عبد الحميد الصائح - هذهِ البلادُ تسكنُها الأرواحْ

هذهِ البلادُ تسكنُها الأرواحْ ،
انّها اقدمُ بلادٍ في الوجودْ ،
قبلَ الملحِ والماء، قبلَ العقلْ، قبلَ الأسطورةِ والتدخينْ، قبلَ البيضةْ.
ولانّ الارواحَ خالدةٌ؛ ظلّت في الفضاءِ
والرمال ، تتقلّبُ مع الطقسِ بعدَ فناءِ الناسْ.
أرواحٌ مختلفة، لكائناتٍ انقرضتْ
واخرى لمْ يُتَحْ لها التجسّد ،
أرواحُ مدنٍ ومبانٍ تهدّمت،
واخرى لمْ تُنشا بعدْ ،
أرواحٌ لمْ تتعفّن..لاتتعفّن،
ولم يستطعْ النمل والماءُ والريح ُ النيلَ منها ،
حتّى البراكينُ لم تستطعْ صهرَها ،
لاتهرم ولاتتكاسل.
ولذلكَ ،
الذين يحاربون هذي البلاد لاينتصرونَ ،
لانّ أرواحَ الجنودِ تعودُ الى البيوت.
• * * *
هذه البلادُ قديمةٌ دائما ،ً
قديمةٌ امس واليوم وقديمةٌ غدا ،
تنتج الانبياء باستمرار وتتحاورُ معَ الالهة ،
ولذلك ايضا:
زجاجُ الكأس هنا كناية عن الفخار ،
والبندقية صورةٌ تجريديةٌ للسيف والصخرةِ والنبالْ ،
الديكتاتوريون اشباه الهة،والدماء رخيصة ،
الشرف الوحيد هنا هو الخلود!..
الارواحُ بلادماء ، لذا لاتجف.
لاحاجةَ بسكّانِ هذي الارضِ للبقاء.
ليس للبقاءِ معنىً.
البقاء مفرغٌ منهُ هنا،
لذلكَ نتزوّجُ لنلهو، ونحاربُ لنحتفلْ ،
نتغّنى بالامهاتِ فقط، ونفرّط بالابناء ،
لانسافر.نعود دائما.الى اين؟ لاندري.
المهم:ان نعود ،
****
الاشياءُ فخمةٌ هنا..
والمعاني مبالغات.
الارحامُ اوعيةٌ بينَ السماءِ والارض،
الاجداد مقدّسون ،
والحيوانات هنا رفاق درب وشركاء مسيرة ونظراء في الخلقْ ،
الاخرون هم الذين ا كتشفوا ان دم الحيوان لايصلح للزراعة ،
لاننا لانفحصُ دماء الجنود قبل نشوبِ الحربْ .
* * *
في هذه البلاد تسكنُ الارواحْ ،
لاشيءَ غيرُ الحلم.
الحلم هو الحياة.الغد حلم..العمل حلم ،
حلمنا بالطيرانِ ، ونفّذه الاخرون ،
علّمونا الجريَ وراءَ وحوشٍ لها عجلات ،
فيما علّمناهمُ الحلاقة وتقليم الاظافر
وانتصاب القامة وطرقا مختلفةً للحب ،
علّمنا الدنيا:
انّ شمّ الانثى له علاقةٌ بتحسينِ النسل ،
والاغتسال بدمها يطرد الشر.
لاملوكَ لنا ،كلُّنا ملوك،
نساؤنا ساحرات ورجالنا الهة.
هنا ننتحر لنخلد
وجميعُ الحيامن تلقحُ جميعَ البيوض.
الذات تتناسل ،
محاربونا شعراء وشعراؤنا قتلة.
القتل محرّم،
لذلك القتل هواية المراهقين ،
لاننمو..وليست لنا مراحل ،
لانمثّل، لاننا ابطال الحكاية ذاتها ،
نحنُ صنعنا الانثى والفلسفة َوالذبابْ ،
نبكي بلااسباب ،واشعارنا دساتير ،
لانستحم بل نحترق. وليست لنا خرائط ،
والعلمُ هو الحلمُ ايضا ،
حيثُ النهار وسيلة للوصول الى الليل ،
***
أرواح…أرواح…
ومدنٌ منَ الضوءِ والفاكهة ،
ليس لنا أعداء ،
الآخرون اطبّاء مشبوهون يُقلعونَ أسناننا كي لانعض ،
ويسرقون تيجاننا حينَ نرقًصْ.
ويتسللون الى حكاياتنا حين نختلي معَ الاناثْ ،
*****
في هذه البلاد تسكنُ الارواح
ليست الشرق لانها المنتهى..
وليست الغرب لانها البداية ،
جيوشٌ منَ الرعاةِ والفلاحين ،
واسلحةٌ منَ الحنطةِ والصخور والرمّان.
الناس اسماكٌ تعيشُ على اليابسةْ ،
ولذلكَ ،
حينَ نعود بعد ذوبانِ الجبال ِ، نخجلُ من سنّاراتناوازيائنا ،
فللحربِ اخلاق
وللدّمار الذي لحقَ بالصغار والاناث وسائلُ مهذّبة !
هكذا نستشعر الخطر ، ولذلك نُنجب اطفالا خصّيصا للحربْ ،
ونملأ بطوننا بالحصى ،
وننقلُ اعضاء التناسلِ الى كوكب اخر ،
قبلَ انْ تنفجرَالارض ؛
وتغلي المياه بالغزاة ،
تحاكمهم الدنيا ،
تحاكمهم الارواح ،
تحاكمهم الحيوانات التي فسدَ لحمها في الولائم ،
والاجنّةُ التي تحوّلتْ الى فضلاتْ ،
والطيورُ التي َوضَعوا لها اسماءً ،
والشهداء ،
والفلاحون الذينَ انتظَروا الحصاد
فيما كانوا ينتظرون الحرب ،
وجثثُ الحريّةِ في بلادٍ تسكنها الارواح ،
والاعشاب التي ادخِلتْ الى المصانع ،
ودماء الحيض.
الاموات وحدَهم لايتذمّرون.
فيما يخصّ الشهداء –من جهة –هم احياءٌ عند ربِّهم ،
ومن جهةِ الاشارةِ اليهم،
فذلك مايتعلّقُ بالشهواتِ المؤجّلة ِ
التي توقفتْ ولم تنطفىء.
امّا الامواتُ فهم فصيلان..مدبرون ومقبلون
الموتى المدبرون شهود على الجريمة..
والموتى المقبلون شهود على السبب ،
والسبب كارثة..
السبب يبدا من تفاهةِ (كلكامش) في بدايةِ الملحمة ،
الى حمورابي قبلَ ان يضجرَ من الفوضى ،
حتّى اخرِ السخفاءِ المخلوقين من طينٍ وغائطٍ بلاارواحْ ،
** ** **
هذه البلادُ تسكنُها الأرواحِ ،
هذه البلاد لا تعي مالَها و تعي ماعليها ،
ولذلك تركْناالابوابَ مفتوحةً ،حتّى دخلتْ الشياطين ودخَلَ المنطق ،
ودخلتْ الارواحْ التي تموتُ مع الجسدِ والاسماءْ ،
اذ تداهمُنا الاسماء وتنفجرُ فوقَ رؤوسِنا..
الاسماءُ والمقاييس ،
نحنُ في بلادٍ تسكنُها الارواحُ ، بلااسماء ،
ولذلكَ ليس مضحكا ان نزنَ الكتلة بالمتر،
والطولَ بالرطل ،
وان ننادي بعضَنا بحروفٍ لاضيرَ في ان تتحوّلَ الى ارقام ،
لانّ الكتلةَ تتغيّرُ في الحلم ،
والارقامَ لغةْ ،
غير انّ الارقامَ اقربُ الى الحلمِ منَ الكلام ،
ونحنُ نحلمْ. العملُ ثانوي ،
والنهارُ كما اسلفنا وسيلةٌ للّيل ،
والذي يحلم لايُهزَم،
والمعاركُ في الحلم بلادماء ،
تماما ،نحن كالشمس نُشرقُ دونَ فواتير،
نشرقُ استراحةً منَ الحلم ،
رغم جحودِ السقوفِ والانفاقِ والهندسة ،
ولايعني( نشرق)ُ اننا نتغيّر .
نحن نشرق لانّ الاخر يدور ،
حقيقة الشمس والارض كحقيقة العقل والجسد ،
الجسدُ يخسرُ بمرورِ الوقتْ، فيما يكسبُ العقل ،
نحن قبل العقل،
نعرفُ كمْ من اطنانِ الرزِ واللبنِ والمحصولاتِ الاخرى يستهلك يوميا؟
وكم من الحقولِ والغاباتِ يحترقُ يوميا
في عضلاتِ المتحاربينَ والجلادينَ وبائعي الهوى؟
ومعَ ذلك ليستْ هناكَ حقوقٌ للنبات ،
وليست هناك سَنَةٌ للشمس او (اوسكار) للفلاحين.
الاخرون ليسوا مثلَنا،
لانّهم يعاملونَ الفلاحَ والفاسَ معاملةً واحدةْ ،
الاخرون سرقوا منّا الاناث ولذلك تناسلوا وحاربونا،
ولم ينتصروا ،
لانّ ارواحَ الجنودِ عادتْ الى بيوتِهم ،
تاركةً الميادينَ ذ اتَها لاتحسم شيئا ،
صرا ع المخلوقاتِ على هذا الكوكب صراعُ امعاء ،
والحر ب غذاءٌ عسيرُ الهضم ،
معَ ذلك الموتُ شيءٌ جميل،
واكثرُ خلودا من الحياة، واخر فرصةٍ للعدالة ،
- هناك من مات منذ الافٍ من السنين فيما لم يعشْ عشراتٍ منها - .
الموت اب والحياة ابناء ،
لاابناءَ لنا .. كلُّنا اباء ،
اصولنا افاعٍ معمّرة منذالافِ القرون..
اصولُنا الضوءُ والماءُ والمطر ولذلكَ لاننام ،
زوّارنا لايتعلّمون بل يصابونَ بالعدوى ،
لذلك غادرَ الاثاريون والمستشرقون مجانين ،
تلاحقُهم الحكاياتُ الخرافيةُ والافاعي والاديان ،
تحرسُهم طيورٌ سوداءْ، وتودّعُهم النمورْ..
بعد انْ اغتسلوا بالنبيذِ من البارودْ ،
وعرفوا انّ الموتَ حتمي والجوعَ جريمةْ ،
والخوفَ خرافة ، والندم غباء ، والعقل هو الحلم ،
وانّ هذي البلادَ تسكنُها الأرواح.
ولذلكَ لن تبدا ولن تتاخّر ولن تتقدّم ولن تنام ولن تستيقظ ،
ولن تنتهي حتى وانْ احرقتْ اشجارُها
وانتحرَ ابناؤها جميعا.


اذار1996

* من مجموعة – الارض اعلاه



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى