محمد عبدالمنعم زهران - المعنى العميق لطعم القهوة.. قصة قصيرة

ليس الأمر كما يبدو دائما يا “ مريم”..

لأن الحاج ” جمعة” عندما وصل إلى مكتبه أول يوم عمل لك كمديرة لمكتبه، أطلعك على كل أعماله، وأعطاك قائمة بأرقام عملائه، وقائمة أخرى بالصفقات التي يجب إنهاؤها، وعهد إليك بترجمة بعض المراسلات على بريده الالكتروني. هذا بعد أن تمكنتِ من فهم طبيعة دورك الذي سيشرف تقريبًا على كل أعماله، ويمنحك سطوة إصدار قرارات سريعة باسمه في أوقاتها المناسبة. كل هذا يعد أمرًا عاديًا، ولكن غير العادي أن يطلب الحاج جمعة فجأة بينما يتأرجح على كرسيه الدوار خلف مكتبه أن يشرب قهوة، هو لم يطلبها لأنه يحبها يا مريم، لأنه في الواقع يعشق الشاي الثقيل جدًا كما قلت لك، وإنما طلبها لشيء ما آخر بإمكاننا تصوره.

يحدث أحيانا أن يكون الحاج “ جمعة ” في مقهى فخم، فيطلب أن يشرب قهوة، قد تكون هذه مجرد رغبة برتوكولية أثناء جلسات العمل، ولكنه كان يطلبها أيضًا عندما يجلس منفردًا. بدا الأمر كرغبة موازية لوجوده في المقهى الفخم.

حسنا .. يمكننا ببساطة تقرير حقيقة أن الحاج جمعة يكره القهوة – أصلاً –

يبدو أن كلمة أصلاً ستتكرر هنا كثيرًا فانتبهي ، وحقيقة كراهية الحاج جمعة للقهوة تشبه أيضًا كراهية شخص ما لارتداء بدلة رسمية في مناسبة ما، ورغم ذلك يبدو منشغلاً بإعادة ضبط الجاكت أو رابطة العنق كل وقت.

ورغم أنه يكرهها إلا أنه يشربها فى المقهى الفخم، بل يعاود طلبها مرة وأخرى، وفي كل مرة يشربها بسكر زائد، وربما هذا ما يفسر كل شيء:

تشرب القهوة – أصلاً – دون تحلية أو برائحة السكر كما يقال أوعلى أقصى تقدير بسكر مضبوط، وعدا ذلك لا تكون القهوة قهوة أصلاً، فمن يشربها في الغالب بسكر كثير – كحالة الحاج جمعة- يشربها لأن طلب القهوة بحد ذاته: طلب راقٍ ، ويشربها أيضًا لأن هذه الجملة الرشيقة والمتأنقة ” قهوة من فضلك ” لها إحساس خاص جدًا على لسانه يشبه النشوة، ويشربها أخيرًا لأنه يستمتع تمامًا برؤيتها وهي توضع أمامه وحيدة في فنجان أبيض. لكل هذا لم أندهش أبدًا عندما قال لكِ إنه يريد أن يتزوجك لأنه يحبك.

وأنتِ قلت لي يا “ مريم” إنك في ورطة، وإنني يجب أن أساعدك لأننا أصدقاء، وقلت لي إنه كان لطيفًا في البداية، ويعاملك برقة لافتة، بينما يتحدث مع الآخرين بطريقة سوقية جدًا وبألفاظ غاية في البذاءة، كما أنه كان يجلس طويلاً معك ليسمع قصص حياتك ويبدو متأثرًا، ثم جلسات أخرى ليحكي لك كيف بدأ أعماله، وكيف استطاع في أوقات صعبة جدًا ومريرة أن ينشئ مجموعة مصانعه وشركاته، وأخيرًا كيف قضى سنوات طويلة وسط دخان المصانع ورائحة عرق العمال، قبل أن يقرر افتتاح مقر إداري باهظ الثمن فى هذا المكان المهم بالمدينة. قال لك إنه اختارك أنت من بين عشرات المتقدمات للحصول على وظيفة مديرة أعماله، بهذا المرتب الضخم ليس فقط لأنك جميلة بل ولأنك حاصلة على أعلى الشهادات الأجنبية في إدارة الأعمال. كما أنك تستطيعين التحدث بلغات ثلاث.

لذا لم أندهش تماما عندما بدأ في اصطحابك فى كل اجتماعاته وجلسات العمل المهمة، بل ويتركك أحيانًا كثيرة تقومين بشرح ما يعجز عن شرحه، وإقناع العملاء بما لا يستطيع هو.. وأخيرًا كيف كان يدعوك للغداء أو العشاء في المكتب، فقط لتساعديه على تعديل طريقة أكله لتتوافق مع الوسط الذي بدأ يتعايش فيه باعتباره رجلاً مهمًا.

وأنت حكيتِ لي عن هداياه وعن محاولاته المتكررة للتحرش والتي قابلتيها بنظرات جافة وتهديدات مباشرة بترك العمل، وحكيت عن اندهاشك أيضًا لأنه رغم ردودك القاسية جدًا فقد بدأ يهتم بكل تفاصيلك، يسأل عن الأشخاص الذين يتصلون بك أو يزورونك ، ثم غيرته الهائلة عندما يراك تحادثين أي شخص آخر، وكيف وصل إلى درجة فحص هاتفك كل وقت دون موافقتك ليتأكد أنك لا تحادثين أحدًا، ورغم أنك كنت تغضبين وتثورين إلا أنه لم يتوقف. ثم الآن اتصالاته المفاجئة في الليل، وثورته العارمة إذا تصادف وكان هاتفك مشغولاً. أخيرًا قلت لي وعلى وجهك القلق بينما تتلفتين بهاجس أنه يتبعك، كيف أنه بكى فجأة عندما قال لك إنه يحبك.

وقلتِ إنك في ورطة، وإنك خائفة، بينما كنت أفهم تمامًا مايحدث ، وأعرف أنه لن يتركك أبدا حتى لو تركت عملك، حتى لوفررت وذهبت إلى مكان بعيد سيظل يتبعك، وكنت تعرفين ذلك أيضا، لذا كان عليّ التصرف.

خططنا لكل شيء معًا، لأنه كان ينبغي عليك أن تتصرفي بسرعة:

في الأيام الأولى سيتغير مظهرك شيئًا فشيئًا، ستبدين مع مرور الوقت امرأة لا تُحسن وضع المكياج، يبدو أحمر الشفاه متعرجًا والكحل غير منتظم في العينين، وسيسألك بدهشة وستقولين إن الميكاب –أصلاً- شيء مزيف وإنك مللت استخدامه، ورغم ذلك سيقول لك إنه ما زال يحبك، وسيقول لك إنك الآن أجمل.

بمرور الوقت وببطء شديد، ستنسين تماما كلمات مثل:

” أى أوامر يا جمعة بيه ” ” تمام يا افندم “

” تحب حضرتك أن … “

وستتفلت منك ألفاظ أخرى حين ينادي عليك:

” أيوة يا حاج “

” ماتخلص الورق ده يا عم الحاج “

وأيضا سيندهش ولكنه سيقول إنه يحبك أكثر وإنك تعتادين عليه، وإنك رفعت التكليف وهذا جميل.

سيقول كل هذا، وستشعرين بأنك تفشلين فيما خططنا له سويًا، ولكن انتظري، كانت هذه مجرد مقدمات لازمة للأيام الأخيرة لك عند الحاج جمعة، سيحدث هذا عندما تبكين فجأة -كما بكى فجأة عندما قال إنه يحبك – في هذه اللحظة سيسألك لماذا تبكين؟ سيسأل بلهفة أقل ودون أن يتحرك من مكتبه ودون أن يفكر أن يقترب منك بعطف. وببطء وارتباك وتردد ستقولين له أمرًا كان ينبغي أن تقوليه من أول يوم، لأنك تكرهين الاستمرار في خداعه، سيصاب بقلق ظاهر ويبدو مباغتًا، في هذه اللحظة تحديدًا ستفضين إليه باعترافك الأخير: إنك لم تحصلي – أصلا – على أية شهادات، وإنك لا تجيدين – أصلا – أية لغة، وأن مكاتب الترجمة كانت ترسل لك الترجمات المطلوبة في الموعد المناسب، أخيرًا إنك اضطررت للكذب وتزوير الشهادات لتنالي الوظيفة ببساطة. ولأنك تبكين بضعف وألم في هذه اللحظة، فمن المناسب جدا تصريحك المهم بأنك رأيت أنه لا بد أن يعرف الحقيقة لأنه سيكون زوجك، وببكاء وانكسار تتوسلين إليه ألا يتغير وألا يؤثر هذا على قراره بالزواج منك.

في هذه اللحظة تماما سيتبدل الحاج جمعة يا “مريم “، وسيوجه لك فورًا فاصلاً من السباب بألفاظ بذيئة لم تسمعيها من قبل في مطلق حياتك، ثم سينهض منفعلاً ليطردك. وستخرجين قبل أن يقذفك بأشياء مكتبه. وأنت تسمعين اسمعك مقرونًا بلفظ بذئ جدًا.

…….

آآآآآه.. تجلسين الآن بأريحية أمامي، فأطلب لك ولي قهوة بسكر مظبوط، لا يؤثر على المعنى العميق لطعم القهوة الرائعة.

لا يجب أن تسألي كيف حدث كل هذا، ولا كيف كان بإمكانك أن تقومي به بكل هذه الجرأة غير المتوقعة منك، فالواقع أنك كنت مرغمة ولا تملكين خيارًا. كل ما كنت أعلمه يقينًا أنه لم يحبك، ولم يكن –أصلا- يريد الزواج بك، كل ما في الأمر أنها كانت مجرد رغبة في أن ينام مع عقلك فقط.

لم أقل لك يا مريم إنني لم أكن متأكدًا من نتيجة هذه اللعبة تمامًا، كل ما كنتُ أثق به هو القهوة، القهوة فقط، حين يطلبها أحد ما، ليس لأنه يحبها، وإنما ليخضع الأشياء التي ليس بمقدوره أن يحبها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى