د. أمل الكردفاني - عمل.. عمل.. عمل - قصة قصيرة

كانت مكابس الحديد تهبط بقسوة على مسطحات الحديد فتخرقها، ثم ترتفع بصوت مزعج جداً لأعلى، أصوات المكابس عالية، طرقات للمطارق العظيمة وتنفسات للضواغط الهوائية الكبيرة، والسماء تمطر خيوطاً بيضاء رفيعة من رشحات الحديد ذات الرائحة النفاذة... والعمال يعملون بجد ونشاط...وبعد الانتهاء، سيتجهوا لأكل فتة أحشاء البقر المتعفنة ليمحوا عن أنوفهم رائحة الحديد الحادة...
أما مدير المصنع فكان يراقبهم بالكميرات من داخل مكتبه وهو يحتسي النسكافيه بصمت..
يدخل عليه موظف الحسابات منذ الصباح كما يفعل دائماً، لا يتملق المدير ولكنه يحترمه، والمدير يتحمل القليل من فظاظته لأنه يتحمل عنه الكثير من المتاعب فهو مخلص...ولكي يظل مخلصاً امتنع عن منحه زيادة في المرتب...
- يجب أن لا يظن نفسه مهماً أبداً...
يدخل الموظف وينشر على الطاولة فواتير البيع والاستلام والتوزيع وغير ذلك...ليفهم المدير أنه قد أتم عمليات الجرد وبأنه مخلص للمصنع...
يلاحظ المدير شخصاً يقترب من باب المصنع ثم يتسرب كالحرباء مقترباً من المكتب...شخص غريب..رث الثياب...
يقول المدير بصوت فزع وخافت:
- ليس لدينا وظائف شاغرة...
يصر الشخص ذو الرأس البيضاوي الأسود:
- أنا خريج جامعي..ولكنني مستعد للعمل كعامل..
- أنا آسف..
يفزع المدير أكثر حينما ينفجر الشاب بالبكاء:
- أرجوك...احتاج للمال..أحتاج للعمل..
يحاول المدير إجراء عملية حسابية سريعة.. فيخرج بضعة وريقات ويمدها للشاب.. ينظر الشاب للوريقات بوجه مكفهر..لكنه لا يجد بداً من أخذها ببطء..ثم يغادر دون أن يشكر المدير...يغادر كما لو لم ينل حقه المسروق...ولكن المدير يشعر بالراحة...
ينتهي الربع الأول من يوم العمل، فيخرج العمال للإفطار، وهو الموعد الذي يتسيبون فيه، فبعد وجبة كرش البقر العفنة، تثقل أجسادهم حينما ينزل الدم من ادمغتهم لمعاهم كي يهضم الطعام...يتثاقلون في العودة ولكن المدير يرسل لهم المحاسب لاستدعائهم...
- كان الشاب ذو الرأس البيضاوي يأكل معهم يا سيدي..
يقول موظف الحسابات...فيندهش المدير...
- منذ ثلاثة أشهر وهو بفعل ذلك قرب المصانع الأخرى...ومنذ ذلك الوقت بدأ العمال في التمرد...
تضيق عينا المدير ويضع سبابته على شفتيه متكئا بذراعه على المكتب..
- ماذا يقول لهم..؟
- كلاماً لم أفهمه...لكنه يحرضهم على عدم العمل لساعات طويلة..
يهمس المدير:
- إنه حقود...ربما لأنه لم يجد عملاً...ربما يكون من الشيوعيين...دعنا نذهب ونرى...
يتحلق العمال حول الشاب، يرشف هو من كوب الشاي الذي اشتروه له، فيقول بصوت قوي:
-(دعوني أخبركم حقيقة لن تقبلوها...
طبعا هناك اشخاص يميل الحظ إليهم فجأة فينتقلوا من البؤس والشقاء للنعيم.....
افهموا ان هؤلاء قلة قليلة جداً في هذا العالم.. نحن وباقي البشر.. زمننا بطيء جداً في الانتقال من طبقة لطبقة...وغالبا ما لا ننتقل أساساً...نحن الأغلبية...ما يجعلكم تؤمنون بوجود معجزات هو الدعاية الإعلامية والبروبغندا التي تحدثها تلك الانتقالات القليلة للبعض بحيث تعتقدون بأن من قام بها الله أو المسيح أو أهورامزدا...وأن المعجزات تحدث...
لا
على العكس تماماً...فانحرافات قوانيننا الكونية هي استثناءات طبيعية، مجرد حالات تنبثق عن تعقيدات كثيرة نسميها صدفة. لا أكثر ولا أقل..
إننا كبروليتاريا (باعتبارنا أغلبية) يجب أن نقتنع بذلك لكي نعيش أصحاء النفس والجسد.. لا تصدقوا الدعاية الرأسمالية ولا الطوباوية الماركسية ولا الأكاذيب الدينية...فلا شيء يتغير منذ عشرات الآلاف من السنين منذ تطور ذكاء الإنسان القديم إلى إنسان اليوم..)...
يتقدم المدير والموظف ويقفان للاستماع.
- (لقد انهارت حضارات، سمعنا منها اسماء القيادات والملوك فيها، لكن الشعوب لم يبق منها شيء حتى اسماؤهم ضاعت في غياهب التاريخ...كانوا أيضاً يملكون ذات أحلامكم..ذات إيمانكم..وذات أحزانكم وذات انتظاركم للمعجزات...حان الوقت لكي نبلغ الذكاء الأقصى ونعترف بالواقع.. بالصراع كحقيقة..وبالشر كمعيار ضروري لانتخاب الطبيعة للأقوى...وبالحياة كرحلة للكسل...استسلموا...استسلموا واتركوا تفاهة العقل المثالي...لا ترهقوا أنفسكم في العمل الشاق...اعملوا ما يكفي لإقامة أودكم من الساعات...اسكنوا في اكواخ بسيطة...اعتبروا المرض عدواً طيباً...انتظروا فناءكم بكل ثبات وفخر واعتزاز....فلا شيء حقيقي في هذا الواقع سوى الواقع نفسه)...
قال احد العمال ضاحكاً:
- لم نفهم يا استاذ...حدثنا بلغة بسيطة...
وحين بدأ الشاب يحدثهم بلغة بسيطة، انحنى المدير إلى المحاسب هامساً..
- لقد أقنعهم أولاً بتفوقه عليهم..والآن سيتملك قلوبهم.. إنه خبيث...
صاح المدير:
- أيها الشاب...أليس من الخبث واللؤم أن تأتي وتتسول مني عملاً ثم لما أرفض تذهب للعمال لتحرضهم على ترك العمل...
ضحك الشاب بحنق وقال:
- ألم تفهم حتى الآن أنني زرتك لأعرف شخصيتك...لأميز إن كنت مديراً تستغل بساطة العمال وقلة حيلتهم أم أنك عادل معهم.. إنني أؤكد لك أن زيارتي كانت لمعرفتك ومعرفة ظروف العمال..بل أقول لك...أنني مكثت ثلاثة أيام أراقب مصنعك وفعلت ذلك مع كل المصانع الأخرى..لم اجد منكم مديراً مخلصاً..بل وجدتكم تسرقون عرق العمال..
وجم الجميع وواصل الشاب:
- ليس هذا فحسب..بل إنني أؤكد أنك حتى الآن لم ترفع أجر المحاسب المخلص الذي يقف إلى جوارك..حتى لا يعرف أنه عضو مهم في مصنعك..
دارت عينا المدير والمحاسب حول محجريهما، المدير جراء الصدمة، والمحاسب لأنه فهم شيئاً لم يكن بإمكانه فهمه ولو بعد مائة عام...
صاح المدير غاضباً:
- هل تصدقون هذا الكافر.. هل سمعتم استهزاءه بكافة المعتقدات الكريمة...
اكفهرت وجوه العمال، فقال الشاب:
- بالعكس..إن الآلهة قد بذرت بذور الوجود كما يبذر الزارع القمح..ويتركها لقانون التربة لا لقانونه هو...وهكذا تفعل الآلهة..أما أنتم فكذبة.. تمنحون هؤلاء العمال الفردوس في السماء لتأكلوا أنتم القمح الذي نبت على الأرض ...
إنكم أيها الرأسماليون تديرون هذا العالم بذكاء..تعلمون الناس الكذب..تقنعونهم بالإنتخاب التجاري أي بالمعايير التي تخدم مصالحكم...تقنعونهم بعالم وهمي لكي يعملوا ويعملوا ويعملوا من أجل لا شيء..
ثم التفت إلى العمال:
- لماذا تعملون عشر ساعات في اليوم؟.. من أجل هذا الفتات من النقود..لو بعتم التراب الذي على الأرض فستحصلون على مال أكثر من هذا....هل تريدون أن تعيشوا نصف حياة...أو بلا حياة تماما... عليكم ألا تعملو سوى ثلاث ساعات فقط وبنفس الأجر.. هذا هو العدل.. تخيلوا لو فعلتم ذلك.فماذا سيفعل هذا المدير.. إنه سيضطر لاستئجاركم ثلاث مرات ..وأن يدفع مثل راتبكم هذا ثلاثة أضعاف..نعم سيفعل ولن يخسر أبداً لأنه كان يستغل جهلكم بحقوقكم...
صاح المدير:
- ليس من حقك أن تحرض العمال..هذه جريمة يعاقب عليها القانون..
صاح الشاب بدوره:
- القانون الذي وضعتموه أنتم...إذا كان قانونكم يحميكم فإن هؤلاء العمال هم من يحمونني.. الآن توقف كل عمال المصانع الأخرى عن العمل..وستضطر أيها المدير لتشغيل مكابس المصنع بنفسك.وأنت لا تستطيع فعل ذلك في الواقع...ستعلم حينها ان هؤلاء العمال الذين لا تقدر جهدهم وخبراهم هم أكثر أهمية منك أنت نفسك..
صاح المدير:
- أنت شيوعي قذر...
رد عليه:
- لست شيوعياً بل أنا ضد الشيوعية..إنني مع وضع الحقائق أمام اعين البشر..البشر الذين يظنون أن العمل مقدس أكثر من الحياة..وأنهم بلا عمل لا قيمة لهم..هذه هي المعايير التي زرعتمونها في عقولهم.. لا ..فالعمل ليس مهماً..المهم هو أن نحيا..دون ان يستغل احد ما ساعات حياتنا ليصبح مليونيراً وتضيع حياتنا لغفلتنا عن تلك السرقة...
دار المدير عائداً إلى المصنع ثم قال:
- من لم يدخل للمكابس خلفي والآن فوراً فلن يدخلها مرة أخرى...
ثم دخل ولم يدخل معه أحد حتى موظف الحسابات تمرد مع المتمردين...
جلس وتأمل بصمت، أخرج علبة سجائره فوجدها خالية، فتذكر أن المحاسب يدخن.. ذهب لمكتبه فوجد علبة سجائر..أخذها وأشعل لفافة وجلس يفكر بهدوء...
بعد تدخين سجارة ثانية اتصل بالمحاسب وطلب منه ان يطلب من الشاب الحضور ...
بالفعل جلس الشاب أمامه بوجه غاضب.. قال المدير:
- ماذا تريد؟ .. وظيفة؟
ضحك الشاب وقال:
- يبدو أنك لم تفهم ما قلته من عدم أهمية العمل بالنسبة لي...
قال المدير:
- ولكن..بغير عمل..فلن تتزوج ولن تستطيع إطعام ابنائك لو تزوجت..
اخرج الشاب علبة سجائره وقال والدخان يغطي وجهه:
- هذا ما تقنعون به الشعوب الحمقاء...أنتم لصوص العقول...ولكن دعني أخبرك. بشيء..
صمت الشاب قليلاً ثم أضاف:
- عليك أن تعطني مرتباً شهرياً من مخصص النثريات...مبلغ ضئيل جداً.. فباقي المصانع أعطتني هي أيضاً...
قال المدير:
- بلا عمل..
قال الشاب:
- بل بعمل مهم..وهو أن أتوقف عن منعكم من سرقة هؤلاء الأغبياء...أليس هذا عملاً..
فكر المدير قليلاً وقال:
- هل دفعت لك المصانع الأخرى..
- نعم..
- وتحصل على كل هذه النقود لتنام في المنزل...
قال الشاب:
- لأمنع سرقة حياتي مني..
صمت المدير متفكراً:
- وكيف ستقنع العمال بالعودة..
قال الشاب:
- سوف تمنحهم زيادة بسيطة في الأجور وهكذا استطيع إقناعهم...
أغمض المدير عينيه ثم قال:
- حسنٌ...
- اتفقنا...
نهض الفتى وقال:
- أمر محاسبك بدفع مرتبي الشهري مقدماً.. كنوع من تأكيد المصداقية...
قال المدير بحنق:
- هذا ابتزاز..مع ذلك فسأفعل ذلك..
تحرك الشاب نحو الباب وقال: -حسنٌ... سأذهب الآن لأنام..إن هذا العالم التافه لا يستحق أكثر من ذلك..
ثم غادر وابتسامة جزلة تنبسط على شفتي المدير..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى