سعاد آل خليفة - التوت

- 1 -

لن يهمني إلا أن أصل إليها .. الأشجار المتشابهة لا تضللني .. والطرقات البعيدة لا تضللني لا بد أن أصل إليها بأقصى سرعة ممكنة .. قضيت وقتاً طويلاً للوصول إلى هذه المنطقة النائية .. لا تزال موحشة وكئيبة كما تركتها أول مرة .. لم يتغير شيء أبداً .. حتى الأشجار لم تكبر لكن لن يخطئ قلبي مكانها .. عندما جئتها في تلك المرة لم أتمكن من رؤيتها . قالت لي أختها:

- احترم الموقف الذي تمرّ فيه .. إنها في حالة هذيان لا تهدأ ..

احترمت كلامها وعدت .. أما الآن فإني لا بد أن ألحق بها .. سأركض بها للعلاج .. لكن ما أبعد هذا الطريق .. شجيرات التوت لا تنتهي .. تترامى بشكل منتظم .. أشجار الرمان والحناء تضفي على المكان شكل النهاية للطريق لكنها تمتد ثانية وثالثة .. رائحتها مغسولة بعبق من ماضٍ بعيد .. إني لا أتذكر جيداً منزلها الذي اختارت البقاء فيه .. الأرقام ليست واضحة لكن الطرقات واضحة وإحساسي واضح .. ربما يكون هذا المنزل القديم .. لقد تذكرت كانت تصف لي أيقونات المنزل من الداخل واللون الفستقي .. لكن البيوت قديمة هنا .. سأتوقف الآن طراز هذا البيت قديم جداً يشبه مباني الكنائس العتيقة .. مع فارق بسيط .. ليس به أجراس أو صليب في الأعلى .. لا أثر للراهبات .. لا صوت لتهجد .. لا اثر لخطوات أحد .. الهدوء يضج .. والمساكن متباعدة عن بعضها .. لا جديد ولا حاضر في هذا المكان غير الماضي .. وربما مكان منزلها هو الوحيد المأهول في هذه المنطقة .. له شكل حياة .. وأشكال متعددة من نوافذ .. بعضها مضاء وبعضها معتم يدعو للتأمل والتوجس من شيء غامض .. الوقت يلمس المنزل بكثير من الدفء والعذوبة .. لم يكن كذلك عندما جئته في تلك المرة .. سأجدها .. أخيراً سأجدها .. ستكون مستيقظة تنتظرني .. لم يمضِ على رسالتها أكثر من أسبوع وهأنذا عندها .. لا أعرف كيف ستتصرف معي .. كانت كلماتها مضطربة .. تردد اسم ابنتها في كل سطر .. ولم أعرف منها ماذا كانت تريد ..

طرقتُ حلقَة الباب وانتظرتُ .. طرقتُ ثانية وثالثة فلم يرد عليّ أحد .. تلفتُّ عند المدخل فوجدت أثراً بلون أحمر على البلاط القديم .. توجست .. لكني عدت فطرقت الباب فرد عليّ صوت سيدة بعد قليل:

- هل أنتم الإسعاف ..؟

قلت:

- لا

وانتظرتُ قليلاً .. ففتحتْ الباب سيدة ذات ملامح أوروبية غريبة .. تأسفت لأنها ظنتني الإسعاف .. تقدمت ونادت من باب داخلي بأن أدخل .. فدخلت .. وأحسست بخفقان شديد .. لقد أخافني سؤالها عن الإسعاف .. ولم انتظر طويلاً سألتها عن سيدة البيت فقالت:

- عذراً .. لا أعرفها أنا المنظفة الجديدة .. أرسلتني الشركة اليوم فقط. وسمعت منهم عن سيارة الإسعاف .. لا أدري ما الأمر ..!!!

* * *

- 2 -

صوت يمتد كثعبان متململ في جحر طويل حالك .. صوت أنثوي متهدج بلوعة الفزع ينادي من أعماق المنزل ..

- لولو .. لولو .. لولوة .. حبيبتي أين أنت؟ أين اختفيت ..؟ ألم أطلب منك البقاء في صالة المنزل ..؟ قلت إلعبي بالقرب مني .. لولو .. حذرتك لا تبتعدي .. لولو ..

لا أحد يجيب ..

تجرّ صفقة الباب، وتمسك بحلقاته .. وتنسحب إلى الخارج .. تتطلع إلى البلاط القديم وملامح الخوف والترقب تشدّ على وجهها خطوطاً .. تتلفت أمام المنزل والساحة المفروشة بالعشب الأخضر فلا تجد أحداً .. تجري يميناً وتنادي ..

لولو .. لولوة ..

تعود الجهة الأخرى وتصرخ:

لولوة .. لولوة ..

لا أحد يجيب .. تنزل بعض العتبات حافية القدمين .. تركض مضطربة باحثة بعينين جافلتين متورمتين .. وتصرخ منادية بصوت متحشرج كأنه بكاء .. وفجأة تفقأ أصبع رجلها قطعة حجر حادة .. صرخت بصوت مؤلم:

- .. آه رجلي رجلي ..

- .. لولوة .. لولوة

- تعبت .. تعبت ..

جلست على الأرض وأخذت تضغط على أصبع رجلها المجروح بقوة .. الدم لا يتوقف لكنها لم تكترث له .. نهضت .. وصلت البوابة الرئيسية للمنزل .. فتحتها وخرجت إلى الطريق نظرت بعيون زائغة .. فلم تجد أحداً .. لكنها استندت إلى الجدار تحدث نفسها:

"لا أظن أنها خرجت .. لولوة صغيرة .. حلوة .. لا تقدر على فتح الباب الثقيل .. قفله أعلى من رأسها .. مؤكد أنها لا تزال تلعب داخل المنزل .. وعادت إلى غرفتها دون أن أراها .."

عادت إلى فناء المنزل وأغلقت الباب الخارجي .. وأحست بألم يسري في رجلها بسبب الجرح النازف .. ألقت بنفسها تحت شجرة التوت العالية وأخذت تنظر إلى الدم يتخلل أصابعها .. تأججت مشاعرها بالخوف والألم .. انفتحت ذاكرة مظلمة بداخلها .. دعكت المنطقة المحيطة بالجرح .. فتدفق الدم أكثر .. كانت الشمس تتلألأ .. وأشعتها باردة .. وفي الهواء دفء الشتاء .. براعم الأوراق والأزهار متفتحة رددت اسم ابنتها لولوة مرات بصوت هامس وكأنها تجلس أمامها تحدثها ..

"اخرجي يا حبيبتي .. إلعبي .. أسدلي شعرك للشمس .. واتركي أشعتها تتغلغل بين شعيرات رأسك كي تمنحك لونها الذهبي .. إلعبي .. رافقي الرياح .. اتركيها تهدهد روحك .. استنشقي رائحة التوت .. لكن لا تبتعدي دعيني أراك من قريب .. لا توقظي الخوف في صدري .. إنني هنا وحدي والأيام تشبه بعضها .. والليل كأحجار سوداء تنصب على رأسي ..

حذرتك .. سمعتك تقولين لن أبتعد .. سمعت صوتك واضحاً .. أين ذهبت الآن ؟؟ هل أخذتها الرياح شدتها من شعرها خصلة خصلة .. هل اختطفتها أشعة الشمس .. أم اختبأت مع الفراشة الخضراء أم ضاعت بين الألوان وأشجار التوت أم وابتلعها المنزل القديم .. أخفتها حكاياته الأسطورية .. ضيّعها فناؤه الموحش وأسراره المدفونة هنا وهناك .. هل ضاعت وسط الغيم .. آه أيمكن لهذه الطبيعة الجميلة أن تأخذ أبنتي لولوة ..؟؟

كل شيء أمامي يختلط بكل شيء .. الغيوم لا تعبث بها يد لولوة .. والفراغ لم يعد فراغاً، لا أعرف ماذا حدث .. هل ضيّعها هذا المنزل الكبير؟ لقد اشتريته من أجلها وأتيت بها إلى هنا بعيداً عن أعمامها .. كانوا سيشربون دمها وهي طفلة بريئة لو تركتها بينهم .. آه يا صغيرتي .. كان قدرك وأنت الصغيرة الوديعة أن تهزميهم .. وجودك في هذا العالم الضعيف أوقف عليهم ما ليس لهم فيه حق .. أربع سنوات من عمرك أيقظت لديهم كل مشاعر الغدر والخيانة لأخيهم الذي أنعم عليهم من خيره .. آه يا لهذا المنزل الكبير الذي ضيعك .. كيف لمكان كهذا .. لطبيعة كهذه أن تأخذ مني أبنتي .. عودي إليّ سأغلق نفسي عليك هذه المرة .. سأهبك صدري تسكنين فيه منذ أن غابت عينا أبوك تحجرتُ في عالمك الصغير .. أصبحتِ أنتِ فقط الحبل الذي يربطني بهذه الحياة .. ماذا أفعل الآن إذا ضعتِ .. هل استحق أن أعيش وأنتِ كل ما تبقّى لي .. سأجن أو سأقتل نفسي .. لقد كنتِ معي هذا الصباح كيف اختفيتِ ..؟ كنتُ أسمع صوتك النائم .. لكن الآن أين أنت؟

مرَّت فترة صمت باكية ثم هبت واقفة وانطلقت بخطى سريعة داخل المنزل وهي تصرخ بنداء الصغيرة .. صعدت عتبات الشرفة وعند الصالة نادت على طفلتها بصوت يختلط فيه الرجاء بالتمني والحلم بالجنون .. كانت الصالة مكتظة بقطع الأثاث القديم وجدرانها مطلية باللون الأخضر الفستقي، علقت بعض الصور والأيقونات وعند المدخل وقفت أمام مرآة ضخمة مؤطرة بلون ذهبي وعندما نظرت إلى نفسها لم تفكر في أبنتها .. أرعبتها خطوط وجهها في المرآة .. أمسكت صدغيها وبكت وهي تنادي طفلتها .. وفجأة هزتها خواطر مؤلمة فراحت تقلب الأثاث كله .. تقلب كل القطع والكراسي والستائر .. كانت حالتها العصبية .. تجعلها ترى نفسها في الجدران والأثاث وكان أصبع قدمها المتورم كثمرة التوت ينزف بغزارة ومن كل جهة في المنزل كانت ترى الدم في قدميها .. تنغمر عيناها بماء متحجر وينكمش وجهها بشكل طولي لكنها مع ذلك .. تدني عينيها أكثر .. فأكثر من أحد الجدران فيخيل لها وجه طفلتها ..

" كل ذلك ضاع مني .. هل ماتت لولوة حتى يضيع مني كل شيء .. لقد رأيتها في الصباح .. قبلتني وأحسست برطوبة شفتيها الصغيرتين .. ماذا كان يحدث لي ولم أكن أعرف" ..

ماذا كان يضيع مني ولم أكن أعرف .. التفتت بسرعة ناحية أخرى وإذا بأيقونة معلقة تتدرج فيها ألوان فاقعة وأخرى قاتمة .. ألوان تكرهها .. ألوان ذكرتها برائحة الأكفان والقبور .. وخزها ألم خلف رأسها فضغطت بيديها وتراجعت إلى الخلف .. وبقوة لا واعية اصطدمت بالمرآة فشجت أسفل صدغها وهي لا تزال متسمرة النظر في الأيقونة .. تراءت لها الإيقونة كشبح .. وعندما أحست بألم الضربة أدركت أن أعلى المرآة قد انكسر .. رفعت قطعة من زجاج المرآة وقذفت بها نحو الأيقونة .. وانفجر اللون الأحمر قوياً عارياً وسقطت على الأرض مضرجة بالفزع والدم..

* * *

- 3 -

كل شيء غامض أمامي .. المنزل .. بقع الدم .. الأثاث والأيقونة والزجاج المهشم .. العاملة المنظفة .. تقول أنها لا تعرف اسمها .. وأنها شاهدت معها سيدة أخرى وهي تخرج إلى سيارة الإسعاف .. هل في المنزل سيدتان ؟! .. هل كانت تعيش مع أختها ولم تخبرني ..؟؟ كنت أظن أني سأجدها وحدها .. هكذا رتبنا الأمر بعد طول انتظار .. لكن ما عرفته من منظفة المنزل قلب كل شيء .. حيرتني .. حتى الزجاج المكسور والفوضى لم تقل لي شيئاً عنها .. التقطت قطعاً مكسورة بصمت وتركتني جالساً .. أسئلة كثيرة في رأسي لم تجب على شيء منها لكن عندما سألتها عما إذا كان معها أطفال قالت:

- (أخبرتني الشركة بأن العمل في هذا المنزل بسيط .. تسكنه سيدتان فقط .. ليس معهما أحد وبين فترات بعيدة يزورهم أفراد من عائلتهم) .. ليس معهما أحد ..؟؟ إنها لم تقل لي ذلك .. ماذا أفعل الآن ؟؟ طريق العودة موحش .. وجوم أصفر في الطرقات وأشجار التوت تشبه الضباب هل ضللت الطريق .. لم تكن الأشجار تحجب النظر أمامي منذ قليل .. كيف تغير المكان بهذا الشكل المفزع .. الأشجار كانت أقصر .. والبيوت كانت منتظمة واضحة من بعيد .. والرائحة لم تعد تملأ الطريق .. من أين جئت إلى هذا المكان ..؟؟ إني أذكره .. لقد جئته منذ قليل فقط .. كيف تبدل ؟؟ .. إني لم أمر بأي منحنى أو إشارة ضوئية .. أو عتمة ..

لم أرى أية حواجز أو جدران أو إشارات حمراء .. لم أرَ أشجاراً مرتفعة واختفت آثار التوت .. كانت الطرقات الصغيرة والرائحة والأرصفة تدلني بشكل واضح إلى المنزل .. حتى الألوان الصفراء التي تخطط الطريق كانت تصل بي إلى ذلك الباب .. والآن تغيّر كل شيء .. لا أكاد أرى خلف البيوت شيئاً .. إنها لا تنتهي .. تبتعد وتقترب .. هل انحرفت إلى طريق آخر؟؟ آه .. كم هو مخيف ألاّ تعرف أين أنت .. وأن لا تعرف لمن أتيت .. وألا تعرف أصغر الأشياء التي مرت عليك منذ قليل .. وبسرعة .. عليّ أن أحدّد في رأسي شيئاً وإلا وقعت في هاوية .. ليس هناك أفضل من البحث عن أقرب مستشفى لا بد أن أعرف أين انتقلت بها سيارة الإسعاف .. سوف أرى ضوءها الأحمر وسط الإشارات الحمراء الكثيرة التي تعترضني وبين أشجار التوت .. سوف أصل إليها وهي تنتظرني هناك بدون شك ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى