محود شاهين - (4) زيارة لأسرة الضحية! ( فصل من رواية قصة الخلق)

لم تجادل أسيل حين وجدت أن اصرار لمى على دفع الحساب لا يقاوم . وأنا لم أحاول أيضا لمعرفتي لكرم لمى . ودعنا المدير ورئيس الندل والعاملين ، وغادرنا .. أوصلنا أسيل إلى بيتها في جبل عمان . وتابعنا إلى بيتي في اللويبدة. أصرت لمى على أن تبقى معي رغم إلحاحي عليها أن تقيم لبضعة أيام في بيتها ، إلى أن تخرج من أثر الخوف والقلق اللذين بعثهما فيها الرأس المقطوع والتهديدات بقتلي ، فأبت ، متذرعة بأن حياتها ليست أهم من حياتي ، وأن الحياة دوني لن تعنيها شيئا ..

ما لم أتوقعه إطلاقا في حياتي ،حتى في أحلامي ، أن تظهر لي صبية تعشقني في كهولتي ، وأنا الذي تبين لي أن كل من عشقنني في حياتي لم يكن يعشقنني بقدر ما كان الأمر مجرد نزوات عابرة وتحقيق رغبات ، وربما حلم بالزواج مني لدى بعضهن ، حين تعثر العثور على زوج في حياتهن .. وبالمقابل كان عشقي لهن مجرد أوهام وتنفيس لكبت جنسي دفين ، وطاقة لحوحة تتفجركل بضع ساعات ، وأحيانا كل بضع دقائق! وإلا ما معنى أن أتخلى عن أي منهن لمجرد أول خلاف بيننا .. لمى حالة مختلفة تماما.. أشعر أنها تحبني من أعماق نفسها .. وأنا كذلك، أشعر أنها أعادتني إلى الحياة وأعادت الحياة إلي ، بعد أن هجرتها إلى الفكر والتأمل والكتابة والرسم ، ولا شيء غير ذلك ، وأشعر أن محبتي لها حقيقية وليست زائفة .. ربما لما فعلته من أجلي بشراء بعض لوحاتي بأسعار باهظة، دور في المسألة .. كانت تعد القهوة بعد أن أخذنا قيلولة لأكثر من ساعة ... سألتني بعد أن سكبت القهوة في فنجانين :

- لم تحدثني عن الحوار كيف كان ؟

- أعتقد أنه كان جيدا .

- ألم تحاول التخفيف من صداميتك مع المعتقدات الدينية لعل التهديدات تخف عنًا؟

- لا أذكر أننا تطرقنا إلى الأديان ، وكنت قد اشترطت من قبل حين اتفقت مع مدير القناة أن يكون الحوار حول فلسفتي، وهي فلسفة يمكن اعتبارها دينية ، كونها تقوم على مبدأ خالق .

ضحكت لمى وهي تعقب :

- خالق لم يبق للآلهة الأخرى شيئا تفتخر به !

- بل أبقى الكثير رغم الاختلاف في طبيعته.

- لن ينقذك ذلك من تهمة الإلحاد ولن ينقذني أيضا من تهمة الزنا إضافة إليه . الدين عند الدواعش هو الإسلام ولا دين غيره ! وفي هذه الحال أنت كافر ومرتد !

- لنا إلهي يا حبيبتي ، وعندي إحساس أنه لن يتخلى عني وعنك ! إذا ما تعرضنا لأذى ما.

- هل تعتقد أن نجاتك من محاولة الاغتيال كانت بتدخل إلهي؟

- يا إلهي ! وجدتها! هل تعرفين أنني لم أفكر في ذلك ، رغم أنني توقعت حالات أخرى أنقذتني!

- لكن حسب مفهومك الله غير قادر على كل شيء !

- غير قادر على كل شيء أجل ، لكنه يقدر على أشياء كثيرة جدا وعظيمة حين يصمم ويريد. فإرادته هي العليا التي لا تعلو عليها إرادة.

- آمل ذلك .

رن الهاتف. أخذته . كانت أم أمل. زوجة الرجل الذي كان ضحية محاولة اغتيالي.

- هلا أم أمل !

- الحمد لله على السلامة!

- الله يسلمك ليش شو فيه ؟

- التلفزة تتحدث عن محاولات جديدة لاغتيالك وعن رأس مقطوع أمام باب بيتك وجثث قتلى وما شابه.

- ستفشل محاولاتهم بإذن الله . المهم طمنيني عنكم .

- نحن بخير ولا نريد غير سلامتك.

- أوضاعكم المادية وشغلك كيف ؟

- ميسورة والحمد لله بفضلك أستاذ.

- محتاجين شي ؟

- م.م. محتاجين سلامتك .

أحس محمود من ترددها أنهم في عوز . قال:

- انتو في البيت ؟

- ايه ! وين بدنا انروح!

- فينا نزوركم؟

- طبعا أستاذ أنت مرحب بك في أي وقت أنت والأخت لمى .. لم يعد لنا غيركم .

- انتظرونا بعد حوالي ساعة ونصف على الأكثر.

- أهلا وسهلا..

أغلق محمود الهاتف. تابع حديثة مع لمى:

- يبدو أنهم يمرون بضائقة . سنذهب إليهم .

- أم أمل سيدة طيبة وتحتاج كل خير.

كان محمود قد بحث عن اسرة الرجل الذي راح ضحية محاولة اغتياله ، فوجد أنها أسرة فقيرة تعيش في بيت قديم مستأجر في سفوح جبل اللويبدة النازلة إلى وسط البلد. الأم تعمل خياطة نسائية على مكنة خياطة قديمة. وكان الأب يعمل في البلدية كعامل تنظيفات في شوارع المدينة . ولدى الأم ابنتان احداهما ( أمل ) في الجامعة، والأخرى ( سعاد ) في الثانوية ، وإبن ( علاء ) في الاعدادية . ابتاع محمود لأم أمل مكنة خياطة حديثة وأعطاها عشرة آلاف دينار، لابتياع قماش ومصروف للبيت . ويتفقد الأسرة بين فترة وأخرى . ولا يتوانى عن مساعدتهم كلما احتاجوا شيئا .

- التلفزة أذاعت أخبار المحاولات الإرهابية وأم أمل أرادت أن تطمئن علينا.

هتف محمود مخاطبا لمى.

- يبدو أن قنوات تلفزيونية نقلت الأخبار عن قناة أفق المعرفة وإلا لما انتشر الخبر بسرعة.

وطلبت إلى محمود أن يفتح الجهاز ليروا.

سارع محمود إلى فتح الجهاز على قناة أفق المعرفة . كان الخبر يمر بين لحظة وأخرى مكتوبا على شريط متحرك أسفل الجهاز وقد كتب عليه : محاولة ارهابية للأديب والفيلسوف محمود أبو الجدايل بوضع رأس مقطوع أمام باب بيته ، وأخرى بإرسال صور جثث مقطوعة الرؤوس أيضا على هاتفه الجوال . إضافة إلى تهديدات بقتله.

- شيء جيد أنّ الخبر لم يتطرق إلي. هتفت لمى .

- كان يجب أن يتطرقوا.

- أظن أن هذا أفضل لي.. لا أريد قلقا زائدا .. يكفيني قلقي عليك.

ضم رأسها إليه وقبل شعرها.

- هل اغلق الجهاز ؟

- أجل .. اغلقه ولنذهب إلى أم أمل.

*****

توقفت لمى أمام محل لبيع اللحوم . ابتاع محمود ذبيحة كاملة ، جعل اللحام يقطعها ويعمل منها جزءا مفروما وجزءا شرحات وجزءا شقف ، وآخر بعظمه للطبخ .. كما ابتاع سبعة فراريج ، وكمية كبيرة من الأسماك.. وجعل اللحام يقطع الفروج أيضا ويضع كل فروج في كيس وحده ..

وضع اللحام أكياس اللحوم في صندوق السيارة . انطلقا .

- إلى أين الآن ؟ هتفت لمى .

- هناك بقالة أمامنا توقفي عندها .

- قد لا يتسع براد العائلة لكل هذا .

- يتسع ! ألم نبتع لهم برادا كبيرا ؟

توقفت لمى أمام البقالة .

ابتاع محمود كمية كبيرة من الخضاروالفواكه والحبوب والسكر والشاي والبن والجميد والصابون والمنظفات .. وضع عامل في البقالة بعض المشتريات في صندوق السيارة ليمتلئ . أشارت له لمى أن يضع باقي المشتريات في المقعد الأخير.

انطلقا في اتجاه بيت أم أمل . وصلا . أوقفت لمى السيارة إلى جانب الرصيف المحاذي للدرج النازل إلى البيت .

أخذ محمود بعض الأكياس وترك لمى عند السيارة .. نزل قرابة ستين مترا إلى أن بلغ البيت . قرع الجرس. فتحت أم أمل التي كانت حريصة على أن تفتح لمحمود لتستقبله بنفسها.

- يا ميت ألف أهلا وسهلا.. حلت علينا البركة . هات عنك هات . ليش بتعذب حالك ؟

- غلبتكم راحة لي أم أمل.

وضعت الأكياس خلف الباب ثم شرعت في مصافحة محمود معانقة ، فيما كانت أمل وسعاد وعلاء يهرعون لاستقباله. تصافحوا بتبادل القبل .. كانوا بالنسبة لمحمود مثل أولاده، حتى أن الأصغر علاء ود لو يخاطبه بابا! وهذا ما سيحدث لاحقا..

- لمى معي عند السيارة وهناك أشياء أخرى. هتف محمود.

- خليك انته الاولاد بطلعوا..

وشرعت الفتاتان والولد في الصعود حيث تقف لمى عند السيارة .

جلس محمود في الصالون المتواضع . وراح يتأمل الصور، فيما ام أمل ترحب من جديد به:

- يا ألف أهلا وسهلا، الله والنبي والمسيح وموسى وإبراهيم الخليل يحموك من اولاد الحرام . ويسهلوا أمورك ، ويفتحوا لك في كل ضيق طريق، ويعموا عيون العدا عنك .

أم أمل سيدة مسلمة متدينة تجاوزت الخمسين من عمرها بقليل.. غير أنها ليست متعصبة ، مع أنها لم تحصل من التعليم إلا المرحلة الابتدائية ، ولا تفرق بين الأديان السماوية ، والأديان الأخرى، وتردد حين يسألها أحد عن السر في احترامها للأديان " كل واحد على دينه ألله يعينه " وقد اعتبرت محمود أبو الجدايل خلال متابعتها لما يكتب على الفيس بوك ، أكبر المؤمنين على الاطلاق، وخاصة بعد أن تعرفت على نبله وكرمه وتهذيب أخلاقه وعمق إيمانه، مع أنه لا يصلي ولا يصوم كما تفعل هي، عدا أنه يحب فتاة ويقيم معها علاقة غير شرعية، ومع ذلك لم يتغير شيء من رؤيتها وفهمها له. صارت مقالاته زادا معرفياً لها، وصارت تنظر إليه كأب روحي. وحين سألته ذات يوم عمّا كان راضيا عن طريقتها في الايمان ، راح يستغفر الله ويهتف " من أنا أمام الخالق العظيم لأرضى عنك، المهم رضاه هو وليس رضاي .. ابق على ما أنت عليه من ايمان ، طالما يهذب سلوكك ويريح نفسك ، فهذا يرضيني أيضا "

تعلق في صالون بيتها صورة للمسيح والعذراء إلى جانبها صورة جديدة لمحمود ولمى، إضافة إلى صور للعائلة بينها صورة بفستان الزفاف تجمعها مع الفقيد أبوأمل يوم العرس. وثمة ثلاث لوحات لمحمود أهداها للعائلة، وصور لمناظر طبيعية .

لا حظ محمود أنها علقت صورة له وللمى.

- ما هذا يا أم أمل ؟ تعلقين صورتنا أنا ولمى ؟

- ومن غيرك وغير لمى يستحق أن أعلق صوره !

كان الأولاد ولمى قد فرغوا من احضار المشتريات وإدخالها إلى المطبخ .. صافحت لمى أم أمل بحرارة ..

- انظري أم أمل علقت صورتنا. هتف محمود .

- هل ضممتينا إلى العائلة أم أمل؟

- انتو رب عيلتنا لمى . ولولاكم لكنا في أسوأ حال بعد فقد أبو لمى . شو تشربوا؟

- ممكن قهوة سادا، مع أننا شربنا في البيت قبل قدومنا . هتف محمود.

- وأنا أيضا . هتفت لمى.

دخلت أم أمل إلى المطبخ . لم تتفاجأ بما أحضره محمود لأنها ليست المرة الأولى التي يحضر فيها هذا الكم من المشتريات . شرعت في غسل بعض الفواكه لوضع طبق منها على المائدة أمام محمود ولمى، فيما شرعت أمل في اعداد القهوة .

وهم يتناولون القهوة راح محمود يستفسر عن عمل أم أمل ودراسة البنتين والولد:

- ايه أم أمل طمنيني عن شغلك ؟

- والله يا استاذ الشغل شحيح ، الأجيال الجديدة من الصبايا يفضلن الألبسة الجاهزة على التفصيل. عملي شبه متوقف على بعض الأمهات اللواتي يفضلن الأزياء الشعبية، عرضت على معمل أن أخيط له بعض الملابس فوافق إنما بأجر زهيد.

- الله يعطيك العافية . طالما أنتم بخير كل شيء يهون.

وراح يطمئن على دراسة أمل وسعاد . أمل سنة ثالثة أدب انكليزي. سعاد سنة أولى حقوق. علاء صف أول ثانوي. كانوا جميعا موفقين في دراستهم.

أخرج محمود دفتر شيكات من جيبه وكتب شيكا بألف دينار لأم أمل . ثم أخرج من جيب سترته بضع أوراق نقدية أعطى منها مائة دينار لكل بنت وللولد.

- أبدت أم أمل بعض التمنع في أخذ الشك متذرعة بالإكتفاء ، حتى لا تثقل على محمود، غير أنها أخذته أخيرا وراحت تدعو لمحمود بالرزق وطول العمر. أمل وسعاد وعلاء قبّلوا محمود شاكرين ، ما دفع لمى إلى المزاح قائلة :

- وأنا أين قُبلي ؟

انهالوا عليها تقبيلا. أخرجت من محفظتها بعض النقود وأعطتهم كما أعطاهم محمود.

وهي تقول :

- المهم أن تعتنوا بدراستكم ولا تغضبوا أمكم . النقود تروح وتجيئ ، ولا تتوانوا في الاتصال بنا كلما دعت الحاجة.

مكث محمود ولمى يتسامرون معهم لقرابة ساعة ونصف، ثم استأذنا بالانصراف ، راحت أم أمل تحلف عليهم أن لا يذهبا قبل العشاء معهم ، غير أن محمود شكرها متذرعا بأنه اعتاد أن يتناول عشاءه بعد منتصف الليل.

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى