هشام ناجح - وجوه التشويش المحسوس.. قصة قصيرة

" عندما نبالغ في التعبير بالحركات اليدوية المصاحبة للغة، قد نتنبه إلى خلق هيئة للفكرة؛ إنها أبلغ تصور على أن الإنسان يعبر يدويا أحيانا أفضل من البحث عن باقي وظائف اللغة".
( هـ. ن)
"...
إن روما خلقت من يد لم تكن تتطلع إلى الفرق بين الخير والشر؛ إنها حصيلة لفكرة الرب قبل الشروع في تسمية الأشياء. إنها ذروة الحواس، وحتى ندرك عمق الالتباس، ونفك يد الرب من أغلالها، نقول: إن روما خلقت من نشوة يدوية؛ بالأحرى من تعبير يدوي كان الرب قد خلص فيه إلى تبني فكرة التعبير. فمثلا أنا الأب كليمان: إني تمثل صغير ليد الرب، ويمكن أن أخلق تعبيري اليدوي في الفضاء لوجوه لن تتمكنوا من رؤيتها. إلا أن روما، هي؛ التعبير اليدوي للرب قبل الإحاطة بفكرة الخير والشر، وبعد روما شرع الرب يسمي الأشياء بمسمياتها".
لم تكن مارغريت تدرك على الأرجح: لماذا هي مشدودة إلى سيل كلمات الأب كليمان؟ لكن، هذه المرة يمكن أن نقول: إنه قرع باب فكرة الانسجام مع الدواعي التواقة للخلق المتواصل. إذن بدون وعي كان عليها أن تغطي تلك المساحة الفارغة من القلق الميتافيزيقي، وتلقي بيدها في التمثل الصغير ليد الرب، وتكفر بمهنتها كراقصة للباليه ولو بشكل جزئي، حتى تؤخر سطوة الجسد المحكوم بعجن الظاهر بالخفي، والإمعان في الرشاقة المتناغمة مع تلك الترانيم الخفاقة. الآن يمكن أن نجزم أن مارغريت تفطنت إلى فكرة ظلت تؤرقها لسنين عدة. مع العلم أنها لاتقبل الأسماء الجاهزة للإحاطة بالظواهر أو التصورات. إذن، برغبة مشاكسة تسعى دائما إلى إيجاد أسماء تتماشى مع تصوراتها الذهنية، فلنقل عن هذه الحالة مثلا، إنها خلصت إلى؛ اسم "العبودية الناعمة"، الحالة التي تزيد من حمى الاغتراب مع هذا الجسد المنهوش والمنذور للعيون اللاهبة. إنه الإحساس بالعنف تجاه الحركات التي يطبعها الإغراء الاستفزازي. لهذا كانت تشعر بعرق بارد ينز من أعلى ظهرها حين لاتروقها الحالة، ويزداد حجم النفور من هذا الجسد الراقص. وبعبارة تحاذي التصور دون أن تتحسس الملموس، التمعت فكرة إبداع الوجوه الفضائية في عينيها قبل يديها من يد التمثل الصغير كفكرة جيدة تدعو إلى الانشغال بوجهة أخرى تكون فيها حرة التداعي، ساعية إلى تبني نشوة اليد الخالقة لوجوه تضمنها الهندسة الفضائية، مشوهة بذلك سيرورة تقليد الطبيعة بكل سطوتها وعنفها. فأصبحت تستشعر أن وجهها وجه كائن فضائي عمل الأب كليمان على خلقه بطريقة تستحضر من خلالها درس الهندسة الفضائية في مادة الرياضيات، حين كان الأستاذ مارسيلنو جوفاني يرسم دوائر في الفضاء، تأخذ شكل بيضة، فما كان عليها إلا أن تمر من المحسوس إلى الملموس، وتتلمس وجهها بدافع غرائزي. كادت أن تنفلت منها ابتسامة بلهاء
وسط هذا الحشد الذي لايقبل المزاح. لهذا عقدت بين حاجيبيها بسرعة، حتى تعود إلى حالة الانسجام الشفوي، لكن، حالة الوجوه ظلت مشدودة بطريقة أو بأخرى إلى شكل البيضة. الأمر الذي حتم عليها الاستعانة الذهنية بلوحات بيكاسو التكعيبية حتى تهتدي إلى دليل الوجوه الفضائية. لم يكن بيكاسو الدليل الكافي إذن؛ لإنه بمثابة شكل فقط تستعين به لتكريس التشابه حين ينفلت منا وجه الآخر، فمثلا كان وجه والدتها روزا يأخذ شكل تفاحة عوض البيضة. أحست بنوع من الشفقة حيال هذه التفاحة، لهذا كان عليها أن تمدد يدها وتمعن النظر في الفضاء بين براجم أصابعها من أجل التأكد من الخلق المتواصل. انبجس وجه خطيبها ماركوني. أوف.. لو كانت تعلم أن وجهه بهذا الشكل لما سقطت في شراك حبه. ماركوني الإجاصي كما علقت ذهنيا. أو العم مونتاني الذي تولد وجهه من بين الفجوة بين خنصر وبنصر اليد اليسرى على شاكلة منجل. لحظتها تفطنت إلى الميولات الإيديولوجية للعم مونتاني. أو والدها فيردي الذي تسلل من بين سبابة وإبهام اليد اليمنى على شاكلة بيتزا بيضاوية. لنؤكد من جديد أن مارغريت لاتقبل الأسماء الجاهزة للإحاطة بالظواهر أو التصورات لما شرع منبه العرق البارد يئز بحبيباته أعلى ظهرها، وإرغام حالة المشاكسة التي تستوجب رصد معرفتها المستقلة بإيجاد اسم للمنبع الذي تتشكل فيه الوجوه، فقد أدركت أن هذه الوجوه تخرج جاهزة، أي؛ أنها مرتبة في الحيز الخاص بها من قبل، ولا تتطلع إلى وجوه لا تعرفها.
كان بإمكاننا أن ننبه مارغريت إلى تبني الطرح النفسي الفرويدي، حتى تتفطن إلى قيمة اللاوعي في ترتيب هذه الوجوه سلفا، و حرصا منا على خوفها من الجاهز، فنحن نعلم مدى كفرها بالأسماء الجاهزة، و نقدر رغبتها في التخلص من كل أشكال العبودية الناعمة والسعي وراء لبس الإرادة المستقلة. لكن، بات من الضروري أن نشير إلى أن فكرة الخلق المتواصل ليست مستقلة في حد ذاتها، فهي لم تبدعها من عدم، مثلا إذ سلمنا بأن يدها الخالقة هي اليد الثالثة بعد يد التمثل الصغير للأب كليمان وبعد يد التمثل الأكبر للرب.
أبدت مارغريت بعض الانعطاف نحو المنبه، عاملة على غلق عينيها بغية الاستماع إلى ضبط الحالة من الداخل. لم تصادف سوى طنين يدرجها ضمن شوشرته الخاصة فشرعت الوجوه تتولد من رحم بعضها. حينها أحست ببعض الامتلاء. كان طنينا محببا يفتح مراكز السعادة. بسرعة غير متوقعة سلمت نفسها للإستجابة الكلية مادام العرق تحول إلى مس متناغم. لم تكترث لأحد بجانبها، ونبست بصوت طازج: "وجوه التشويش المحسوس". مما جعل العجوز التي بجانبها تحذرها بحركة من سبابتها بعد أن وضعتها بشكل عمودي على فمها. مشيرة إلى مارغريت بالانتباه إلى الأب كليمان. بما أنها تلقت وعيد العجوز بنوع من الصرامة المقدسة، حركت رأسها بإيماءة الطاعة المخزونة لتخطي الحواجز المفتعلة. فأرخت سمعها صوب مصدر الصوت:
" إن ردود الأفعال مرهونة بالقدر. لاأخفيكم سرا مرة أخرى، أنا الأب كليمان لا أقدر على مبارحة روما لأنني آنست إلى وجوهي في حميمية لاتقاوم، وبكل بساطة لأن روما وجهي الحقيقي. إذن؛ فأنا عبد الانطباعات والشغف. وأقول لكم كما قال الرب. لكن، هذه المرة بعد أن خلص من الأسماء والمسميات: " إن الرب رؤوف رحيم وبطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر".
دمدمت مارغريت:
" اللعنة عليك أيها الأب كليمان".
كانت العجوز تطاردها من جديد بحركة من يدها اليمنى، ملوحة بها في الأفق.



L’image contient peut-être : Hicham Najeh

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى