زكية علال - تفاصيل وجع على الإنترنت

العالم يتكور في ذيل القرن، حتى يغدو كرة ثلجية زائفة، اقتحمها السواد عنوة بحجة أن لأسود لون أساسي في رسم أحلام البشر ثم تتدحرج الكرة الثلجية السوداء، وتذوب عند قدمي بفعل حرارة النكسة التي سكنتني، فأجد نفسي أسبح في فضاء مفرغ: لا أرضاً تقف فوقها قدماي، لا سماء تحتمي بها أحلامي الوردية، و لا بشراً يسبحون في الشارع، بل لا أثر للشوارع، ولا البيوت ولا… أحسست أن العالم أفرغ نفسه في عمق محيط لا قرار له، وإني أتمايل كبلونة لا تعرف أين تستقر.. فراغ.. فراغ.. فراغ.
سحبتني المرارة إلى بيتي حمامة ضيعت بياضها وسلامها عند بوابة الفتنة الكبرى، فأفاقت على ألوان شتى تتعاقب على خارطة روحها.
أجيء، طفلة محملة بخطايا الكبار، ومرهقة بحماقتهم التي أغرقتها في متاهات لعبة ممتدة، كي تظل طفلة ساذجة لا تفقه شيئا.
أجيء… خوف من ورائي، وبرد قاتل يسبقني إلى غرفتي ليحملني إلى فراشي.. أخـرج يدي من جيب عمر غابر، أدفع الباب بضعف الهزيمة التي سكنتني فأجدها تفتح على تضاريـس مدينة مجهولة.
ألج إلى الداخل يتقدمني جيش من الرياح العاصفة العقيمة، وتحرصنـي مـن ورائـي فرقة من الخوف الذي احتواني منذ استيقظت الشوارع على طوفان من الدم.. والدموع.. والجثث المشوهة، ودخان أحلام أحرقتها الحماقة.
حاولت أن أنير ظلمة الغرفة، لكن عبثاً فالتيار انقطع كما كل المرات، أفزعني الظـلام المبعثر في كل الزوايا كالأشباح "كم يرعبني الظلام… إنه رهيب… يخطف منك الأمن والأمان، ويجعلك تتوقع طعنة من هنا وطعنة من هناك… يكفي أن نصف العمر يضيع في سراديب ليل مجهول".
هكذا كنت أهمس بخوفي لكل الذين أحبهم، لكن الحقيقة أبشع بكثير مما أصوره لأحبائي، فالظلام يلازمني كظلي الرمادي ليزرع الخراب في كل فضاءاتي.
وأنا طفلة صغيرة، كنت لا أنام على قبس من نور، حتى ضوء القمر الذي كان ينكسر على نافذة غـرفتي، لم يكن يقنعني، كنت أحب أن أغمض عيني على ضوء ساطع حتى أضمن هروب الأشباح. هكذا أخبرتني أمي وهي تحدثني عن طفولتي المتأخرة.

سحبتني رجلاي نحو كل الأدراج التي هداني إليها عقلي وحدسي، فتحتها لأبحث عن علبة كبريت تنفعني في هذا اليوم العسير، لكن عبثاً، فالظلام يحجب عني كل شيء.
لست أدري لماذا تملكني الإعتقاد أن الغرفة مليئة بالجثث المشوهة، والرؤوس المفصولة والأطراف المقطوعة مع أن بصري لا يفقه شيئاً مما حوله.
تخيلت أن بعضاً منها يتمدد على سريري، وبعضاً يختبئ في خزانة ملابسي، والبعض الآخر على أرضية الغرفة ليزرع الرعب والخراب فيها. اصطدمت بشيء صلب، فسيطر عليّ رعب قاتل، وتسلل إلى عروقي ودمي خوف رهيب ذهب بكل شجاعتي، وخيل إلي أني اصطدمت بجثة وأنها تتعلق بقدمي طلباً للنجاة، تخيلتها امرأة مفصولة الرأس تتسلق إلى صدري، بل رجلاً ممزقاً يتعلق بثوبي، لا، بل طفلاً متفحماً يزحف نحو قلبي ليعود إليه بياضه... لكنني ابتسمت من خوفي المفرط، وأنا أتحسسه، لأكتشف أني تعثرت في سريري الحديدي الذي يأويني كل ليلة.

وطال عمر الظلم -عفواً- أقصد الظلام، فتمدد الخراب في داخلي أكثر، وكاد يجعل من جسدي المتعب جثة تضاف إلى مجموع الجثث المتناثرة في الغرفة…
ومن وسط العتمة الداكنة تسللت إلي صورته، تذكرته، تذكرت سيجارته.. دخانه المتكبر.. لقد كان هنا بالأمس ولا شك أنه نسي علبة الكبريت كما تعود، فهو كلما مر بمكان، نسي – أو تعمد- أن يترك شيئاً من لوازمه يدل عليـه، أسرعت إلى مكانه أدفع الظلام بذراعين تائهتين… تحسست ظله الرمادي بكفي الأيمن، وخياله الذي يلتصق بي- بكفي الأيسر- آه العلبة هنا ! "كم أنت رائع أيها الرجل، بل كم أنت غريب الأطوار تمنحني الخراب حين تقترب مني، وتترك لي نوراً عندما تغادرني!"
ولم أكد أفتح علبة الكبريت، وأخرج منها عود ثقاب حتى عم الغرفة نور؛ تعبت عيناي أن تتحمله.. عجيب.. لأول مرة يعود النور بهذه السرعة، فالضوء.. كما الضياء.. كما كل الأشياء المضيئة في بلدي، ينطفئ بسرعة، لكن رجوعه يحتاج إلى سنين، نخسر خلالها رجالاً وعيون أطفال وضفائر نساء، وقبل أن يصل المختصون التيار المنقطع يكون كثير من العباد فقدوا رؤوسهم.. أيديهم..أرجلهم .. أحشاءهم، أو جميعهم في آن واحد، وفي أحسن الأحوال تسلب منهم أحلامهم.
فعندما يكون الملك بأمر الظلام، تتوقع أن تخسر أي شيء، وتكون محظوظاً إذا خسرت حياتك فقط.

تمددت على سريري الحديدي، وقد تخلصت من عقدة الخوف، بعد أن أوصل المختصون التيار المنقطع، لم يبق أمامي غير هذا البرد الذي يكاد يعصف بي، ووجدت نفسي أسخط على كل العلماء والأطباء.. "سحقا لهؤلاء العلماء الذين يبحثون للإنسان عن سكن غير الأرض، بينما الخوف يحصد أكثر مما تحصد الحروب، وعجزوا إلى حد الساعة عن اختراع أقراص تخلصنا مـن البـرد، وأخرى تقتلع الخوف من أعماقنا، وأخرى تجتث من قلوبنا حباً لا نرغب فيه، وأخرى ضد الكره... و… آه… لو تحقق ذلك، لكنت خلقاً آخر وتخلصت من الخوف والجبن، ومن حب جارف سكنني وأقام في شراييني وممرات قلبي، ويرفض أن يغادرني رغم تقدم العمر.
آه… ماذا لو سطع نجم عالم أفلح في أن يجلس العالم على كرسي الطمأنينة والأمان، كما أفلح علماء كثيرون في تخريب خلايا الأمل في عيون الأطفال، وزرع قنابل الرعب بين ضفائر النساء، وسحب وسادة الأمان من تحت رؤوس الرجال… علماء نجحوا في زرع شوكة جافة في حلق العالم، وجعلته يتخبط كمن به مس من الشيطان.

اللحظة جسدي كله يرتعش… أسناني تصطدم ببعضها البعض لتحدث صوتاً يمزق صمت الغرفة، حاولت أن أتزمل.. أن أتدثر بكل الحكايا الدافئة التي عبرت حياتي… حاولت أن أستشعر الدفء من حكاية الطائر الجميل الذي قذف به البرد إلى حديقة القلب مفجوعاً، فاحتويته بكل الأمومة التي تنبت في دمي، لأنتبه ذات وجع، فأجده صريعاً فوق أسلاك الروح وبين منقاريه وردة حمراء متفتحة، كان ينوي تهريبها من مملكتي.
حاولت أن أتدثر بحكاية الرجل الأسطورة الذي ظل سنوات ينحت في أروقة الروح قصة وفاء في زمن تزهر فيه الخيانة، وتفرخ وتتناسل، كامرأة تحبل من طيف أو من بريق حلم. وتصنع الفجيعة علبة كبريت يخرجها من جيبه ليشعل سيجارة يتحسس بها دفء الحلم، لكنها ترتعش بين أنامله، لتنزلق في لحظة سهو… تقع، لتضرم نارا تأتي على كل تمثال الوفاء القائم في مملكتي…
حاولت أن أتزمل بكل ارتعاشة صدق – لكن عبثا- فصوت العاصفة يزمجر من الداخل… من العمق، ليتوزع في أحلام العمر ويقتلعها، لتركن إلى يتم لا دفء بعده .

تكورت في فراشي محتضنة وجعي، وتيقنت أنه لم يبق أمام خيبتي غير هذا الصحن المقعـر الذي يسمونه "برابول" عله يمنحني بعض الدفء والأمان وينتشلني من خراب يتربص بي.
أخذت جهاز التحكم عن بعد وأقمته بين جدران راحتي، لتبدأ أناملي تلعب بأزراره : ضغطت علـى الزر الأول فجاءت الصورة بشعة متفحمة تحمل كثيراً من الجثث منزوعة الأطراف، مفرومة اللحم، غائبة الملامح، كأن لم يكن لها حواس تحسست بها زيف العدالة المبتورة…
غيرت بسرعة نحو قناة أخرى، فامتثل أمامي صحافي وسيم، يجتهد في رسم ابتسامة باهتة على سطح شفتيه، ظهر وهو يحصي عدد القتلى في مذبحة الأمس… عبرت إلى قناة ثالثة فرأيت خلقا كثيرا من كوسوفو وهم يرمون كنفايات سامة إلى مكان لا رجعة منه. هربت بصدمتي إلى قناة رابعة، فكانت صورة رضيع تملأ الشاشة وقد أقام عليها الرصاص خريطة بمساحة الخيبة التي تربض في عيون الأطفال… ولعبت أناملي بكل الأرقام اليتيمة والمركبة، لكن لا شيء غير الدم يرسم لوحة تشكيلية لفجيعة منتظرة...
واستيقظ السخط في نفسي جبارا : "اللعنة على هذا الجهاز! ... عندما اشتريته اعتقدت أنني ربحت فرحاً، اليوم، تأكدت أني لم أبتع إلا خرابا، وضعته في غرفتي لأتفرج عليه كل ليلة".
وهنا تذكرت مقولة الرجل الذي غادرني بالأمس، وترك لي علبة الكبريت: "هناك وجع يقتحمنا عنوة، ووجع نسعى إليه ونطلبه".

وأطبقت أهدابي على هزيمتي اللامنتهية، لأستيقظ على وجعي وقد اتخذ له مكاناً على شبكة الإنترنت، وأصبح بإمكان العالم أن يتفرج على توجعاتي وتأوهاتي متى شاء.
لست أدري من حجز لتفاصيل حزني وخرابي على شبكة الإنترنت.. كل ما أدريه أن وجعي لم يعد سراً يسكن صدري، بل أصبح ملكاً مشاعاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى