محمد الطايع - الساذج الذي أراد الذهاب الى القمر .. قصة واقعية ..

السلام عليكم انا محمد الطايع هوايتي كتابة القصص ، القصة التي أود أن ارويها اليوم ، قد تبدو غير حقيقية لكن هذا ليس مهما ، لأن المهم فعلا هو أنها خالية من المبالغة ، وليتنا نتصف بالصبر ونحن نحاول تحديد الفرق الحقيقي بين ما يحدث و ما لايحدث في حياتنا ، لانها مسألة في غاية التعقيد ، بل وتكاد تكون غير ممكنة..

إنها قصة عن ذلك الرجل المدعو ( سلام الساذج ) وهو ساذج فعلا ، عندما التقيته مباشرة تأكدت من هذا ، لكن عندما يتحدث يخطر ببالك انه شخص مهم ، لكنني متأكد أنه ليس سوى غبي ، غبي كبير .. لكن هذا طبعا لاينفي أنه طيب و متسامح ..

و هي ترى حماسه و جديته ، لم تكن زوجة سلام الساذج مطمئنة ، لكنها لم تجد بدا من أن ترضخ له وتعينه على تنفيذ رغبته في هذا السفر الغريب بعدما تأكدت أن إصراره أقوى من أي رفض أو معارضة ، عندما رآها منهمكة في ترتيب حقائبه في الليلة ما قبل صباح سفره ، أخبرها أن أصدقاءه نبهوه إلى اهمية التخفف من اثقال السفر ، فكل الذي عليه إحضاره معه ، بطانية و زوجي جوارب صوفية من أجل التدفئة لأن الأجواء العليا باردة جدا ، خاصة أن سائر وقتها ليل مصقع ، أما الأكل فلا داعي للتزود به ، لان كبسولة السفر تحتوي على خزانة مليئة بكل الضروريات ..

وهي تجلس بمحاذاته على سريرهما ، أمسك بيدها محاولة منه لرفع مشاعر الخوف والقلق عنها ، وأخبرها أن رحلته لن تدوم أكثر من ثلاثة أشهر ، ثم ذكرها بأيام زواجهما الاولى ، عندما كان يعمل راعيا للغنم في القرية و كيف امتدحه والدها أمام أهل البلدة واصفا إياه بالحكمة و بعد النظر ، مسحت الزوجة دموعها بأكف مرتعشة ، ثم طلبت منه أن يحضر لها تذكارا من هناك عندما يعود الى الارض ..

- زوجتي العزيزة ، افتحي النافذة وانظري الى القمر ، نعم انا اعرف انك تعرفينه جيدا ، لكن هذه المرة اريدك ان تحدقي به طويلا ، و تؤمني ان اناسا يتواجدون فيه الساعة و انهم يتحركون في كل الاتجاهات يسابقون الوقت ، و يجتهدون لتحصيل المال ، من هنا لايمكنك رؤيتهم طبعا ، لان القمر يبدو لنا خاليا وصامتا ، بينما هو في الحقيقة مزدحم و صاخب ، آه كم كنا غافلين ، و كنا نعيش في جهل كبير ، و الآن العالم كله أمام خيارين ، إما أن يقبل بالعلم و يؤمن أنه الطريق الوحيد لتقدمه ، او يكتفي الناس بالتأخر و الانحطاط ..

بعيد آذان الفجر بقليل ، تسلل الى غرفة صغاره الثلاثة قبلهم على أكفهم وجباههم و هم لا يشعرون به ، ثم حضن زوجته وقال قبل مغادرته :

- لاتنسيني من دعواتك أيتها المؤمنة ..

استقل سلام الساذج أول سيارة أجرة عند مدخل الحي ، ثم توجه الى المحطة الطرقية ، هناك فضل الجلوس في المقهى في انتظار أصدقائه ، لانه حضر قبل الموعد بساعة كاملة ..

و هو يتأمل المسافرين الداخلين والخارجين عبر بوابة المحطة ، قال في نفسه : يا سبحان الله ، من كان يخطر له أنني أنا القروي الساذج القليل العلم و المعرفة ، سوف أسافر إلى القمر ..

هكذا فكر صاحبنا ، وذاك أنه قبل أن يتعرف على هؤلاء الاصدقاء ، و بعد هجرته الى المدينة بسنة ، لم يكن يعرف الكثير من الأمكنة ، الا المقهى القريب من العمل حيث جمعته بهم الصدفة ، وكذلك مسجد الحي وبعض دكاكين البقالة ، في أيام احتكاكه الاولى بهم ، اكتشف الاصدقاء أنه جاهل تماما بجغرافية العالم ، إذ رفض أن يصدقهم عندما اخبروه أن الارض التي نعيش عليها كروية الشكل و ان لهذه الارض جاذبية لاترى بالعين و ان الجاذبية العظيمة هي ما يمسك الأشياء و الناس كي لايتدحرجوا من فوقها الى أسفل ..

ثم زادت معرفته بالعالم فتأكد و بالصور أن البحار تغطي ثلاثة أرباع مساحة هذه الأرض ، و أن الارض ليست هي المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه ، فثمة المريخ و الزهرة و عطارد و نبتون و المشتري ، لكن و بسبب بعد هذه الكواكب عن الارض فإن تكلفة السفر اليها باهضة ، كما أن جل العمال البسطاء و المياومين الباحثين عن فرص عمل تغطي احتياجاتهم المعيشية ، يكتفون بالذهاب الى القمر .. فالقمر يعج بالكادحين و بالمصانع الكثيرة و المناجم ، الا أن على الذاهب إليه أن يلزم الحذر من اللصوص ، و المتسولين و النصابين و العاهرات ، لأن أعدادهم تفوق المتوقع بكثير ، أما اللصوص فإنهم يتسللون الى القمر عبر مركبات سريعة لايملك أصحابها رخصا ، بينما الاخطر هم النصابون الذين يوهمونك بقدرتهم على السفر بك الى المريخ بينما هم انفسهم لايعرفون كيف يغادرون أمكنتهم ..

مرت ساعة فساعتين و لم يحضر اصدقاء سلام ، فساورته الشكوك و الظنون ، كأن يكون امرهم قد افتضح مع السطلة التي تمنع السفر الى القمر بطرق غير شرعية ، أو ان تكون كبسولتهم قد تعرضت لعطل تقني ، بينما لم يعد يملك المزيد من الصبر ، فتلك نقوده قاربت على الانتهاء ، هو الذي باع قطعة من ارض ورثها عن ابيه من أجل خوض غمار هذه المغامرة التي يعتقد أنها مربحة ، فكان يغطي مصاريف اصدقائه الكثيرة ، اضافة الى تكفله بتوفير احتياجاتهم البسيطة مثل السجائر و الجرائد و كان يدفع لهم أيضا مقابل فناجين القهوة و الساندويشتات ، إلا أن أكبر ما كاد يسبب في افلاسه هي النقود التي دفعها لصاحب الكبسولة ، لقاء هذا الذهاب الموعود الى القمر ..

في ذلك الصباح البائس ، طال انتظاره حتى تعبت اعصابه ، و حين قاربت الساعة منتصف النهار ، حمل حقيبته غاضبا ثم توجه نحو المقهى حيث تعرف على أصدقائه اول مرة و فيها ايضا كانوا يلتقون ، حين سأل النادل عنهم ، أخبره النادل أنهم لم يحضروا منذ يومين ، عاد بعد ذلك الى بيته حزينا كسير الخاطر ، فلم تجد زوجته بدا من مواساته والتخفيف عنه ، بعدما سألته إن كان بحث عنهم جيدا ، فإذا به يخبرها أنه لايعرف أين يسكنون ..

بعد أيام قليلة ، شاع بين الناس خبر مضحك مفاده ، أن جماعة من المثقفين العاطلين ، لعبوا لعبة حقيرة برجل ساذج جدا ، حيث أو هموه بأنهم ينظمون رحلات سرية تمكن الراغبين في عمل من النزول على سطح القمر ..

كل من يسمع هذه الحكاية الغريبة يضحك ماطاب له ،
- ياسبحان الله ، هل يوجد بيننا فعلا اناس بمثل هذه السذاجة ؟ ! نعم هذا ما يحدث الجميع يظنون انفسهم اذكياء و نبهاء ، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما ، و مع الوقت و هو يسمع تصريحات الناس حول قضيته تأكد أنه تم النصب عليه ، و أن القصة كلها محض لهو و سخرية ..

لكن الغريب جدا ، أن الناس اهتموا بغبائه و تداولوه بينهم مثل نكتة مسلية ، حتى اصبح سلام الساذج مضرب المثل في البلادة و لا أحد فكر في معاقبة أو اتهام أولئك النصابين ، و السبب راجع لنوع المعلومات المجنونة التي أخبروه بها ، اذ من غير المعقول أن يصدق عاقل في هذا العالم أن القمر مأهول بالعمال ، و ان الكواكب الاخرى أشبه بفنادق خمسة نجوم ، فالعلم الحديث مازال عاجزا عن اكتشاف أية حياة اخرى خارج كوكب الارض ، بل حتى شكل الارض نفسها مازال الباحثون يختلفون فيه ..

أصبحت حياة سلام الساذج لا تطاق ، ففي العمل جميع زملائه يسخرون منه ، وحتى يوم وقفوا وقفة احتجاج على الاقتطاعات الظالمة من أجورهم ، رفعوا لافتات ، مكتوب عليها ( لاتحسبوننا مثل سلام )

و هو يقدم شكايته للسلطات ، سأله مفوض الشرطة عن أوصاف الجناة ، فقال :

- انهم مثقفون .
قال المفوض :
- كيف عرفت انهم كذلك و انت اكبر جاهل في العالم ؟
قال سلام :

- كانوا يتحدثون في كل شيء ، بداية الخلق و نهاية العالم ، كانوا يتجادلون حول اللغة و قواعدها و البلاغة و النحو و علم العروض ، كثيرا ما تخاصموا حول شرعية قصيدة النثر ، و تجادولوا بشأن القرآن الكريم و الاحاديث النبوية الشريفة ، تحاجوا كثيرا فيما بينهم يا سيدي ، وكنت حاضرا اسمعهم طوال اشهر ، بعضهم تحدث عن السياسات الدولية و الهيمنة الامريكة و كيف أن الصين قادرة على اكتساح العالم اقتصاديا ، و كانوا جد بارعين في تحليل طرق و اساليب استغلال الصهيونية العالمية لسذاجة شعوب العالم العربية منها و الغريية على حد سواء ، كانوا يعرفون الكثير و افواههم تلهج طوال اليوم بكلمات مثل ابستمولوجيا جينولوجيا سيكولوجيا جيولوجيا ميتافيزيقيا و لقد شددوا كثيرا على أهمية السفسطائية و اتفقوا أنها أم العلوم ، و أنها فلسفة الواقع ..

استغرب المفوض لحديث سلام و قال :
- انك مثقف خطير ايها الرجل ! كيف تعرف كل هذا ؟ لم يقولون عنك جاهل .. ؟

قال سلام :
- انها مجرد كلمات احفظها سيدي و لا اعرف معناها ، فان اردت ان تتأكد من هذا اسألني مثلا عن كلمة وردت في جوابي و انا أخبره كيف أفهمها ..

تبسم المفوض و قال :

- حسنا مامعنى كلمة بلاغة ؟

قال سلام : معناها البلغة التي نلبسها و هي مثل الحذاء ، فان قلبتها صارت بغلة ، و البغلة هي انثى البغل ، و البغل حيوان نركبه و يجوز لنا ان نركبه و نحن نلبس بلغة ، فان لبست بلغة وركبت بغلة ، كانت تلك هي البلاغة ..

ضحك المفوض حتى سال لعابه على ربطة عنقه ثم طلب منه وصف أشكال هؤلاء الجناة ، لكن و بعدما فصل سلام في ذكر نوع ملابسهم و عاداتهم و طباعهم قال المفوض :

- أنك تتهم شريحة كاملة من مثقفي هذا العالم و ليس ثلاثة أشخاص كما تدعي ..

و مع تزايد اهتمام الناس بهذا الخبر العجيب ، ظهرت جمعية حقوقية اطقلت على نفسها ( لاتستغلوا السذج ) فكان أن تكلف رئيسها واعضاؤها بالتعريف بسلام و ما وقع له ، ثم حدث ان نظمت القناة التلفزية الوطنية لقاء مباشرا مع سلام ، فلاحظ مديرو القناة أنها انجح حلقة على الاطلاق اذ تزايدت نسبة المشاهدة بشكل غير مسبوق ،
كل الناس يقفون امام الشاشات مبهورين بمدى عبقرية هذا الرجل الساذج ، و كيف وهبه الله قدرة خاصة على تصديق أكبر انواع الكذب و الايمان بها ..

بعد أقل من سنة أصبح سلام مشهورا وثريا جدا ، و اصبحت لديه استديوهات كبيرة لتسجيل برامج كاملة من التفاهة و الترويج لثقافة السذج ، بعدما أطلق على مقره الواقع في احدى العمارات الراقية وسط المدينة ، اسم مؤسسة ( الغفلة و المغفلين ) ..

فجأة اكتشفت الأمة مدى أهمية ان تكون مغفلا ، و مدى حاجة العالم للسذج و تأثيرهم الكبير في الثقافة و العلوم و الادب و الفكر و الاختراع ..

و هكذا تسابقت جل المحطات الاذاعية و التلفزية على سلام مخصصة له لقاءات حوارية كثيرة مستغلة شهرته ، و أشهرها برنامج ( الساذج الذي اراد الذهاب الى القمر ) و الفيديو الخاص بهذه السلسلة موجود على يوتيوب و قد حقق اعلى نسبة مشاهدة .. لن تجدوا له رابطا أسفل صفحتي ..

في إحدى الحلقات سأل الصحفي سلاما :

- هل من نصيحة يمكنكم ان تقدموها للشباب الصاعد أستاذ سلام ..

قال سلام و على وجهه أعتى ملامح الجدية :

- لا تهتموا بأي شيء ، لا تفكروا بجدية ، اتركوا غيركم يفكرون ، فان التفكير مشقة و مضيعة للوقت و الجهد ، و إن المفكرين بالنيابة عنكم بارعون فيما يفعلون ..

توقف سلام عن الحديث قليلا مستمتعا بروعة اللحظة التاريخية ، ثم أضاف :

أرجو من السادة الذين يتابعونني على انستغرام و توير أن يحترموا خصوصياتي قليلا ، و ايضا اولئك المتعالمين الذين يهاجمون بالنقد الهدام السلسلة التوعوية الناجحة جدا و التي تقدمها زوجتي على يوتيوب ، فإن كانت تقدم نصائح للنساء المتزوجات فهي لاتعلب ، ألم يقولوا خلف كل رجل عظيم امرأة .. ؟!

و على كل حال أقول لهم : أيها الفاشلون ، ماذا أفادتكم شواهدكم العلمية ؟ و إن كنتم تسخرون مني لأنني صدقت ذات يوم أنني سوف أسافر الى القمر ، فإنكم أنتم أيضا صدقتم أن علمكم أقوى من جهلنا الجميل ، و على كل حال ، دعوني أقول لكم : ان القافلة تنبح و الكلاب تسير ..

بعد جملته هذه ، ضج الاستوديو بالتصفيق الحار ، و قد قام الجمهور الحضور وقوفا تقديرا و اجلالا للرجل ، كان مشهدا عظيما تخشع له القلوب و تقشعر له الابدان ، و هي تشاهده بكت زوجته من فرحتها و كانت تجلس محاطة بالخادمات في الفيلا الجديدة التي قدمتها احدى شركات الاشهار هدية لزوجها ..... زوجها الذي اصبحت تفخر به على كل نساء العالم ..

محمد الطايع




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى