عبد الرحيم جيران - الهوية: النواة الصلبة والمدار

هناك موقفان اثنان في النظر إلى الهوية: موقف يُنادي بضرورة النظر إليها من زاوية ثباتها في الزمان (الموقف العقلاني ـ الجوهراني)، وموقف يَعُدها متغيرة (الموقف التجريبي، والموقف ما بعد الحداثي)؛ وكل من الموقفين يتصل برؤيتين مختلفتين تعكسان التضاد الذي يكمن خلف تاريخ الفلسفة الغربية: الثبات والتغير.
ولنبسط الإشكالية التي ينبغي مراجعة الموقفين في ضوئها، واقتراح موقف ثالث مستند إلى التضافر التجديلي؛ حيث يُنظر فيه إلى الثبات من خلال ممكنات التغير والعكس واردٌ أيضا.
وتقوم هذه الإشكالية على الأسئلة الآتية: هل يُمْكِن الحديث عن وجود هوية معينة بدون وجود الذي هو عينه؟ وهل يُمْكِن أن يوجد هذا الذي هو عينه بدون استمراره في الزمان كما هو؟ وإذا كانت الهوية فعل تعرف إلى هذا الذي هو عينه ألَا يعني فعلها هذا تذكر شيء مستمِر في هذا الذي هو موضوع تعرف؟ لكن ألَا يعني الاستمرار ثبات الشيء وعدم قبوله التغير في الزمان، والحال أن الموضوعات؛ سواء أكانت كائنات حية أم جمادية، هي في حالة صيرورة من التغيرات؟ وإذا ما كانت الكائنات عرضة للتغير ألا ينتج عن هذا حدوث مشكلات في التعرف إليها كما هي؛ وما يترتب على هذا من مشكلات أخلاقية في تعاطي أفعالها؟ فهل يصح أن يُحاسب من تعرضت هويته للتغير في الزمان الحاضر (أ) على ما اقترفه من فعل قبْل التغير في زمان ماضٍ (ب)؟ فلا بد ـ إذن في هذه الحالة الأخلاقية ـ من وجود شيء قابل للاستمرار في الهوية ـ على الرغم من التغير ـ لكي يتحمل مسؤولية المحاسبة الأخلاقية. لكن هل تتساوى الأوضاع المستمرة في الدلالة على الهوية مع الأوضاع المتغيرة، حتى من زاوية المنظور الأخلاقي لها؟ هل يتساوى استمرار وضع الذات بوصفها ذات تكوين من الملامح الخلْقية ـ في التعرف إليها من قِبَل الآخرين ـ مع وضعها المتغير بوصفها مُقْعَدة أو مجنونة مثلا؟ ومعنى هذا إثارة البعد القيمي في تحديد هوية الذات بما يعنيه من تفهم وتعاطف وشفقة أيضا؛ فهناك ـ إذن تجديل بين ما كانت الذات عليه وما هي عليه الآن في التعرف إليها، لا في الزمان الماضي أو الزمان الحاصر فحسب، بل أيضا في المستقبل وفق ما يُتوقع منها.
نحتاج لكي نتجاوز المشكلات المثارة أعلاه إلى بناء أساس نظري مرِن له القدرة على تفسير التجديل بين خاصيتي الثبات والتغير في سريان الهوية؛ وتحديد الأمكنة التي تشتغل فيها كل من هاتين الخاصيتين. ويُقام هذا الأساس النظري على مفهومين رئيسين هما: النواة الصلبة والمدار. ومن الأكيد أن ما هو كوسمولوجي وارد في استخدام هذين المفهومين، بما يدلان عليه من تفاعل بينهما قائمٍ على الجبذ والنبذ. ونقصد بالنواة الصلبة ما يُشكل مركزُا مُكونا من خاصية أساس ملازمة له أو خاصيات أسس ملازمة، وتُعَد هذه النواة الضامن لاستمرار حياة الشيء أو الكائن، ويُفضي كل تدمير يُصيبها إلى فقدان الشيء أو الكائن هويتهما، بل زوالهما. ويُعَد المدار مُحددا في ما يُحيط بهذه النواة الصلبة من موضوعات وكيانات متعددة، وخاصيات غير أسس أو برانية غير ملازمة لها بالضرورة، ويُؤثر َما يشتمل عليه المدار من موضوعات في النواة الصلبة؛ كما لا تقبل النواة الصلبة التفاعل مع كل ما هو موجود في مدارها؛ بل مع ما هو متلائم معها. ومن ثمة لا تقبل الهوية التفاوض حول صلاحيتها ومدى إمكان تغير بعض من خاصياتها إلا على مستوى مع التفاعل المدار. ويأخذ هذا التفاوض مظهرين: الإضافة التي تتمثل في قبول بعض الخاصيات غير الملازمة والملائمة، والحذف أو التعليق المؤقت اللذين يطولان بعض الخاصيات الملازمة. ويُعَد هذان المظهران نتاج التفاعل بين النواة الصلبة والمدار؛ حيث يكُون هذا الأخير مجال استضافة الغيري ومحاورته، لكن كيف يحدث التفاعل بين النواة الصلبة والمدار في بناء الهوية؟ لا بد للنواة الصلبة ـ في هذا النطاق ـ من أن تُشكل قاعدة مرجعية تتضمن خاصيات بيولوجية (عضوية ـ عصبية) تتكرر وتفرض نفسها بوصفها عناصر ماهياتية؛ إنني لا أستطيع أن أغير شكلي الفيزيقي الكلي وتكويني العصبي، وإذا ما فعلت ففي أجزاء معينة؛ وهناك أيضا خاصيات نفسية تنتمي إلى النواة الصلبة، لكنها نصف ثابتة ومرِنة. إن الأمر يتصل ـ إذن ـ بما هو معطى في التكوين العضوي ـ الذاتي؛ وهو شكل حضور الذات في العالم؛ وهذا الشكل قار وموضوع رهن إشارة محتويات زمانية ـ ثقافية ـ أخلاقية. ومن ثمة فإن الفعل غير وارد في مستوى النواة الصلبة، بل هو وارد بوصفه مظهر التفاعل الحادث بينها والمدار الذي يتضمن موضوعات وكيانات غيرية ذات خاصيات مغايرة. وهكذا يُمْكِن الجزم بأن التغير الذي يطول الهوية ماثل في المحتويات التي تلحق بالشكل الذي يُمثل النواة الصلبة، من جراء التفاعل مع المدار الذي هو مجال الأخلاقي. وما أن نصل إلى هذا التحديد، تُثار مسألة القدرة والفعل؛ فالقدرة تنتمي ـ من حيث هي إمكان عمل مرتبط بالاستعداد للفعل ـ إلى النواة الصلبة؛ لا أستطيع الفعل إلا بما هُيئ لي من قدرة محددة وفق تكويني العضوي ـ النفسي والعصبي. بينما ينتمي الفعل إلى مجال التفاعل مع المدار؛ حيث يَرِدُ التضافر بين الغيرية الدالة على الأخلاقي وارتباط التحققات بنماذج الكينونة التي يضعها المجتمع والثقافة أمام الفرد من أجل أن يُثبت شكل بقائه الجيد. إن تحديد الذات نفسها لا يبدأ إلا في اللحظة التي يصير فيها التفاعل بين النواة الصلبة والمدار ممكنا؛ بما يعنيه هذا من وعي الذات لنفسها في نطاق تجريب استعدادها لأن تكُون محاوِرة للعالم وللآخـــر؛ أي كونها مؤولة لعلاقتها بهما وتقويم فعلها في هذا الإطار. ومن ثمة تُعَد الهوية نتاج هذا التأويل الناتج عن تفاعل النواة الصلبة مع ما يُشكل مدارا لها.
وإذا كان المدار يعمل على التأثير في النواة الصلبة وفق مظهري الإضافة والحذف اللذين أشرنا إليهما سابقا فإن عناصره تقبل بدورها التغير بفعل تأثير النواة الصلبة فيها؛ ويتحدد تأثيرها هذا في مظهرين هما، التبني والتحوير؛ فالمظهر الأول يتجلى في إسناد النواة الصلبة العنصر المتفاعل كما هو إلى نفسها بجعله متلائما مع أسسها المميزة، ويتجلى المظهر الثاني في تحويرها العنصر المتفاعل معها حتى يصير متلائما معها.

٭ أكاديمي وأديب مغربي



- القدس العربي
Jan 26, 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى