أنيسة الزياني - صحوة.. قصة قصيرة

فوق المدرج الخشبي، جلست محشورة بين صحبها من الشباب والشابات المتمازحين مع بعضهم ريثما يبدأ الحفل الغنائي الراقص، ولم تكن هي كعادتها في باقي الليالي الصاخبة، فقد تلبسها الصمت والهدوء منذ وصولها المدرج، وما ان رفعت الستارة، ولاح المغني ببدلته البيضاء وشعره المنكوش وسلاسله الذهبية تحيط برقبته ورسغه الأيمن حتى ضج المدرج بالتصفيق والتصفير مرحبا بالبدر المطل.
كان صمتها غريبا عليها ولافتا في آن واحد، ما دعا اصحابها الى تشجيعها من خلال مشاركتهم التصفيق والتعبير عن انتشائها بالتمايل والرقص مثلهم، لكنها تمنعت وجمدت في مكانها، تخترق نظراتها الظلام المضاء تشهد اولئك المنتشين من الشيب والشباب الذين لم يتمالكوا انفسهم فوقفوا يهزون خصورهم كما النساء، وآخرون يحزمون جاراتهم على المقاعد ويراقصونهن مترنحين مع المغني الطرب لا بصوته النشاز بل بقدرته على ترقيص هذا الكم الهائل وافقادهم احتشامهم ووقارهم.
حاول اصحابها ايقافها وتحزيمها، ولكن الجسد أبى إلا ان يكون جالسا يتحسس تجاوب المدرج لتلك الاهتزازات، اهتزازات الاجساد فوقه، فهو يوشك ان يقع بمن عليه، صعقت حين تراءى لها سقوطها معهم في الهاوية واي هاوية هذه، هل ستكون نهايتها على النقيض من نهاية جدها العزيز الذي قضى وهو ساجد لله، ووالدها الحبيب الذي ودع الدنيا وهو يرتل القرآن، هذه النهاية لن تجمعها بمن اشتاقت النفس للقياه وعناقه في ذاك العالم السماوي.
رباه أين هي,,,؟ وماذا تفعل في هذا الحفل الماجن؟ الكل غير واع لما يفعله,,, رباه اكانت هي هكذا منذ ليال مضت، يا إلهي، تسارعت دقات قلبها فزعا من جوابها،تكاد تكبو بها قدماها وهي تنزل عن السلالم جريا، فارة مما يحيط بها من جنون.
كان الوقت متأخرا حين وصلت غرفتها، وقفت امام مرآتها المستديرة تناظر صورتها الغريبة عليها، تتساءل عن تلك الاصباغ التي تكدست فوق الطاولة ومن ثم بشرتها، وكانت الاجابة المحزنة، امسكت القطن المشرب تزيل ذاك الوجه الملون الذي غطت به وجهها لم تفلح فالألوان كثيرة بكت ندما فسال الاسود واختلط بالابيض والاحمر والازرق، وزادها ألما جديدا اتجهت نحو الحمام تغتسل، لكنها لم تكتف، سارعت والأمطار تهطل غزيرة الى بركة السباحة، تغرق جسدها في مياهها لتعود الى السطح بقوة تلتقط انفاسها، فتتلقاها زخات المطر المنهمرة تطهرها، تعيد الكرة مرات ومرات فتطهر وتطهر وتطهر، الى ان صدح الفجر الله اكبر تتردد في المآذن شامخة، فراحت ترددها وهي عائدة الى غرفتها باحثة عن سجادتها المنسية، وجدتها مطوية تحت السرير، سحبتها نفضت عنها الغبار، وفرشتها كبَّرت باكية تصلي منتحبة على ما راح من عمرها القصير لاهية، عابثة، وغفت على سجادتها المغتسلة بدموع التوبة.
ومع طلائع شمس النهار وقفت مرة اخرى امام المرآة وازاحت بابتسامتها ما اصطف عليها من ادوات الزينة في سلة قشية فاضت بها مرتين، ثم راحت تتأمل وجهها الجديد المكتسي بصفاء لم تعهده من قبل، وقد التف حوله خمار اسود منقوشة حواشيه بحبات ترتر خففت من سواده، تبسمت لمولدها الجديد، فاليوم نهاية اعوام تاهت فيها، وبداية لأعوام مقبلة تعوض فيها ما اضاعته.

* كاتبة بحرينية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى