نورالدين بوصباع - الساحة

وكأنه خرج للتو من زمانه ودخل زمن المتاهة سار يهذي وسط الشارع..إنه متربص بهواجسه ليئدها من رأسه و ينعتق من أسر الصورة التي التقطها بأم عينيه..الكل يحملق في وجهه في ذهول، وهو غير آبه لما يدور حوله ، غارق في استعادة صورته في المرآة..حكاية صورته لم تكن لتثير في داخله كل هذا الغضب لو لم تخالجه صورتها وهو منجذب في تأمل نفسه أمام المرآة..إنه لا يعرف أن المرآة تقلب الحقائق، وتنافق الإنسان في كل مرة يحاول أن يكتشف نفسه بعد طول غياب، فيتطاول في الوقوف متلبسا أمامها، يدعك عينيه ليطرد عنهما غشاوة، ربما تكن رواسب دخان اكتنفهما دون أن ينتبه..هل كانت نية المرآة مبيتة! لاذ إلى صمته في انهزام، واستغربت الوجوه من ردة فعله، عدَّها واحد..اثنان..سبعة، تنبه في مشيته مرعوبا لما ثقب مسامعه منبه سيارة حاد، فانتبه لشروده، وفتح عيناه على اتساعهما، فانجلت بوضوح أمامه الطريق..كانت الطريق تعج بجحافل غفيرة من الناس، وكان هو لوحده يغرد خارج السرب..بدؤوا يألفون مظهره المثير للشفقة وبدأ هو يستأنس بحرارة وجوده إلى جانبهم، رفع عينيه ربما تقع على الوجوه التي رآها من قبل، ثم أسبلهما منهزما..سبعة وجوه ذكرته برواية " ثلاثة وجوه لبغداد" لغالب هلسا، تذكر أنه في تيفلت وليس في بغداد..بغداد الآن جريحة، وتنزف دما، تمطرها الطائرات المغيرة بوابل من النيران، فتحرق الأخضر واليابس، رفع عيناه ثانية يتفرس جموع الناس، وقد بدؤوا يتفرقون في كل اتجاه مولين له ظهورهم، وفجأة، بدا أمام ناظريه كما لو أن المدينة مهجورة، هل فر منها سكانها !أم ابتلعتهم الأرض! انتابته حيرة زلزلت كيانه..إنه يسير لوحده في الشارع، بدأت دقات قلبه تهز جدار صدره بقوة، واعتصر وجهه بحمرة قانية، وقد علا جبهته العرق، مد يده فمسحها..حفيف أغصان الأشجار المصطفة على طول الشارع تعزف سمفونية حزينة تزيد من بؤسه وكآبته، لكنه يؤنس نفسه باستعادة صورتها التي لم يتسنى له الاستمتاع بها، ربما لو طال اللقاء لنقشت في مخيلته، لكنها مصادفة غريبة لا يعرف حتى الساعة كيف حصلت! وكيف ضاعت منه! إنه لا يعرف كيف يتصرف، وجسده على ما يبدو خارج سيطرته، يتخبط في دوامة لا يعرف كيف سيخرج منها!..أزقة المدينة تتقاذفه يمنة ويسرة إلى أن وجد نفسه وسط ساحة المدينة، كان يلهث من شدة التعب، وهو يهم للجلوس ليلتقط أنفاسه المجهدة تراءت أمام عيناه الذابلتين الساحة أشبه بالأغورا، حيث سقراط واقف وسط حلقة يحف به بضعة شبان، يصغون في اهتمام لما يقول، ويجادلونه في احتدام، استرعى انتباهه الحوار، فانجذب إليه كلية، وهفت نفسه للمشاركة في مجريات النقاش حتى لا يبقى على الهامش لو لم تعكر صفوه وتبدد دهشته جوقة من المزمرين والمطبلين مرت من أمامه، واحتلت وسط الساحة، ملئت المكان صخبا وضجيجا، وماهي إلا هنيهة حتى غصت الساحة برمتها، تساءل مستغربا، أين كانت كل هذه الجموع مختفية قبل قليل! ثم رأى وسطها رجلا متكور البطن، منتفخ الأوداج، كان يتكلم بصوت لم يتسنى له أن يتبينه، تقدم بخطوات وئيدة..الزحام يخنق الأنفاس، اندس، تدافع بالمناكب حتى وصل مقدمة الصفوف..أمر الرجل الواقفين في الأمام إلى الجلوس على الأرض، فتراجع إلى الوراء..الأطفال الصغار هم من يجلسون عادة في الأمام، وهم من يصفقون كلما طلب منهم أن يضربوا سوارت الربح، ظلت عيناه متسمرتان في الرجل وهو باسط كفه يدور وسط الحلقة يستجدي الناس المتحملقين حوله إلى أن وقف الرجل أمامه فجأة، وسار يتفرسه في اهتمام، تملكته الدهشة، ابتسم جزعا، ولم يدرك حقيقة ما جرى له إلا عندما وجد نفسه وسط الحلقة يحكي قصته لجموع الناس، وهي تنصت إليه في اهتمام..ليس ضروريا أن تكون القصة حقيقية أو مزيفة لتثير إعجاب الناس ودهشتهم، فكل قصة نبش في الذاكرة المنسية..تعرية لمفاتن الزمن البائد المترع بالغواية، وبوح صريح لمكنونات النفس المخبوءة في قوقعتها، سار يـحكي وفي صوته حشرجة " ولما اشتد علي الحال، وركبني النحس، عزمت في قرارة نفسي على ركوب المغامرة، أعددت لوازم الرحلة، ثم استقلت الحافلة المتوجهة صوب المتاهة، لم يكن يتعدى عدد المسافرين أصابع اليد..على طول الطريق لم أجرؤ على محادثة أحد، أو طلب أحد أن يمدني بالماء وقد اشتد وهج عطشي، أحسست كما لو أني أنفي نفسي خارج الزمن وقد تحامل علي الإنس والجن ليوقعوا بي الهاوية، لكن ألست أنا من اخترت طوعا السفر، لست أدري كيف سرقني النوم في واضحة النهار، وعندما تنبهت وجدتها إلى جانبي، شاحبة الوجه، تتفرسني بنظرات ذابلة، ما أن اكتشفت أني أنظر غليها حتى أسبلت عيناها خجلا..حرارة الشمس الملتهبة جعلت الجو داخل الحافلة أشبه بفرن ساخن، كنا نتنفس بصعوبة بالغة، وكادت ألسنتنا أن تتدلى فوق صدورنا، وأما ملابسنا فقد تبللت والتصقت بأجسادنا، فصارت التفاصيل تظهر على استحياء، بدأت الطريق أمامي تمتد وتنحسر، بدأت أشعر بالدوار وبأن رأسي يكاد أن ينفجر، وما أن رمقتها تفتح قنينة الماء لتشرب حتى ألمحت إليها بإصبعي ودون أن أنبس بكلمة أن تمدني بجرعة ماء، وأنا أطفئ غلالة عطشي والماء يتسرب من زوايا فمي، ويسيل فوق صدري أحسست بأني أعود إلى وعيي وكامل قواي، أعدت إليها القنينة ولساني لا يفتر عن شكرها، ابتسمت في وجهي ابتسامة فاترة، وتكلمت بصوت هادئ:
- تسافر ولا تحمل معك قنينة ماء!
أجبتها بنبرة مهزومة:
-لم أكن أعتقد أن الرحلة ستطول!
عادت تتحدث من جديد وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستغراب:
-لم تتبقى سوى مسافة قليلة ونصل أخر الرحلة
وأردفت:
- لعلك جئت إلى مراكش في مهمة، أو جئت لزيارة مولاي إبراهيم!
استغلت الفرصة فسألتها:
- هل أنت مراكشية!
- لا، أنا كازاوية...
أجابت في اقتضاب
وشاءت الصدفة ألا نفترقا، تغذينا معا، تناقشنا، سألتني إن كنت متزوجا، فأجبته بالنفي، ثم إن كنت أشتغل، أجبتها بأني موظف صغير، وأتقاضى راتبا متواضعا" الطعام اعلى قد العام"..لكني لما حاولت أن أتعرف عليها أكثر صارت تراوغني، وتتحاشى أسئلتي، ثم بغثة حدث هرج ومرج على مقربة من الساحة التي كنا جالسين قبالتها، وهرع الناس من كل ناحية وتجمعوا وسطها.بقينا نحن الاثنين بمنأى عن الهرج..لم أدري كيف مددت يدي فوق كتفيها، وصرت أعبث بخصلات شعرها بأصابعي ! استسلمت لي طائعة وقد أسندت رأسها فوق صدري..فكلانا غريبان، ولا أحد يعرفنا في هذه البقعة المباركة من الأرض، شاءت الصدفة فالتقينا دون موعد مسبق، ولذا لن نحفل بالعيون الشزراء التي ترمقنا خلسة، ولا على الكلمات التي تصل مسامعنا محتجة وناقمة، اندهشت لما نهضت وسحبتني من يدي إليها قائلة:
- تعالى نتفرج في الساحة قليلا..مراكش هي جامع الفنا..
- نتفرج!
أجبتها موافقا
كانت الساحة مملوءة عن أخرها، والصخب يكاد يصم المسامع، طلبت مني أن تمشي هي أمامي وأنا أتقفى طريقها، وافقت على رأيها، وسارت أمامي بخطوات وئيدة ولكن شبقة، وبين الفينة والأخرى تلتفت إلي راسمة ابتسامة عريضة على محياها، فأبادلها الابتسامة..طريقة مشيتها الفاتنة توقد في أعماقي نيرانا ملتهبة، وتكاد تسلبني عقلي..راقتني الطقوس الاحتفالية وسط الساحة، فسرت ألتفت يمنة ويسرة..هذه حلقة مروضي الثعابين وتلك حلقة كناوة وهنالك امرأة تقرأ خطوط الكف، وهناك مجموعة من الشبان يلعبون القمار..لست أدري كيف انجذبت إلى حلقة كان يتوسطها رجل مكدود الوجه! كان يحمل في يده سيفا من خشب، وعيناه تومضان في رأسه وهو يصيح في وجه دمية كانت أمامه" أبهاد السيف غادي انرد الحق لصحابو..والظالم ألخوت أشنو احسابو" انصهرت في مجريات القصة. القصة مثيرة وغريبة، جعلتني أحلق بعيدا، تذكرت سبارتاكوس الذي امتشق سيفه ليواجه روما التي استهترت بإنسانية الإنسان ، وكبتت حريته ، وأذاقته العلقم..بدأ الرجل يمثل دور المحارب، سدد طعنات إلى الدمية، فسقطت على الأرض، ثم سار يدسها بحذائه، أرعبني المنظر..التفت إلى صديقتي لأحدثها عن وحشية الرجل، لم تكن إلى جانبي، تململت من مكاني لأبحث عنها، أين سأجدها وسط هذا الزحام المقيت! وأنا أنسل من الحلقة متوترا يصل مسامعي صوت الرجل " للي افرم أولدي هاد الحلقة، الله يجعل ربي ايفرمو من الدنيا" توقفت قليلا وقد احتبست أنفاسي، دسست يدي في سروالي أفتش عن حافظة النقود كي أعود إلى الرجل وأناوله درهما أو درهمين، لكني لم أعثر عليها...

نورالدين بوصباع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى