د. سامي عبد العال - الخُروج إلى البحر

البحر معنى، فكرة، حقيقة، كذلك خيال وأوهام، هو الكائن واللاكائن، الحياة والموت... إنه يشكل رقعة أحلامنا وهواجسنا.. هذا التناقض هو مجمل صورته. لماذا لا يكون موضُوعاً فلسفياً؟! كيف نقرأ دلالات البحر ( في اللاهوت والفكر والسياسة) بحيث يكون لدينا تاريخ فكري للماء؟ إذ اعتبرت التقاليد الفلسفية أنَّ المياه أحد عناصر الطبيعة(الماء، الهواء، التراب، النار). ولم يكُن ذلك لاستبطان جوهر المياه، بل لتفسير التغير الطبيعي وظواهره. بالمقابل ُتُرِكّت فضاءات البحار كمجال للحروب والمعارك بين المدن-الدول( أثينا واسبرطة قديماً)، كان البحر يأتي بأخبار الهزائم والانتصارات وحطام المعارك.

منذ قُول طاليس: الماء أصل الوجود لم يُدْرج المياه صراحةً إلاَّ كموضوعٍ علمي. ودوماً كانت الموضوعات تشير إلى إطار المعرفة الذي يهتم بها. وكنا في انتظار سنوات وراء سنوات، حتى يكتب الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار كتابه المهم(ماء وأحلام)water and dreams[1] حول الماء والأحلام والتخيلات والمادة، وقد أفاض في أنواع الماء بحسب المفاهيم والمعتقدات والتصورات النفسية، وناقش الماء والحلم، الماء والتطهر، الماء الهادئ، الماء العنيف وكلام الماء.

أمَّا ابداعياً، فقد كان البحر مصدراً للإلهام والعبور نحو العالم الآخر. وهذا ما يؤكد دلالته اللاهوتية والأدبية في تراث الإنسان باختلاف الثقافات. ولاسيما أنَّ البحر دالٌ لغوي أثار دهشة الإنسان وحيرته. لقد سكَن اللغة كموطن لانسلال الدلالة من ربقة المحدود، والمهيمن. وغدا رمزاً لفيض الروح في المذاهب والاتجاهات الصوفية والأشعار واللغة والقصص الشعبية والأساطير. وعادَ بالنُصوص إلى أصل الحياة كوسيطٍ شفافٍ يلامس الجسد والنفس معاً. يطرحُ "غمْرَ اليابس" ليعالج تشققات الروح وينخر صخور الحياة، البحر يذكرنا بالحركة الدائبة والأمواج العاتية والأنواء العاصفة. ولعلَّ ارتطام الأمواج تلو الأخرى يوازي مثابرة الإنسان لزحزحة المصير. فكلُّ ذوبان للمشكلات يحتاج محاولات لا تنتهي، تعاود ضرباتها بشكلٍّ لا يُمل. الأمواج ترسم درباً لإرادة قادرة على التحرر شريطة ألاَّ تتوقف عما تصبُو إليه.

معاني المجهول تقبع في البحر كمجال مليء بالكائنات والأفكار الغريبة. فلن يسلم أيُّ مفهوم تقليدي من البلَّل، من الغرق. البلل الذي سيسرب التحلُّل إلي أفكارنا كعبء وجودي ثقيل. الأفكار اليابسة فيما يبدو والتي نخشى عليها من الضياع. والقول الشعبي يومئ بحنكة: (إذا جاءك الطوفان، ضَّعْ ابنك بين رجليك)، والمماثلة بين الابن والفكر لا تفوتُنا، حتى بصدد أسئلة الإبداع وغرابته: هذا المعنى أو ذاك من بنات أفكاري. ومجازاً العقل ابن الإنسان كما يرتبط بمفهوم المؤلف ما قبل الحديث before modern. بينما المؤلف ما بعد الحديث لم يفقد ابنه( الفكر – النص) فقط، بل اعلنت ما بعد الحداثة عن موت المؤلف نفسه (ميشل فوكو– رولان بارت)، تحلل في تربة اللغة ليظهر (بطريقة التناسخ) في أشكال نصيةٍ تالية.

كان موت المؤلف لصالح اللغة كنظام اختلاف وإرجاء وغياب، وهو ما يلتقي من طرفٍ قصي مع البحر. اللغة مياه جارفة تعيد المتلقي أو البَحّار إلى واجهة النصوص( القراءة). تأتي القراءة كفعل ابحار وسط العواصف النصية العاتية بلا ضفاف. كل نص هو مياه دافقة بأعماقها الموروثة (التناص) لتضخ أمواجاً لا قبل لسلطة التأليف بها (فيض التأويل). ولم تكن القراءة لتجد عائقاً في اللغة كمياه تاريخية هادرة بقدر السلطة الراسية بأعماقها. ولذلك تُحرِّك كل قراءة رواسب القاع مثلما تتحرك أمواج السطح، إنَّ ما يلفظه البحر من إشارات لا تقل عما تلتقطه القراءة من عمليات ابحار محفوفة بالمخاطر.
وإذا أراد الفلاسفة والمفكرون اصطياد أفكار طازجة ككائنات البحر الغاص بالحياة، فهناك المغامرة وامتطاء الأهوال( كتابة الفاجعة: موريس بلانشو). وكما كان نيتشه يتفلسف من أعلى الجبال تحت أثداء السحب أو عند درجة الصفر، كذلك "المفكر البَحّار"sea thinker يتطلب عقلاً فلسفياً شجاعاً. يلتقط الأفكار من ألسنة الأمواج ومن مصارعة العواصف. وذلك يحتاج شراعاً قوياً إزاء خلسات الفكر. ومن يختار البحر سيغوص في أعماق سحيقةٍ تفجر رئتيه الميتافيزيقيتين بحثاً عن اللؤلؤ والأحجار الكريمة. أي لن تعود الميتافيزيقا التقليدية بالنفع على غواص البحر، أضحت المفاهيم كسفن القراصنة تتحطم تحت ضربات الأمواج!!

لغة البحر موسيقى تستعصي على نوتة المذاهب الفلسفية الكبرى، لكونه أهوج حتى في سكونه البادي. وتمثل رمزية البحر فضاءً لحريةٍ دون نهايةٍ. إنها عالم قائم بذاته، كونه يحتمل كافة الأوجه والمصائر. وجودٌ بلا ثوابت ولا حقائق ولا نهايات ولا أسوار كأنَّه واقع خيالي لدرجة الابهار. فقط البحر رغبات وأسئلة ممتدة بطول البصر. حيث يلتقي هو والسماء عند نقطة التلاشي المزدوج. نقطة الصعود والهبوط – رأساً وأفقاً- بين السماء والأرض. فإذا نظرنا مع الرياح سنجد السماء بحراً مقلوباً إلى فوق. ولئن ركزنا على المياه سنجد السماء مياه زرقاء لامعة الأسطح. قيعان طافية وألوان متماوجة تتطاير إلينا من بعيدٍ. بينما الأشكال المارقة من النظر جواهر، ماهيات تترسب في باطن الدماغ. دماغٌ لعالم يتقلص بين أعلى لا أرض له وأرض لا سماء لها... إنه الأفق المائي الذي يُخفِي ألغازاً كونية. لا يمتلك المُشاهد لآفاق البحر إلاَّ الدهشة تطلعاً إلى الـ" ما وراء".
كيف إذن نرى العالم، الحياة، المعاني هنالك؟! وحين نخرج إلى البحر، هل نملك خروجاً منه؟ نحن خلاله قد نغادر مكاناً ما ولكنه لا يغادرنا. لأننا مسكونون بخيال يلازمنا حوله ويستحيل الخروج (منه). فهو من استعارات الحياة التي تعمل مع عقولنا ومع طبيعة اللغة. لكل منا بَحْرُه الخاص مثلما لنا طبيعتنا المائية النوعية. أي يستحيل الخروج بحرف الجر(من) البائن بين قوسين. فالحرف يدل على الانفصال الذي كان اتصالاً ومازال. الأرجح مجازياً أنَّه خُروج (إليه – منه والعكس) بما يعين وجودنا في حضوره وغيابه. وتعبير(الخروج من) ناقل للحركة ضمن البحر كأبرز كياناً مائياً يسكن آفاقنا الرحبة. ذلك في حال تحرر الآفاق من الطرق الضيقة والانحشار المحدود داخل الواقع اليومي.

وبطريقة فينومينولوجية phenomenologically، يطغى الإحساس الواعي الممتد على حالة الشعور الآني المؤقت. لكونه تجسيداً لتراكم التجليات المرتبطة بالتمثُل والتذكُر والتخيُل، لأن البحر يتشكل من جهة الرمز ارتباطاً بذاكرة اللغة والحياة. وهذه الذاكرة تشكل جُلَّ أفعال الإنسان، هي حصى وتراب تفكيره العميق بأزمنته السحيقة. فالإنسان( كائن مائي ترابي وناري وهوائي)، الأمشاج والأخلاط- بلغة القدماء- هي التي تصوغ رؤاه البعيدة حول الأشياء والعالم. ولهذا ليست دلالة البحر تمثيلاً لمادة خارجية هي المياه المعتادة. إنها تفيض داخلنا حين نتوحد بها في ممارسة خيالنا النوعي. والمياه- بلغة امبرتو إيكو- لون من التأويل المُضاعف over interpretation، الذي ينفرط عَقدّة بلا تحكُّم فيه كمادة سحرية فائقة الوصف. الماء هو الغرق بمقدار ما هو الطفو، الماء هو الحياة والطوفان، الفيض والانحسار، الأهوال والهدوء، الغربة والحضور، إنه الذهاب بلا عودة وهو الوعود المنتظرة، ولقد رأيناه مؤخراً فضاءً حيث اللاجئين الذين لفظتهم حياة العرب، هو حافظ الأسرار ووشوشة الأغيار.
فالرؤية تجاه الماء( حيث الماء فوق الماء) غير محصورة زمانياً ولا مكانياً. لأن البحر ليس عنصراً بطريقة الأشياء المألوفة. فقط هو عيون بحجم السماء تنظر إلى عيون تترامى وتخاتل النظر. هناك أطياف من الأمواج المتدافعة التي تجري خلف بعضها البعض، هي تأتي قوية ومتناثرة في الهواء الطلق. فضلاً عن أصوات مكتومة تنشرها هنا وهناك. كأنها أنين هو الغمر الأبدي الذي يأخذنا نحو المصير، تلك البداية والنهاية المطلقة للصمت. فحيث يوجد بحر يوجد صمت يتكلم عن قرب راهن(الوشوشة). لعله يهمس بأصوات الوجود الساكن كالحياة والموت لا يفترقان. كلاهما يقبع بالداخل المظلم، فلا نرى شيئاً واضحاً.

البحر انفتاح بلا عودة، تغير دائم يحوى- كما يقول اليوناني هيراقليطس - اختلاط المياه والنيران. والاختلاط ليس عملية جارية على عنصرين منفصلين إنَّما متحولين عن بعضهما. الماء يصبح نيراناً والنيران تمسي ماءً. سيولة السيرورة التي تتقلب بلا توقفٍ. لذلك فأنت- برأي هيراقليطس أيضاً- لا تستطيع نزول المياه نهراً أو بحراً مرتين، لأنَّ طبيعتها غير خاضعة للتكرار كما نعتاد. هل البحر غياب أم حضور دائم؟ إنه الغياب الحاضر أبداً. مثله كمثل الآلهة الخفية التي تترقبنا عبر الموجودات كما في الأساطير القديمة. وبالتالي البحر لا نقيض له، لأنَّ مياهه تشكل العالم. وأبداً ليست اليابسة عكس البحر لكونها لا تخلو من المياه بأشكالها. وقد كان مصدراً للطوفان الذي سبب بداية جديدة لحياة الإنسان. صحيح البداية كانت لاهوتية في واقعة الطوفان من حيث تاريخ الحياة. وأُخذت كآية على الخلق، لكنها أكدت دور المياه في الموت والإنشاء من جديد. لا يخلو البحر من الأثر الإلهي حيث ذكرت الكتب المقدسة عرش الإله فوق وجه الغمر( وكان عرشُه على الماء). حيث يسود هُلام التكوين الأولي نحو الحياة التي نلامسها مع وجود الماء.
من هنا كان البحر سؤالاً فلسفياً نتشوف إليه داخلنا. لم ير الإنسان البحر دون التساؤل حول ما يخفي ويخبئ عنا من أسرار. فهو يوجد بالاستعارات metaphors على البعد والقرب، ينتزعنا من خناق التحديد إلى انفساح الرؤى. والخروج إليه سيتم بمطلق الرحب والسعة. لأنه يلتقي عند نقطة تلامس البحر مع حريتنا المتطلعة إلى كسر القيود. والشيء اللطيف أن هذا ما يرادف أخيراً بين حرفي الجر (من وإلى). فالخروج إليه يساوي الخروج منه كما أشرت، فأي خروج هو في الحقيقة عودة إليه. ففي الوقت الذي نظن الابتعاد عنه سيكون داخلنا ونحن عبره. إنَّه ضفاف الأسرار والأعماق المأمولة التي تنتظرنا بموضع ما.

كان خروج بني اسرائيل من مصر قديما خروجاً إلى البحر. لم يكونوا مدركين المخاطر التي تحيق بهم. الواقعة أضحت لافتة من خلال المياه كما جاءت في الديانات الإبراهيمية. لأن البحر هو مطلق المجهول على الأرض. وكأنهم كانوا يجُسون خلال المستقبل الذي لم يتحدد، بعد أربعين عاماً من التيه بأرض سيناء. وإذا كانت الرواية قد أوردتها النصوص المقدسة، فهي تكشف ارتباط البحر بجملة أشياءٍ.
ثانياً: المغامرة المحفوفة بمخاطر مقبولة طالماً نتطلع إلى التحرر. المخاطر في البحر فرصة سانحة، لا مهرب منها. ثمة توجس يقظ أثناء المسير عبره.

ثالثاً: لا يقين هناك سوى المسير دون ضفاف. وتلك سمة كل نداء ديني أو سياسي أو صوفي. فالنداء مصدره غير معروف بدقة. وذلك حتى يلبيه الإنسان أو لا يلبيه. فلئن لبّاه، فليكن بضمان ذاتي وحسب. وقد يجد نفسه مفقوداً كحال الندَّاهة(هذه الجنية الغامضة) التي تستدرج المارين بجوار الماء. والندَّاهة أدخلها يوسف إدريس حيز الأدب بروايته الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه.
رابعاً: في أعماق البحر، يتجلى الفعل ذاته. الوارد أن المياه أضحت -كما جاء بالقرآن- كالطود العظيم(الجبل الضخم) عندما ضرب موسى البحر بعصاه. وهذه تعني استحالة البحر إلى أفق مختلف. وربما كانت الجوانب النفسية بها كافية لتصوير المشاهد بعبارة مادية، وهي ليست هكذا في الحقيقة، لأنها المفاجئة الوجودية المذهلة بخلاف المألوف.


هذا وقد جاءت الحادثة في الكتاب المقدس كالتالي: " ومدَّ موسى يده على البحر. فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدةٍ كل الليل وجعل البحر يابسة وانشق الماء. فدخل بنو اسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم. وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم. جميع خيل فرعون ومركباته وفرسانه الى وسط البحر. وكان في هزيع الصبح ان الرب اشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب وازعج عسكر المصريين. وخلع بَكّر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريون نهرب من اسرائيل. لأن الرب يقاتل المصريين عنهم فقال الرب لموسى مدَّ يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم . فمد موسى يده على البحر فرجع البحر عند اقبال الصبح الى حاله الدائمة والمصريون هاربون الى لقائه. فدفع الرب المصريين في وسط البحر. فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل ورائهم في البحر. لم يبق منهم ولا واح".( الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح 14/ 21 - 28)


بدا البحر بمثابة الملجأ الذي ينبغي الخروج إليه مع السرد الكوني في حضور الرب، لأنَّ الفكرة أنَّ للبحر معنى عميقاً يضم إرادة ميتافيزيقية خفية. وربما لأول وهلة يدخل البحر كحدث تاريخي في الذاكرة البشرية ويظل علامة فارقة في اللاهوت وتاريخ الأمم. وبمنطوق النص كان الرب حاضراً في قلب هذه الإرادة، يبدأ موسى بمد يده، فيحرك الرب رياحاً شرقية قوية عكس اتجاه السير. اليدان تضعان الأحداث في اتجاه ما. ليظهر درب ممتد بين الماء كرمز للغرق، ويدخل بنو اسرائيل فتكون عن يمينهم ويسارهم أسوار الماء. والملاحظ على الوتيرة ذاتها: يبدأ ما هو بشري (موسى- وبنو اسرائيل) ثم يجري الرب ما يريدون، حتى خرج موسى وشعبه قبل أمر الرب بإطباق المياه على فرعون وجيشه.


وبعيدا عن دلالة البحر القريب، فقد كانت خلفية الحدث، ليست مجرد طريقا إلى الشاطئ الآخر، وهذه سمة مهمة في أي بحر: أن الشاطئ الآخر يحمل النجاة بمقدار ما يمثل وسيطاً فوق العادة. ولذلك يقال لهؤلاء اللاجئين المعاصرين أنهم لاجئون رغم المخاطر حملهم إلى الجانب الآخر. هكذا لجأ كلُّ مطارد من القهر إلى البحر بكل حمولته الثقيلة. وقبل واقعة غرق الفرعون كان البحر (أو اليم) رمزاً لاستعادة الحياة كما خاطب الله أم موسى: ( فإذا خِفت عليه فألقيه في اليّم ولا تخافي ولا تحزني..).. والرضيع الذي ألقته الأم هو الناجي الذي أغرق فرعون لاحقاً. إذن التقت دلالة البحر كموضع للأمان والغرق في المسيرة ذاتها. وليس هناك إلاَّ التفكير في نقطة التقاء الحادثين، وإذا كان البحر واليم واحد من حيث المياه، فمعنى ذلك أن هناك تفكيراً فيما وراء الأمر. لأنَّ الصراع بين موسى والفرعون كان صراعاً يمس الألوهية. وقد صُوّر في السرد عبر كلمات: البحر واليم والأرض والتيه والحركة والرب والنبي. وتلك مفردات القصص الذي يبرز أهمية البحر حين يواصل دلالته المائية في سياق المعنى الاجمالي.

والتاريخ الذي ينتظر ليس بعيداً عن البحر كفعل، بل هو الحبر الذي كتب بها كما جاء في النصوص التوحيدية بأشكال مختلفة ضمن التوراة والإنجيل والقرآن. والمفترض أن الخوف يتناقض مع مصدره وهو البحر، تماماً كما أن الحزن هو الأثر الذي ينتج عن الخوف، غير أنَّ دلالة البحر اختلفت بحسب الواقعة في نطاق كوني. لأنَّ الحضور والغياب بالنسبة للإيمان كما عند أم موسى لم يكن أحدهما على حساب الآخر، تماماً كما لن يكون البحر على حساب اليابسة. ولهذا حرصت النصوص التوحيدية الابراهيمية في إظهار هذا الجدل الكوني- الإنساني لتشكل ذاكرة مترعة بالمعاني الرمزية.

كانت واقعة الطوفان كما جاءت بالكتاب المقدس وسأذكرها كاملة لكونها في ماهية الحدث المائي: " ولما كان نوح ابن ست مئة سنة صار طوفان الماء على الارض، فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه الى الفُلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الارض: دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك، ذكرا وانثى، كما امر الله نوحاً. وحدث بعد السبعة الايام أن مياه الطوفان صارت على الارض. في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثاني، في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الارض اربعين يوما واربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم الى الفلك. هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الارض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح. ودخلت الى نوح الى الفلك، اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا وانثى، من كل ذي جسد، كما امره الله. واغلق الرب عليه. وكان الطوفان اربعين يوما على الارض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الارض. وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الارض، فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الارض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الارض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الارض، وجميع الناس. كل ما في انفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الارض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء. فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الارض مئة وخمسين يوماً.( الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين/ الاصحاح السابع، 7- 25)
هناك عدة معان لتوضيح الدلالة:



    • المياه جذرية، ليست مجرد مياه فيما يرى البشر، رغم أن المياه واحدة ولم تكن من جنس آخر. لكن الإرادة المعبرة عنها أوسع من تفكير البشر الجزئي.​
    • ظاهرة الفيض، الكثرة، هي الدلالة الحاسمة في كل مياه ممكنة. ولذلك تعد المياه أول ما يلفت نظرنا إلى البحر، قدرتها المهولة على توليد الدهشة، فهي غزيرة والغزارة مقترنة بالخطر.​
    • الغمر، حيث لا بحر دون هذه الإمكانية وسيكون الماء هو الرسّام الذي يشكل جوهر الصورة. وكان النص مليئاً بإمكانية الغمر وهو ما يعني التهام رقعة الأرض.​
    • تبدو الأرض مقصودةً، كل الأرض. وطبعاً هناك تقدمة بأن الآثام والشرور ملأت الأرض جوراً وظلماً. وكأن الشرور العامة تحتاج إلى التطهر المتمثل في الماء.​
    • لم تكن المياه علامة لإغفال الحياة، بل كانت بداية أخرى، والبداية عادة تاريخ جذري مغاير. وهي مكان اللحظات النادرة في تاريخ الكرة الأرضية حيث تغيير الوضع القائم. كانت سرديات العذاب والكوارث السابقة مثل قوم عاد وثمود وقوم صالح وغيرهم محدودة بهؤلاء الأقوام، أما دلالة الطوفان، فبحسب دلالة الماء التي لا تبقي ولا تذر.​
    • على المستوى المجازي- وهذا وارد- أن الطوفان يمثل استعارة لأهمية البداية في حياة الإنسان. وارتباطاً بالماء، فهو علامة للتطهر وطلب الغفران لوضع سيناريو الحياة كنوع من القيامة التاريخية.​
    • ليس الطوفان عابراً، إنه حاسم حتى النهاية، وبحجم مساحة الفكرة المفترضة داخله سيكون مؤثراً في حياة البشرية. بحيث هناك ما قبل الطوفان وما بعده وهذا وارد في النص.​
    • الملاحظ أنَّ نوحاً كشخصية ارتبطت به الأرقام التي بلغها عمره( ستمائة سنة وقت الطوفان) والارقام تفيد قطع الزمن لمراحل كبيرة، وهو ما يصب في الجانب المجازي لعظم خطايا البشر وشرورهم. وبمقدار ما تُظهر عظم الشرور سيكون الحدث الكوني متوقعاً.​
    • الكائنات والنباتات والحيوانات التي أختارها الرب لنوح كانت علامات حياة متنوعة، رغم أن النص لم يفْصح عن كيفية تعايش الكائنات المتنافرة مدة المئة والخمسين يوماً وهي زمن الفيضان.​
    • الفُلك أو السفينة شكلت طوق النجاة وارتفعت فوق مستوى الشرور وفوق الأرض، وكأنَّ المعنى أنه حينما يحمل الماء الإنسان ارتفاعاً عن الرزايا سيكون موضعاً لحياة جديدة.​
الحاصل أنّ البحر في كل مواضعه اللاهوتية مضمخ بالدلالات القادرة على إثراء تاريخ الإنسانية. ويعبر عما يكُّون ذهنيات البشر تجاه مفردات الحياة، ولم يكن العقل ليقطع هذه المساحات الشائكة من الأحداث وتفسيراتها سوى بالوعى الفاهم لهذه التحولات الزمنية.


من زاويةٍ أخرى- مع تطور المجتمعات الحديثة - هل البحر أسطورة صيفية حداثية تتجدد مع كل عام؟ وبالتالي هل نستطيع نسيانه حقاً؟ بمعنى آخر: هل بالإمكان تجنب احساساته الغامرة؟ ربما العودة إلى البحر ظاهرة ليست قديمةً كما أشار إليها اللاهوت. هذا إذا كان مُتاحاً- ابتداءً- فقدانُ معناه الإنساني. لأن البحر واصل طريقه كميدان للصراع بين الدول. فيما يعرف بحركة الاستكشافات الجغرافية للعالم الجديد نتيجة الحداثة والتقدم التكنولوجي, مثل الحروب الناجمة عن الاستعمار الحديث على بقاع العالم من قبل القارة الأوروبية حول النفوذ المائي ونهب ثروات الشعوب ونقل العبيد وحركة التجارة العالمية. لقد ظل البحر -كفضاء ساحر ومضمخ بالرعب- موقعاً مناسباً لمغامرة الامبراطوريات والتسابق على إخضاع الشعوب.

إن الرعب القديم ظل راهناً لم ينزح عن البحر، لقد استقر في قاعه ونوّاته واعاصيره. فهو كيان متقلب في تحريك مشاعر الرهبة كلما تتدافع أمواجه مع المجهول. وظل يعكس تطور القوى السياسية والعسكرية التي تمخر خلاله. حتى أن السيطرة على البحار كان شرطا للسيطرة على العالم.

فالإمبراطورية الرومانية كانت سيدة عصرها باسطة نفوذها على معظم المجتمعات آنذاك. لأنها كانت امبراطورية بحرية في المقام الأول. وسُمي البحر المتوسط "بحر الروم" نسبة إلى هذه السيطرة وتطبيقاً للقاعدة السالفة. وعلى الغرار نفسه أطلق الامريكان على أنفسهم الرومان المعاصرين نسبة إلى هذا النفوذ المائي الموروث.


لدرجة أنَّ المَشاهد السياسية وراء البحر تثير الحيرة واستنفار المجتمعات. لأنه، ورغم كونه مياهاً، يعتبر عوالم من الاستراتيجيات والمآرب. ويبدو أنَّ الصراع يتحول إلى توازن الخوف المتبادل بين الدول الكبرى. والتحول يترقب القادم السياسي، فلماذا تكون المياه المفتوحة محملة بالمجهول؟! وبخاصة أنها غير مطروقة الآفاق وتغري أصحاب النفوذ العولمي، وفي الوقت ذاته تتطلب مزيداً من المخاطرة.


وبجانب ذلك هناك في الأدبيات والروايات مصطلح "ركوب البحر". وهو يعبر عن مقارعة الأخطار، وترك الأمر إلى شيء غامض غير مأمون العواقب. كما أنه يحملنا بحسب مفاجآته بما يجعلنا مسلوبي المصير. فالبحر أحد المستحيلات الإنسانية التي تعلن التحدي وتطاول الجوانب التي يتعذر تجاوزها. ولهذا كانت كلمات النص القرآني متماسة مع ذلك:" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أنْ تنفد كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مدداً". فالشيء الذي يتحدث عنه النص بإضمار بلاغي هو اللغة، المعاني، العلامات، الاشارات. وبصرف النظر عن أي شيء، فالكلمات( الدوال) هي بطل المعنى حين تموج مع المياه. واللغة تذهب لتكون بحراً وراء بحر حتى تفي بكلمات الله. وكم تواردت أسماء المعاجم وكتب اللغة في التراث العربي على هذا المنوال مثل: " البحر الزاخر" و"البحر المحيط". والتعبيرات الأكثر بلاغةً تعبيرات تترقرق كالمياه الصافية وتتلاطم كالأمواج وتتصادى كالأعماق.


ولا ننسى أنَّ أوزان الشعر العربي تسمى بالبحور التي قعدها الخليل بن أحمد الفراهيدي ثم تداركها الأخفش مضيفاً إليها. أطلقت لتدل على الإحاطة والشمول والقدرة على مقاربة المستحيل بأساليب وأوزان ممكنة. فخيال الشعراء في عرف العرب يأتي من وادي عبقر المسكون بالشياطين والجان. وأقرب تصوير لإنتاج المعاني سيكون من أخيلة البحر. لأنَّ اللغة تتسم بطبيعة سائلة بجميع تشكيلاتها الاستعارية. فحين نعت اللغة العربية حظها العاثر على لسان حافظ إبراهيم قالت:" أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّر كامنٌ .. فهل سألوا الغوَّاصَ عن صَدَّفاتِي".


والآن مع رفاهية الحياة، جُعلَ البحر موضوعاً للاستمتاع، الاستجمام بإفراط السياحة واعتباره مسرحاً لحياة الإنسان الحرة. وبالتالي لم يخلو البحر حالياً من نبرة فلسفية مختلفة تخص ماهية الحياة وجماليات البيئة وفي هذا الخضم ليس مثل البحر إذ شهد تطاحن المصالح الإقليمية والمذاهب السياسية وترسيم المياه الإقليمية لكل دولة على حدة نتيجة اكتشاف الثروات وبسط النفوذ. ثم كانت خصخصة البحر وجعله سوقاً تجارياً هما صناعة للرأسمال المعولم.


ولهذا بدلاً من الرؤى النظرية كان البحر مجالاً لكشف الأجساد الحرة التي تستلقي على الشواطئ. وباتت الأخيرة تجارة إمام الأمواج التي تغسل هموم الحياة اليومية. وترسم خريطة السياحة التي هي تسويق لضغوط الأنظمة الأجتماعية المعاصرة وسط الرفاهية المعولمة. وهذا جعل من المودات modes والبرانداتbrands هي المعايير العابرة للقارات التي تحدد نمط العيش وتصطنع من فضاء البحر ساحةً ناعمة لأظافر الدول.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى