نقوس المهدي - الحمرية.. قصة قصيرة

* إهداء خاص إلى الشريفة مريم بن بخثة

العبدي

ادركت العبدي اليقظة على مشارف الثلث الأخير من الليل، مد يده ليتلمس الحمرية فلم يضعها إلا على برودة الفراش.. تسرب الشك إلى نفسه وفار الدم في عروقه، لم يغضب العبدي كما غضب تلك اللحظة بالذات، وخرج يلتمسها، اشرع عينيه في العتمة يتصيد أثرها، ويستجلي أمرها في الأرض البراح مرتع الشياطين والعفاريت والجن، ويستغرب لخروجها في هذا الوقت المبكر، والجو شات، والباب مغلق كما احكمه قبل أن يأوي إلى فراشه، ظل يسامر النجوم الناكسة في قبة السماء الرصاصية، ويسائل الرياح الديسمبرية القارصة، ويرتجف لهزيم الرعد، في انتظار الإصباح البطيء، لكن جانبا من تفكيره ظل جانحا يفكر بمكر في الخطيئة والشرف والإهانة التي لا يمكن للعبدي أن يبتلعها بشربة ماء، ولا يتحمل أن يتحول إلى هزأة يتفكه الناس بحكايته حول صواني الشاي، وصمم العزم على أن يجرها إلى دار القاضي، أو يردها إلى أهلها من غير سوء، ارتدى جلابيبه التي يحرص دوما على أن يكون الفوقي نظيفا محددا مشغولا بالحرير الخفيف، وتفوح منه روائح المسك والجاوي المكاوي وشب اليمن، وهو الذي لم يفوت فرصة الاستحمام أسبوعيا في "حمام لويجانطي"*، والاعتناء بأناقة مظهره، حتى انه حافظ بعناية على نظافة بدلته العسكرية كما استلمها أول مرة كمجند في الحرب الكونية الثانية لصالح الجيش الفرنسي، فلم تتلطخ بوحل ، ولم تتأثر بتحولات طقس إلى أن تخلى عن الخدمة، حيث يحكي والعهدة عليه أن هتلر او "هكلر " كما ينطقه وقف عليه ذات ليلة ليلاء يشيب لهولها الولدان وهو متمترس في الخندق، ليطلب منه بكياسة ولطف ولباقة لسان الانسحاب من حرب لا تعنيه

البحارة

في العراء، عراء بحر الظلمات الهائج، كان بعض الصيادين قد يئسوا من العودة إلى بر الأمان، حاصرت قاربهم الأمواج العالية التي ترمح كفرسان جامحة مدفوعة بزمهرير العاصفة النافرة، وغشتهم حلكة الفضاء المتماديةً في شد السماء بكثافة وسماكة سوادها، ومد أشطان شآبيبها الغاضبة حتى لا تنطبق على الأرض، فتسقط في سحيق اليم الهائل الموحش، لم يكن هناك من مفر، والمسالك ضيقة، ولا نجوم في الأعالي، سوى كركرات الإله بوسيدون المستوي على عرش مملكته الشاسعة المتقلبة المترامية الأطراف، ورفرفة أجنحة نوارس ناغبة تائهة تبحث عن ملاذ آمن، وصرير الخشب المفروم وهو يقاوم بيأس صفعات الموج وهدير العاصفة وصلابة الصخور، وبطون تنتظر الرجوع بالرغيف، وتطلعات المسهدات من الشرفات إلى كبد السماء، يراقبن مجيء الصباح، فيما البحارة المتعبون ينازلون المالح ببقايا أرواح خائرة، يتبادلون فقط الزفير والهمهمات والغمغمات المبهمة الواهنة والأدعية الخافتة، وقد نابت الآهات الحسيرة الكظيمة الأخيرة عن لغة الكلام، وسط تيه النظرات الفارغة، والحناجر المبحوحة والحسرة على مبارحة أفرشتهم الوثيرة الساخنة، والمجازفة بأعمارهم وسط هذا الفضاء الوعر الخطير المعزول والليل المدلهم بلا عتاد ولا سبق اختيار لهذه المهنة المضنية والشاقة، امتلأت نفوسهم بالخوف والرعب، وخارت قواهم من شدة التعب والجوع، والفجر لا يزال بعيد المنال، وقد داهمت قاربهم المياه، وضاع زاد الرحلة، وضاق الأمل، ولم يبق في متناولهم سوى التضرعات والحسرات والدموع والزفرات، أدعية تنفطر لها الأفئدة، وتشرع لها أبواب السماء، قبل أن يجدوا بأعجوبة أنفسهم وهم يلامسون -بنصف قارب وأجساد منهكة وبطون فارغة وقلوب واجفة منكسرة حسيرة- اليابسة

الحمرية

الحمرية حمراء القصة، القديسة التي تصفو لها الخواطر والأفئدة، لم يكتحل لحظها بطلعة صريخ، قلب رءوم لكل الأطفال، فتية ضحوكة بشوشة ودودة محبوبة مسكوبة في اعتدال قويم ، تحتفظ بسمات جمال وقوة لا تزال، موسوم قدها بالامتلاء والنحافة من غير إفراط، والصدر مطرز بالرمان والحنان، العين كحلاء، والخد وردة، والقد نخلة، والفم شهدة، والجبهة قمر، والأسنان طاقم منظوم من الجواهر واليواقيت، والأهداب ناعسة مسبلة من وطء الطول والسواد والخفر والغنج، لم تتأخر قط عن لمة ومزار وجبر خاطر، على حدود الفجر، والصبح يتنفس وئيدا متثاقلا يمزق بسيفه البتار سجوف العتمة كاسيا المدى بغلائل الضياء الخفيفة، يتراءى طيف الحمرية، وهي تخطر بتثاقل في غبش العتمة يتقدمها نشر ند وياسمين ورغوات البخور المعطرة بجلجلة الخلاخيل والأساور والأقراط، نقرت الباب، بادرها العبدي وهو يعالج فورة غضبه برباطة جاش فاتر بان ترجع من حيث أتت. بادرته " امن علي وأخبرك بحقيقة الأمر"، "وعليك ستة وستون أمانا"، رد وقد استخفه الفضول للحكي وللكلام، قالت له: "ادخل يديك بين ثوبي وظهري ولسوف تعرف السر"، أدخل العبدي يده، فلم يضعها إلا على دم ساخن يبقبق من تقرحات وجروح غائرة، هناك في عرض البحر صيادون غمرت قاربهم المياه، يتضرعون، ويطلبون الإغاثة من الحمريات وأهل الكرامات ومستجابي الدعاء
(آمولات النوبة
نترجاوك
شفعي لينا عند مولاك
يفرج وحلتنا
يفاجي محنتنا
غير هذي والتوبة)
وكأنما رأتهم في منامتها بأم العين، وسمعت نداءهم، وهم قاب فرسخ أو أدنى من الآخرة، وقد وقف عليها الدور هذه الليلة، فلا يمكن ان تخلف وعدها، ولا أن تتخلف عن كشف ضيم مظلوم، ورد لهفة مستغيث، وتلبية رغبة محتاج، وتفريج كربة مهموم، وهي الحمرية المكشوف عنها الحجاب، فهبت لنجدتهم ومقاومة العاصفة وإسناد القارب الكسيح بمتانة ظهرها وصلابة عودها إلى بر الأمان.. رق قلب العبدي ودمعت عيناه وهو يسندها عليه بتؤدة، ويسندها برقة، ويسندها بحنو وعطف وإجلال ..


ـــــــــــــــــــــــ
- من المحكيات الشفهية لقبيلة احمر
- بوسيدون: لإله البحر في الاسطورة الاغريقية، أو سيدي بوزيد في العديد من دول الحوض البحر الابيض المتوسط والاطلسي
- لويجانطي "لويس جونتي " الاسم القديم لليوسفية

* من مجموعة "...إلخ" - منشورات أقلام أحمر - سفي بريس 2014

تعليقات

مساء الورد و الياسمين استاذي و اخي و صديقي السي المهدي ، تعجز كلماتي أن تعبر عن مكنون مشاعري الجياشة بهذا النص الممتع الماتع الذي شرفتني بالإهداء ، أن أتذوق سردك الذي يقطر جمالا و يبدع في وصف و جمال جداتنا الحمريات اللواتي اتشرف بالانتساب اليهن شيء \، و غوصك في ثنايا حكي مزج بين الواقع و الأسطورة اعتمادا على التراث. شيء جعلني اسبح في ثناياه دون أن أمل خاصة تدقيقك في اختيار الكلمات الواصفة أو الحدث او الإشارة إلى كرامات الحمريات. دمت مبدعا بنكهة خاصة لا تتأتى لأي مبدع . مريم بن بخثة
 
أعلى