عبد الواحد السويح - أمتار بيننا، أمطار بيننا..

" ولوْ لمْ يكنْ هناكَ موتٌ
فإنّي كنتُ منْ أجلهمْ أموتُ"
لطيف هلمت

أتوقّف الآن كما لم أتوقّف أبدا وشبح النّهاية ينفلت منّي، هل يعقل أن تخجل منّي الكلمات وأنا من يستر عريها ويفعل لها بدل المرّة مرّات؟ آه، رحمها اللّه وهي حيّة، قالت: حاشى وكيلي اللّه
والحواجز المسمومة، رائحة اللّحم المحروق ودهشتي المباغتة.. وحتّى نصل إلى الأمر المقضيّ قال لي وأقسمُ على ذلك:
- كن قِطافا لي، قد أينعتَ ولم يعد لك مزيد من الآمال.
- يا مال، لِمَ لا تعشق إلاّ الموتى؟ بهذا أجبتُه واستعدتُ غفوتي
أستغفرُ اللّه العظيم، ضيم الصّحاري ولا ظلم الصحاب. والقحاب نكحتُها، والكتاب حفظتُه، والبرّ زعزعتُه.. إلاّ هذه القدم الّتي تأبى أن تخطو ولو مرّة واحدة.
وأعودُ إليكم، قلتُ:
رأيتُها طائرة، أمتار بيننا. هل يمكن أن تظلّ على مشارفي فألحق بها؟ أمتار بيننا ومهرها أن لا نلتقي ساكنيْن وعيب هذه الأرض أنّها تفتح قبورها لأيّ كان وتستسلم لكلّ قدم. هذه الأرض منافقة.
رأيتُها مرفرفةً تنفضُ عنها آثار رؤاي. أمتار بيننا والشّمس كعادتها لا تتحرّك.
يداي كغيري ملطّختان بتفاصيل عدوانيّة. أذكرُ أنّي قتلتها ثمّ وقفتُ أتأمّل لونها العجائبيّ الّذي لا يشبهه سوى ذهب الأساطير المرسومة.
قتلتُها وكم وددتُ أن يكون انتشائي بمرآها على طبيعتها وهي حيّة تسعى لولا جبني فقد كانت عقربا.
وجرائم أخرى ارتكبتُها وإنّي لأعجبُ من عدوانيّتي السّابقة تجاه الذّباب والفئران والضّفادع والنّاموس ومختلف تلك الكائنات الصّادقة السّاعية بشجاعة نعجب لها إلى الموت، والّتي لم ترتكب من ذنب سوى أنّها وبكلّ براءة تسارع بالتهام قذاراتنا الّتي لا يحلو لنا النّوم إلاّ عليها.
يداي كغيري مورّطتان في مصافحات مشبوهة ونفاق يوميّ.
كان لي أب وعمّ وخال وصديق وجار وبائع صحف وأستاذ وحلاّق وفلان وعرفان وخلاّن وشبعان منافقون. وكنتُ يوميّا أصافح البعض منهم. الدّاء إذن في يديّ ولا بد أن أستبدلهما بجناحين. قلت لخليليّ وأنا سابقا مجرّد عاشق ذي خليلين ينشد:
ذَرَانِي أحُومُ حَوْلَ أسرارِها أسبحُ بيْن رحابِها وأنشدُ ما لَهَا
ذَراني أعيدُ للنّارِ اشتعالَها وقد أسلمتْ وسلّمتْ نورَها لها
- لا شكّ أنّكما مثلي وفي توقي. اقطعاهما، أفخارستيا لكما. ومددتُ لهما يديّ.
رائحة لحمي اامشويّ لذيذة والدّخان يملأ الأفق والذّباب يتكاثف ويرقص في حبور. اللّصوص خائفون وكنتُ جائعا. خيّراني في قطعي فرغبتُ في سبّابة يدي اليسرى وإبهامها. وحدها الكلمات الّتي تراجعت مذعورة لا تلوي على شيء.
رأيتُها محلّقة تتأمّل ريشي الّذي بدأ يظهر، تضحكُ. أمتار بيننا والسّماء تعدّني لباب العرش وحين انشقّتْ كانت زلهى يائسة تخشى الابتلال.
رأيتُها هاربةً، أنا المتوقّف الغارق في الأوحال. أمطار بيننا.
اقتربَ منّي. لفحني بأنفاسه ثمّ بكلّ نهاية أخذ ينشدني. نزفتُ ما تبقّى فيّ من جهد كي لا أسمعه. لكنّه أصرّ على عشقي...
أيتها الكلمات هل من تأبين أخير جزاء ما قدّمت؟
وشرعتُ في الانتحار.


L’image contient peut-être : une personne ou plus et plein air
  • Like
التفاعلات: جوهر فتّاحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى