أمل الكردفاني - فلسفة الخلود.. كثافة الإنغماس الحيوي

اخبرني صديق بأن التعلمجية (مدربي المجندين الجدد من العسكر) يقولون: (النوم بجيب التفاكير)...
هذه المقولة جيدة رغم ما تبدو عليه من بساطة، إذ أن عدم بذل جهد بدني باستمرار يترك العقل منغمساً في التوَهُّمات. إن العمال قليلاً ما يفكرون، لأنهم لا يجدون مساحة لأدمغتهم كي تفكر. والعامل الذي يفكر يضعف إنتاجه وقد يترك العمل. إن العامل يسقط ميتاً فقط...إن إنشغالنا بالموت هو نتاج رفاهيتنا كبشر، رفاهية أن تمتلك حساباً تقرأ به هذا المقال. هذه الرفاهية أعطت مساحة أكبر لأدمغتنا كي تفكر أكثر في مصيرها. هذا لا يعني أن هذه الأسئلة جديدة، لكنها رغم قِدمها إلا أنها كانت داخل إطار محدود، يتمثل في عقل الفلاسفة الوضعيين والمثاليين..هؤلاء الأُخَر الذين تحولوا لوكلاء سماويين. أنتجت تلك الإنشغالات (الأساطير، الأديان والنظريات)، ولكنها اليوم تنتهج منهجاً عدمياً، وهو منهج لذيذ، يدغدغ الفؤاد، لأنه يمثل المقاومة الأخيرة لنا في مواجهة سيطرة المفاهيم الرأسمالية التي تعززها الأدوات الإعلامية، إذ يجب دائماً أن تعمل، لكي تكسب مالاً وتتمكن من الإدخار، أن تشتري قصراً وسيارة فخمة، وتحب امرأة حسناء انتهازية، مثل ما فعل هشام طلعت فانتهى الأمر إلى استنزافه وانتهى بسوزان تميم إلى الموت قتلاً...
هكذا الرأسمالية اليوم تتعزز بالميديا والسوشال ميديا...وأيضاً تعزز شعور البشر بضآلة قيمتهم، وضآلة ما ننشده من حياة. فيتجه البعض للتطرف نحو الغيبيات، ويتجه آخرون إلى العمل. العمل ومزيداً من العمل ولا شيء سوى العمل..حتى بلغنا مرحلة اليأس الشامل، مرحلة الشعور بانعدام المعنى..واللا جدوى...فنشأ منهج عدمي للحياة، أي الغرق في الإدمان. إدمان القصص الحزينة والقصائد والأغنيات التي تنعى حبنا للحياة وتشيعه لأقرب مقبرة؛ وهو إدمان حزين في كل الأحوال.
ما بعد الموت ظل الأمل لآلاف السنين، ولكنه اليوم فقد قيمته تلك. الموت اصبح هو الموت. أي الإنطفاء، ويعود بالتالي لحقيقته المجردة..وبما أننا مهما تحدثنا عنه سيظل تصورنا عنه مجرد خيالات وكوابيس..فلا أحد سيلتقي بموته أبداً.
اللقاء بالموت:
اللقاء بالموت وهم ضالع جرَّاء الأسطورة، إذ أن الظاهر العام والمُدرَك لا يعطنا أي مؤشرات لغير ذلك. بل على العكس، إن كل الظواهر القريبة من الموت تشير إلى أننا لن نعرف أبداً بأننا قد مِتنا..لن نعرف بأننا انطفأنا...إن المُغمى عليه ومن تعرض لغيبوبة مؤقتة لا يخبرنا بأنه كان يعرف أنه في غيبوبة..إننا في الواقع من نخبره بذلك...فهذه الحوادث -الأقل تكلفة من الموت إذ ليس فيها عطل دماغي شامل- تكشف لنا (جزئياً) عن وضعنا عندما ننطفئ إنطفاءة كاملة.. وعندما يقع المرء في الغيبوبة فإن انطفاءه يعني انطفاء وعيه بالحياة...ولكنه لا يدرك -في تلك اللحظة- أنه لا يعي الحياة. فهو لا يعي وحسب. إنه شيء بلا وعي، بحيث لا يختلف عن الكرسي وفرشة الأسنان. لذلك فالمرء لا يلتقي بموته أبداً. إن وعيه فقط هو هُنا والآن، أي داخل هذه الحياة...
وإذا كان الوعي هو الحياة والحياة هي الوعي، وإذا كنا لا نلتقي بموتنا، فإننا عالقون دائماً في الحياة..إننا خالدون في الحياة..إذ لا سبيل أمامنا إلى الوعي بغير الحياة...الآخرون يدركون الموت بغيرهم وليس بأنفسهم، هم يلتقون بموت الآخرين..ولكنهم لا يلتقون بموتهم هم. ولذلك فإن الميت يمضي إلى حيث مضى ويظل الحي واعياً بحياته خالداً بوعيه داخلها.
فالخلود لا يُفهم بالزمن...بل بالوعي..وهذا الوعي يظل وعينا..ولن نلتقي بانعدام هذا الوعي أبداً..أي لن نلتقي بالموت..إذاً فنحن واعون دائماً..وهذا الخلود الحقيقي..الخلود الموضوعي...فالموتى ليسوا خالدين في موتهم..إلا إن كانوا واعين به وهذا لا يتحقق.
إن وعينا بهذا الخلود قابع في عقلنا الباطن، لذلك، نستطيع أن نأكل لحم كائن ميت كان حياً من قبل..فنحن لن نسأل: أين ذهبت البقرة الآن؟..لأن هذا سيبدو سؤالاً ساذجاً... لقد ماتت فحسب...إن هذا السؤال يوجه لجثة كائن حي آخر عندما يموت، وهو الإنسان، لأننا نشعر بتشاركنا الجماعي كجنس بشري. إذ ليس من المفترض أن نموت. ولكن يجوز للبقرة والدجاجة والخنزير والجرادة والشاة...أن تموت..وفوق هذا؛ من المفترض أننا لا نموت بالفعل، بل نهاجر -بشكل أو بآخر- إلى عالم مختلف، رغم أنه ليس للكائنات الحية نفس هذا الحق. ولذلك فنحن نذبح تلك الكائنات بضمير مستريح.
نحن لا نلتقي بموتنا، ومشغولون بنرجسية مزمنة تجاه الموت، إذ لا يجوز أن نفنى ككائنات أرقى تطوراً. وعلينا -أكثر من ذلك- أن نرفض نظرية التطور، لأنها تساوينا بالكائنات الحية الأخرى، بل تجعلها أكثر منا أصالة. (مع ملاحظة أنني غير مقتنع بنظرية التطور لأسباب أخرى).
نحن لا نلتقي بموتنا، بل نخلد في الحياة..وإذا كانت هذه حقيقة، فيجب أن نتعامل مع الحياة كخالدين لا كعابرين. ولكي نتعامل معها كخالدين يجب أن ننغمس فيها بكل ملكاتنا الحسية والحدسية..أي ننغمس فيها حيوياً.. صراعاتنا الإجتماعية والسياسية، أغانينا، رقصنا، شغفنا، يجب أن نفهم بأن الشقاء هو نفسه وجه آخر للخلود بحيوية الإنغماس: الإفلاس، العطش، الجوع، الخوف، الحرب وحتى موت الآخرين وكل شيء سلبي أو إيجابي يربطنا بالحياة، أي يعزز خلودنا أي وعينا بأننا أحياء...إن هذه اللحظة الحيوية بلا بداية ولا نهاية، إذ لا نعي عدمنا السابق ولا عدمنا اللاحق، نحن نعيها هي فقط. وكما لم نهتم كثيراً بعدم وعينا قبل مليار سنة، فيجب كذلك ألا نهتم بعدم وعينا بعد مليار سنة..إذ في كل الأحوال فنحن لن نلتقي بذلك العدم..إننا نشعر بذواتنا...وهذا هو الوجود الخالد.. وككوجيتو جديد: (إنا أشعر بذاتي..إذاً أنا موجود وخالد)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى