د. سامي عبد العال - الأسئلة المَلْعُونّة في الثقافة العربية

تبدو المجتمعات عاريةً كأشجارِ الخريف، عندما تفتقد الأسئلةَ الضرورية لحياتها. الحياة بدون أسئلةٍ مجرد أوقات تصادفُ أخرى بلا آفاقٍ للمستقبل. من هنا كان السؤال خارج التوقُّع، كما لا يُطرح في الغالب إلاَّ بمهامٍ أكثر جذرية. إنَّه يصوِّب سهامه المارقة نحو الحقائق الإنسانية التي لا تتزحزح. والمثير أنَّ هذا مصدر إزعاجه المتواصل في تاريخ الفكر والحياة. فليس منحى الاستفهام جارياً على نحوٍ هادئٍ ومقبولٍّ. حين يطْرقُ عمداً بابَ الحقيقة، يجد صدُوداً مغلَّظاً. فيصبح السؤال قصداً مأخوذاً بتوجه حفري ومنفتح بقدرَ الإمكان. السؤال الملعون يستهدف المسكوت عنه ثقافياً دونما تباطؤ،... ينقب، يُحدّد، يؤشِّر. لذلك يشتبك ضمن حركته مع أيَّة سلطة تعارض وجودَّه. وهذا سبب الارتياب فيما يفعله كلُّ استفهام حقيقي.

في الثقافة العربية تلاحق اللعناتُ السؤالَ حين يفتش عما يتوارَىَ، عما يتخفى عن كثب. وعلى الدوام سيكون لدينا هواجس مفرطة تجاه من يتساءل حتى لو كانت أسئلته بريئة. ولا نخطئ إذ نعترض على التعجب من الأسئلة هنا أو هناك. فنقول "هو السؤال حُرُم". وأصل العبارة هكذا: "هل تمَّ تحريم الأسئلة؟!"، مع بعض بقايا التعجب البارزة. ولكن خُففّتْ الفكرة تجنباً للتعبير الأكثر قسوة: " لقد تمَّ تحريم الأسئلة" أو "الأسئلة: حرام- حرام".

هذا التهذيب اللغوي يقلّبُ الدلالة إلى همسٍ، يُقلِّم أظافر الوعي، وأحياناً يحول المواقف إلى غمز يوميٍّ: أنَّه من الأفضل لك عدم التساؤل حيث لن تقدِّر العواقب الوخيمة. وأحياناً يُحظر الاستفهام تحت قعقعة التقاليد العامة حيث: "من تدخل فيما لا يعنيه نال ما لا يرضيه". و"ما لا يعنينا" قد يكون تقليداً مسكوتاً عنه، أو امتيازاً لفكرة أو هيمنة لسلطة ما أو بنية حقائق دون غيرها. وبفضل هذه المكانة، تصبح تلك الأشياء لها أنياب ثقافية تنهش من يحاول أنْ يستفهم.

وكالعادة يتأسّس ذلك الوضع اجتماعياً وسياسياً على النص الديني: " يأيها الذين آمنوا لا تسألُوا عن أشياءٍ إنْ تُبدَ لكم تسؤكم". ومع أن القضية مقيدة بالإيمان الغيبي إزاء موضوعات الأسئلة بحكم أن الاسئلة الميتافيزيقية ليست لها إجابة واضحة، غير أنَّها استفهامات مفتوحة بما لا يتحدد بسهولة. وبإمكان النص الديني رمي الدلالات خارج نطاقه( في المجتمعات) وبعيداً عن شروطه الخاصة بحكم الصورة التي يأخذها. ولاسيما أنَّ الثقافة العربية تتمدّد وتتسع في جميع أبنيتها بواسطة النماذج الدينية حصراً.

وهي ذات الثقافة التي تأوّل النصوص لصالح مركزيتها المنافية للتنوع والاختلاف. بل وقد تتخذ من النصوص الأساسية آليةً دفاعيةً لتأكيد أسباب وجودها التاريخي في الحياة اليومية. ولهذا كانت كل سلطة معرفية أو أخلاقية أو سياسية في المجتمع العربي تتحصن بتأويل ثقافي ديني للأسئلة المطروحة. فيبدو انعدامُ الأسئلة شيئاً مقبولاً ومبرراً عبر مواقف الحياة مقابل عدم التعرض إلى الضرر. أي: هناك علاقة من المساومة والخنوع لسلطةٍ مقابل الافلات من عقابها. المهم ألاَّ تتساءل ولا تحاول أن تعرف ما يجري أو ما سيجري!!

إجمالاً يرتبط تاريخُ اللعنة بسلطةٍ عُليا تقوم بهذا العمل. في مقابل شناعة السلوك الذي يستحق اللعنة بناءً على تقديرها. كما حدثت الحادثة التاريخية جذرياً بطرد إبليس من الجنة لعصيانه أمر الله في الديانات التوحيدية. حتى أن ورود اسم ابليس يأتي عادة متبوعاً بلقب الملعون (هكذا تقال: عليه لعائن الله ورسوله والملائكة والبشر أجمعين). لكن اللافت أن تجيء كل لعنة- في المجتمعات- على هذا المنطق: سلطةٌ ما تطرد معارضيها من ظلالها الوارفة، إخراجهم إلى العراء حيث الحرمان من الكنف والرعاية والحقوق. وتصبح اللعنة أداةَ ملاحقة وفعلَّ قهرٍ يواصلان مطاردتهم أينما حلّو. إنَّ (نموذج الشيطان) أتاح ثقافياً لعنة قابلة للتكرار كلما سنحت الفرصة. اشهر اللعنات غضب الرب على شعبه(شعب بني اسرائيل) كما ورد في العهد القديم. فبلبل الرب ألسنتهم وأجرى عليهم لعنة الشتات في الأرض.

أمَّا الأغرب فأنْ تتزحزح اللعنة من موقف لا هوتي إلى موقف ثقافي تجاه أسئلة نراها خطيرة، وهي اسئلة مهمة لبناء الحياة والتعبير عن المواقف والرؤى( مثل اسئلة السياسة والتطور والتقليد والاستبداد). بحيث سيمثل الاستفهام مساحة محظورة من التفكير. ليس أكثر من موقف أعمى نمر عليه عرّضاً كحالة عجز طبيعي لا تثير أية دهشة. لهذا كانت عطالة الأسئلة أبرز النتائج الوجودية لمعارفنا وأفكارنا. لأن الأسئلة تقف عند حدود اللعنة ولا تتخطاها. فأسئلة السياسة ملعونة، أسئلة السلطة ملعونة، أسئلة الحرية ملعونة، أسئلة الاختلاف الديني ملعونة، أسئلة الحقيقة ملعونة، أسئلة المرأة ملعونة. إنها حدٌّ فاصل إنْ تجاوزناه كان ثمة تكفير ثقافي يدفعنا خارج الحظيرة الاجتماعية.

إذن لا تخلو اللعنةُ من عملٍّ عام يتابع نشاطه القمعي إزاء التفكير الحر. فعل يلعن: يسب كائناً سواء بشرياً أم مقدساً أم غيرهما. فعل السب الذي يواري دلالته وراء الجرم الصادر عن الملعون. وإذا كان الأخير له عقابه الديني بحسب سياق الايمان، فثمة آثار اجتماعية تلاصق اللاَّعن إلى نهايته. وكلمة الملعون تعطي انطباعاً بالطرد، الازدراء بسب اتيانه لأفعال غير مقبولة. لكن علينا أن نعرف: من يحدد اللعنة وكيف تمارس عنفها في مجتمعات مغلقة closed societies بتعبير كارل بوبر؟!

إنَّ حساسية الأسئلة تصيبناً بالمفاجأَة حتى تجاه أسئلة الأطفال. فالطفولة قدرة حيوية خارقة على طرح الأسئلة من غير شروطٍ. هي تتميز بالمرونة الفائقة مع اختلاف المواقف. وتبدو ذات طابع أساسي رغم أنَّها تلقائية. الطفل القلق والشقي هو الكائن المتسائل دوماً بسببٍ وبلا سبب. لأنَّ الاستفهام لا يحتاج إلى تبرير ولا شرح. هو سؤال لكونه حاجة تلقائية بوصفه استفهاماً. إنَّه حالة إنسانية ناجمة عن تفتح الوعي الناقد. مثله مثل الاندهاش، الشك، الفضول الآخذ في التزايد. خلال كل سؤالٍّ جوهري هناك نزق طفولي يتأرجح على أوتار الدهشة.

ولأننا مجتمعاتٌ وشعوب عربية كهلّة ونقدر الكهولة، فلا نواكب طفولتنا التي هي نحن. الحكمة البادية: أن يتساءل الأطفال طوال الوقت بجوار الكهول وكلاهما بجوار غيرهم. وبهذا نستطيع الاستفادة من قدراتنا، فلا شيء يجب أنْ يكون إلاَّ إمساك روح الحياة السارية ضمن جميع الأعمار. الحياة المبدعة والتلقائية ذاتها مصدر الأسئلة المحيرة وهي ما ينبغي الاعتناء بها. المجتمع الحي هو من يطرح الأسئلة تلو الأسئلة. أما المجتمعات المحنطّة فهي يعيش وسط قبور من الإجابات الجاهزة. وما أكثر الإجابات المعلَّبة والفاترة بفرط تداولها. لذلك لدينا قدرةٌ هائلة على التحلُّل مثل الجيّف تحت وقع الأزمات. لأننا لم ننحت أسئلةَ المصير داخل كلِّ لحظة تمر بنا.

الأنكى أننا لا نعيش طفولتنا إلاَّ حنيناً بعد فوات الأوان، مجتمعاتنا بلا طفولة لأنها بلا أسئلة. فالأطفال والصغار والعيال يولدون شيوخاً. وليست الأكفان التي ألبسها الإخوان- في فترة مرسي- للأطفال إلا تأكيداً للمسألة. وهذا يشبه قمع الأسئلة لدى نشئ السلفية حينما يعجزون عن إحياء الموتى في صورة السلف الصالح. أيضاً الأمر يوازي انتزاع براءة هذه الكائنات المتسائلة حينما كان الدواعش يدربوا أطفالاً على الجهاد والقنص وبقر البطون وجز الرقاب. والمسألة ذاتها كانت من قبل حين انتشرت عبارات أشبال القومية العربية، وفتيان الزعماء العرب( مبارك والقذافي وصدام حسين).

إنه من المهم للثقافة الحيوية أن تتساءل باستمرار. وأية ثقافة لا تعي نفسها نقدياً ستظل مشكلاتها طي الكتمان. ذلك نظراً لعصور وضعتنا تحت أغطية متعددة: تقاليد الدين، استبداد السياسة، طغيان الطائفة، الاستعمار، التخلف.

من ها فإنّ وضع الأسئلة يحدد ثلاثةَ أمور:

1 - تجاوز الاستفهام لمعطيات طرحه بحثاً عن معرفة أوسع، لأنَّه يرمي بدلالته نحو المستقبل القادم. ونحن أُناس نعيش أيامنا قطعةً قطعةً بلا انتظار ولا ادخار زمني إبداعي للغد. فهل هناك دولة عربية في زمن الدواعش والإرهاب المعولم تعرف مستقبلها؟ وكيف سيأتي نهار جديد هي تنتظره؟ على جانب آخر لا ننشغل كثيراً بماهية القادم، أدواته، أشكاله، ولا لماذا نترقبه. نحن نقول "دع المُلك للمالك" في ضربة نرد ثقافي لا تنتهي إلى شيءٍّ واضحٍ. وغدت التعبيرات الجارية هروباً من الواقع المأزوم خوفاً من مواجهته. فيمسي القول الديني" اعقلها وتوكل" مبرراً لإهمال المشكلات وتفلتاً من ابتكار حلول جديدةٍ. والسؤال بوصفه مطرقة غليظة قد يحدث استفاقة، لكنها لا تلبث أن تخبو. فالإجابات سالفةُ التكوين قبل أن يتوغل الاستفهام إلى مناطق غير معروفة. كما أنه قد لا نشق على أنفسنا بحفر الطرق الوعرة.

2- خطورة مسار السؤال الذي يذهب بعيداً. حيث يحاول البحث عن المجهول، عن الأسرار الخفية للأنظمة المتباينة معرفياً وسياسياً واجتماعياً. في الثقافة العربية تنقطع الأسئلة طويلة الأمد، فهي تهدف إلى التبرير الآني للأوضاع القائمة ليس إلاَّ. فقط إذ يُتحرَر الاستفهام من ذهنية القطيع يفتح أعيننا على المختلف. لهذا كثيراً ما تُجهِض الأسئلة عن القيام بأدوارها. هناك تساند(تواطؤ) خفي بين إبقاء الوضع كما هو في المجتمع وبين الإجابات. فالواقع يبرر نفسه في إطار حقائق مهيمنة. وليس أمامه سوى أن يقمع أي سؤال مضاد. وحتى إذا حاول هذا السؤال حلحلّة الوضع سيكون رد الفعل أكثر عنفاً. لأنه في تلك الحالة يهدد محيطاً واسعاً من تبرير لا يرى غير نفسه. هنا تعد الإجابة ولو كانت خاطئة أشرس من أي سؤال وربما تنقضي مئات السنوات لزحزحتها.

3- وجود سلطة ما متوجسةً دوما تجاه الأسئلة، قلقة من احتمالات نشاطها المؤثر. وما أكثر التوجس من أي استفهام يسبب إحراجاً عاماً أو خاصاً. ذلك يفسر كثرة السلطات في واقع لا يعرف إلاَّ الغلبة والقسوة من السياسة إلى الاخلاق مروراً بالدين وبغيرهما. الثلاثة تفترض انكشافاً لقضايا وموضوعات لم تكن لتبدو من أولِّ وهلةٍ. والثقافة العربية في أغلبها آليةٌ وممارسة غارقتان في الغموض(السياسي والاجتماعي). والغموض لا يأتي صدفة، إنه ليس ترسباً خارج التاريخ، هو ظاهرة وجود خفي في صلب الحياة اليومية.

هكذا كانت تتوزع اللعنات بعدد أفراد المجتمعات العربية، كل لعنة في انتظار صاحبها. ذلك على احتمال أنَّ كلَّ فرد معرض للإصابة بفيروس الاستفهام. كلما يولد شخص تولد بجواره لعنة تستعد لالتهامه في أيِّ وقت. من هنا فالأسئلة بطبيعتها نشاط يضعنا في مرمى الخطورة. لأنَّه يأتي بصيغة الانتهاك، وضمن التحليق بعيداً إلى درجة التمرد، وإثارة الشكوك بلا توقف.

وبالتالي فالأسئلة لها خاصية دائرية circular في نطاق الثقافة. بمعنى إذا كانت هناك أسئلة محظورة يوما ماً، فإنها تُوجّه اللعنة التي حُظرت بسببها تجاه من يتهرب منها. ستظل اللعنة تطارد المجتمع بأكمله( مثل أسئلة الحرية والديمقراطية والعدالة..)، لأنها لا تنتهي ولن تموت. فما أن تسنح الفرصة( أدنى فرصة) حتى تظهر بشكل أكثر إلحاحاً وشراسة. ونحن نخفي الأسئلة كمن يحاول سرقة الشمس دون أن يراه أحد، أين سيخيفها؟! هل له مجرة أخرى غير مجرة درب التبانة؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى