جعفر الديري - في صخب المقهى.. قصة قصيرة

قبل شهر واحد من الآن، لم يكن أحد سواء من الغرباء أو الأقرباء، يصدّق أنّه جاوز الأربعين من عمره! أمّا اليوم، فكلّ من يعوده في بيته، أو يلتقيه في أيّ مكان آخر، يحدّثه بهدوء ولين، يناسبان رجلاً هرم في ظرف ثلاثين يوماً، بفعل المرض اللعين!

حتىّ العمّال في السوبرماركت القريبة من بيته، تغيّرت نظراتهم!، فكشفت عن معادنهم «الأصيلة». فلم يعودوا يُهرعون لتلبية ما يطلب، ولا يبتسمون تزلّفا إليه! لقد انتهت تلك السطوة، وحلّ محلّها وجوم وشرود يليقان برجل يتوقّع الموت في أيّة لحظة!

على أنّ المرض لم يكن علّته الوحيدة، على رغم الدواء الذي يتجّرعه، فيحسّه سمّا يمزّق أحشاءه! فإنّ مأساته القديمة تجدّدت فصولها قتامة، حتّى غشيته كآبة لم يفلح أيّ من أصدقائه المقربين في إزالتها! عذاب مازال يصنعه أبناء أربعة! أكبرهم أشدّهم سوءاً! ذوي عقول صغيرة وأجسام ضخمة كالثيران!

بالأمس فقط، تعمّد الجار «العزيز»، أن يلهب وجدانه، بريشة الفنان المبدع، القادر على تحريك الرسوم، فكأنّها تحدث أمامه! لقد سمع ضحكات ولده البكر تجلجل في المقهى الصاخب، ويده تلعب بالورق بمهارة، بينما فمه لا يكف عن شرب الشيشة!

- ومتى كان ذلك؟!

ويجيبه الجار وهو يعلم أنّه سؤال العارف المكابر. يجيبه وكلّه أمل أنّ تكون ضربة قاضية...

- في اليوم نفسه الذي علمنا فيه، أنّك سقطت ضحية للدّاء العضال!

الخبيث يعلم جيداً، أنّ هذا المرض لا شيء أمام ما يعتمل في صدره من قرف ومرارة من ذريّته التعيسة! ولا يشكّ لحظة في أنّه كان يراقب صعوده في سلّم الغنى، خطوة خطوة، حسوداً، حقوداً، مترصّداً الفرص للنيل منه! وها هي تأتيه وتأتي غيره من الأعداء على طبق من ذهب، فأيّ معنى للحياة بعد اليوم؟!

ولاحت منه التفاتة للمجلّة على يمينه، فأمسك بها، وراح يتصفّحها دون اهتمام، حتى وقعت عيناه على صورة شاب وسيم، تشعّ عيناه ثقة وسعادة. فراح يقرأ قصة الشّاب الناجح في عالم المال رغم صغر سنه! حين سمع طرقاً خفيفاً على الباب.

دخل عبدالمجيد، فأشار إليه بالجلوس، دون أن ينطق بحرف واحد! لقد فضّل الصمت، لعظم ما يعتمل في نفسه من أسى! فهو أكثر مالاً وولداً من زوج أخته، ومع ذلك، لو جمع كلّ أبنائه في كفّة، وعبدالمجيد في كفّة، لرجحت كفّته. وكم تمنّى صادقاً لو انه من صلبه، لهدأت نفسه، ولم يشغلها التفكير في أمر زوجته وبناته!

ثمّ قال في صوت واهن:

- لقد تحدّثت مع أبيك وأمّك بشأن المصنع. وإني لشديد الثقة في أنك ستعيده سيرته الأولى، وانّك ستوفّي أقساطه في وقت قريب!

وقبل أن يترك لابن أخته الفرصة للكلام، أضاف، وهو يمسح دمعة في مقلته:

- لا تخش شيئاً من جانب أبناء خالك!، فلو علمت أنّ واحداً منهم له شيء من رجولتك، لما بعتك المصنع! يكفيهم محلات الملابس وما تدرّ من دخل محترم!

ثمّ أشار إليه متلطّفا، فأطفا هذا النور، وأغلق الباب وراءه، وتركه جاهداً في أن يحظى بساعة من نوم، دون أن تطرقه الأحلام المزعجة!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى