعتمل في قلبه من احتقار لعامل تمسكن حتى تمكّن من أن ينال هذا الجزء الرائع من بيت أبيه، مجهضاً حلمه الجميل.

وهزّ رأسه عجباً وسخرية. متسائلاً عن سّر هذه القسوة! إنّ أباه لا تخفى عليه خافية، ويلحظ كم أن ولده!، لا يترك يوما يمرّ دون أن يراجع الوزارات والمؤسسات، مع ذلك يفضّل عاملاً آسيوياً عليه!

ثمّ ألا يكفيه أنّه ضيّعه صغيراً وتركه لخالته تربّيه، بعد أن ماتت أمّه في عزّ الشباب؟! ليعود فيجرّعه سم التفريق بينه وبين إخوته غير الأشقّاء؟! لقد نسي أمّه تماماً، فما عاد يذكر اسمها ولا يترحّم عليها. فهل يتمنّى موته هو الآخر؟!

ورنّ هاتفه، وقرأ الرقم، فأجاب وقلبه يخفق بشدّة. إلاّ أن المتحدّثة كانت تخبره أنه رسب في الامتحان.

أغلق السمّاعة. وقد خيّمت عليه سحب غليظة من الهمّ والكآبة! أحسّ نفسه سمكة صغيرة تحاول الصعود وسط أمواج عاتية. كأنّما رياح سموم تدفع به للبعيد، فيما جسمه عاجز عن مقاومتها.

لماذا يعاني كلّ هذا؟! هل ما يطلبه كثير؟! لماذا ينعم غيره بحنان الأب والأم، فيما هو محروم منهما؟! لماذا يحقق آسيوي قبيح النفس والمنظر أمله، فيما يقف أبوه سدّا منيعا أمام طموحه؟!

امتلأ وجهه دماً، وانتفخت أوداجه. وتحوّل إلى تنّين ينفث حقداً أحمراً مرعباً، ودّ لو يشوي به وجوه الناس دون استثناء. صغيرهم وكبيرهم رجالهم ونساءهم.

ومضى وفتح الباب على يمين برّادة الآسيوي. لاعناً الناس والأحياء وكلّ شيء وقعت عليه عيناه.

وصعد درجات البناء إلى الطابق الأول. وفتح باب غرفته، ورمى بنفسه على السرير. وغفت عيناه وقلبه مازال يشتعل حقداً وكراهية.

استيقظ على رائحة دخان وعلى أصوات مختلطة! ومن نافذته شاهد الناس، يُهرعون إلى برّادة الآسيوي!

ماذا حدث؟! نزل بأقصى سرعته، فشاهد الآسيوي ممدّداً على الأرض، والناس يحاولون إسعافه. ومجموعة أخرى تحاول إخماد النيران المشتعلة في البرّادة.

همّ بالمساعدة إلاّ أنّ يداً قوية أمسكت به! تطلّع يميناً وشمالاً فلم يجد أحداً. ارتعش جسمه وأحسّ بحقده يتجسّد أمامه! ويمنعه من القيام بأي شيء، فارضاً عليه أن يشاهد كلّ ما يجري بسلبية غريبة عليه!

وتراجع للخلف، طائعاً غير قادر على مخالفة الطيف الخفي. بل إن إحساساً بالراحة راح يملأ قلبه. وخفقت جوانحه خفقة الفرح، حين أدرك أن النار أتت على كلّ ما في البرّادة، وأنّ الآسيوي في حال حرجة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى