عبد الله زايد - عفو الفقراء

في بقايا صباح من خميس صيفي كنت لتوي مستيقظاً من نوم عميق ..ظللت أنتظر الإفطار .. لكنه لم يحظر .. لقد كانت زوجة أبي منهمكة في غسل الملابس ، وتجهيز طعام الغداء .. ليس لديها متسع من الوقت للتفرغ لتقديم إفطار متأخر لطفل بائس كسول.. أمام هذه الحقيقة التي تلفحني لفحا كل حين ، قررت الخروج لمتجر أبي العجوز لعلي أجد ما أسد به جوعي ببعض من الحلوى والعصير .. قمت أتمتم لنفسي أن هذا أفضل لي فهي فرصة للجلوس إليه للاستماع لأحاديثه المثالية حول الحياة .

في ذلك الوقت بدأت الإشاعات تملأ الحي الترابي حول خطط للحكومة لإيصال الهواتف للمنازل .. هناك من يكذب هذه الأنباء جملة وتفصيلا ، وهناك من يطالب بضبط النفس حتى تتضح معالم الوضع .. وبرغم أن أعمال الحفر بدأت إلا أن الناس متشككة وينتابهم قلق ممزوج بفرحة حذرة ، كأنهم لا يريدون انكسارها .. كان عمال الحفر سعداء بتضامن الناس معهم .. لقد كان أهل الحي يتسابقون لتقديم الماء البارد وبعض المأكولات لهم .. لقد كانت سحناتهم من جنوب شرق آسيا مذهولين من كرم الناس وتعاطفهم .. كانوا يعملون تحت لهيب الشمس، حتى أوجههم أصبحت محمرة .. وكانت آلات الحفر لا تتوقف عن الضجيج وسكان الحي سعداء .. كأنهم يستمعون لمقطوعات موسيقية عذبة أو عزف منفرد على آلة الكمان لفنان مرهف .. مرة تسمع طقطقة الحفارات وأخرى لزعيق الجرافات .. وبرغم ذلك لا أحد يعترض أو يقول أن هناك إزعاجا .. بل كأنه مهرجان تضامن فيه سكان الحي مع الحكومة .

في هذا الصباح كان أبي مزهوا أن بدأت أعمال الحفر من عند متجره الصغير .. لعل التاريخ يذكر هذا .. فبدأ في توزيع المشروبات الباردة مجانا على الجميع ، احتفاء بهذه المناسبة الوطنية الهامة .. وفي لمح البصر كان الجراف الذي يخرج كمية من التراب قد أوشك على سكبها على أحد أطفال الحي الذين كانوا متجمهرين للاستمتاع والمشاهدة .

قفز أبي وسحب هذا الطفل أو دفعه.. لقد تعددت الروايات، إلا انه أصيب في بطنه إصابة بليغة .. وحتى اليوم لا يعرف كيف حدثت هذه الإصابة .. فالتف حوله صغار الحي وكباره يشيدون ببسالته ورجولته ونخوته وهو يتلوى بينهم .. أبي تحامل على نفسه وتوجه إلى المنزل .. لقد كنت عندها موشكا على الخروج فإذا بي أشاهد مَثَلي في الحياة ممسكا بيده على بطنه يتلوى من الألم .. كادت عيناي تقفز من مقلتي وأنا أقول : ماذا بك يا أبي العظيم ؟ لم يجبني، وعندها أصابتني مرارة وقلت: يبدو أن طعام الإفطار هو أيضا قد تبخر.. لكن أبي دخل فورا إلى زوجته غير آبهاً بمشكلتي مع الجوع .. فأيقظتني من أحلام يقظتي صرخة مدوية أطلقتها زوجته فجمعت نسوة الحي فاكتمل مشهد البطولة .. وبرغم أن هذه الزوجة أمية لا تقرأ ولا تكتب إلا إنه بجانب إجادتها للصراخ الدائم .. عملت إسعافاتها الأولية الخاصة بها .. فأوقفت الدم عن النزف واسترخى أبي .. ظل نائما حتى عصر ذلك اليوم .

كنت خلالها أستمع لروايات الأطفال وهم يصفون والدي بأنه بطل وأنا في بلاهة باردة .. والجيران كانوا كلما دلفت لمنازلهم يرحبون بوجودي ويقدمون ما لذ وطاب لديهم لابن البطل .. في السابق كنت أطرد بحجة أنني قد أتسبب في إهمال أبنائهم لدراستهم .. كأنني قد انتهزت بطولة والدي .. عندما عدت إلى بيتنا وجدته مكتظاً بعدد من الرجال وسيارات فارهة تقف عند بابه الطيني .. في تناقض غريب بين الأشكال .. عندما دلفت شاهدت رجلا يتحدث لأبي عرفت فيما بعده أنه مسؤول كبير في الشركة التي تقوم بالحفر كان بصحبته آخرون متفرنجو اللباس ، كأن مهمتهم فقط توزيع الضحكات علينا .. كان يقول هذا المسؤول : نحن نأسف لما حدث لك وهذا قضاء وقدر .. ونحن نقدم لك مبلغ 2000 ريال .. ليس على سبيل التعويض لك ، لأننا لم نرتكب خطأ بحقك .. وإنما تعبيرا منا عن سعادتنا بسلامتك !!! رد أخي الكبير .. وهو متغطرس، فقد كان تعليمه عاليا جدا .. حيث يدرس في الثانوية العسكرية ويعرف من أين تؤكل الكتف رد قائلا : إن هناك ضررا بالغا وقع بحق أبي .. ولقد منع حادثا خطيرا كاد أن يودي بحياة إنسان .. وان أبي ضحى بنفسه ..

في ذلك الوقت كنا نقضي كل أمسياتنا على أسطح منازلنا الطينية طلبا للبرودة والهواء العليل .. وكانت أحاديث أخوتي مع والدي تنصب في تدارس السبل الكفيلة بشراء سيارة هايكلس تويوتا.. وتوفير مبلغ شرائها .. وكانوا يحاولون حصر الأسماء التي يمكن أن تقرضنا .. لا أريد الإيحاء بأن أخي كان ينتهز فرصة هذا الحادث للابتزاز .. لتوفير مبلغ شراء السيارة الهايكلس التويوتا .. فالحقيقة أن مبلغ 2000 ريال في ذلك الوقت لم يكن قليلا .. لكن أخي كان مفرطا في التفاؤل .. لقد أجاب مدير الشركة بأنه لا يجد مانعا من رفع المبلغ إلى 2500 ريال مقابل أن يتم التنازل .. أبي وكأنه قد أمسك بزمام الأمور .. شعر أن عليه مسؤولية وطنية كبيرة فقال : لا أريد تعويضكم.. العفو عند المقدرة ...لكن من كان منا يستطيع أن يطلب من هذا الأب أن يتوقف .. ليتذكر أنه بحاجة ماسة لسيارة، أو بحاجة ماسة لهذا المبلغ لتسديد ديون محله الصغير لتجار الجملة .. لكن كان المهم لديه في تلك اللحظات أن أفهم رسالته إلي .. حيث كان يرمقني بنظراته بشدة لكي أنتبه لهذا الحوار التاريخي .. الذي لا يتكرر في عمر الفقراء .. حيث أضاف إنه لا يريد شيئا وإنه يتنازل على شرط أن يتم إنجاز العمل بشكل سريع ... لقد تحولت ضحكات المتفرنجين إلى ابتسامات مذهولة .. و اندهش كثيرا مسؤول الشركة وقال في غمرة سعادته لأبي: سوف يكون منزلك هو أول بيت يدخله الهاتف في هذه المنطقة .. وأن رقمنا سيكون مميزا .. وأنهم خلال شهر واحد فقط سينهون العمل تماما .. وخرجوا سعداء ببصمة الأب الكبير على التنازل .. لم أكن أعلم عندها أن الأرقام المميزة ضاربة العمق في ثقافتنا الأزلية .. لقد مرت أشهر عديدة وهم لم ينهوا عملهم .. وكان المنزل الطيني لأبي العجوز هو آخر المنازل التي تسمع فيها ( رنة ) الهاتف .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى