عمار الثويني - سورة يوسف... إحدى بواكير فن السرد الروائي

تعتبر سورة يوسف التي وردت تفاصيلها بالكامل في القرآن الكريم واحدة من أهم وأجمل القصص التي ألهمت خيال الأدباء كونها من بواكير القصص التي تحمل برأيي مكونات السرد الروائي. وقبل الخوض في هذا الطرح، ينبغي الأخذ في الاعتبار بعض الحقائق التي تخدم هذا الرأي والتي من بينها أن القرآن الكريم شكل تحولا جذريا في أدب العرب الذي كان وقت نزوله شعرا يعيش عصره الذهبي مع وجود فطاحل الشعراء من بينهم أصحاب المعلقات. من هنا، أحدثت آيات الكتاب بشكلها النثري (المسجع في كثير من السور) ثورة أدبية إضافة إلى كونها معجزة نبوية تختلف عن سائر معجزات الأنبياء بأنها فكرية وليست مادية. وثانيا وصف الله تعالى سورة يوسف بالذات بأنها "أحسن القصص". وحتى لو فسرت كلمة أحسن بأي معنى، تظل هذه القصة صاحبة المكانة العليا بين سائر القصص في الكتاب. والأمر الثالث اللطيف الذي لا بأس من الإشارة أن مفهوم الرواية لم يكن معروفا بشكلها الحالي، بل كانت ذات صلة بـنقل "الحديث" حرفيا.
وفيما يتعلق بالمزايا التفصيلية لسورة يوسف التي تجعل منها واحدة من بواكير النصوص "الروائية" فهي عديدة، من بينها:
أولا: إنها السورة الوحيدة التي تناولت حياة أحد الأنبياء من الصغر حتى مرحلة متقدمة من حياته بمثل هذه التفاصيل التي صاحبها تحولات اجتماعية واقتصادية عديدة: رؤيا الطفولة، مكيدة وحسد الأخوة، التآمر عليه ورميه في البئر واخراجه منه، بيعه إلى عزيز مصر والمراودة ثم السجن وبعدها التفاصيل المعروفة اللاحقة. القصص التي وردت في الكتاب تناول الكثير منها مشاهد محددة وحوادث معينة (الاسراء، الهجرة، قصة سيدنا موسى وفرعون التي تكررت في أكثر من سورة، قصة البقرة، سيدنا نوح وبناء السفينة، وغيرها). ربما ولادة السيد المسيح هي الوحيدة المذكورة بتفاصيل أكثر، لكن ليس ثمة ذكر تفصيلي عن حياته اللاحقة.
ثانيا: إنها من السور متوسطة الحجم تقريبا تماثل تقريبا سور مثل الكهف والإسراء ومريم، لكنها مكرسة في نحو من 100 آية لقصة محورية واحدة عن حياة يوسف (ع) (والآيات القليلة المتبقية حكم وموعظة). في سورة الكهف مثلا نلاحظ ثلاث قصص: أهل الكهف، وقصة سيدنا موسى مع الخضر ع وقصة يأجوج ومأجوج. وتطرقت سورة الاسراء إلى تلك الحادثة الشهيرة ببضع آيات، بينما حكت سورة مريم قصص العديد من الأنبياء مثل سيدنا زكريا.
ثالثا: تعدد الأزمنة والأماكن. فقد امتدت القصة كما أوضحنا لفترة زمنية طويلة (نحو من أربعين عاما) وغطت أماكن متعددة، وكانت تدور أحيانا في أكثر من مكان: بيت النبي يعقوب في أرض كنعان، البئر، قصر عزيز مصر، السجن، قصر الحاكم، مكان وإقامة عمل النبي يوسف عندما صار هو العزيز، العودة بالأحداث إلى أرض كنعان، ثم اختتامها بقدوم أهله أجمعين إلى مصر.
رابعا: الاستباق في سرد الأحداث، والذي ظهر جليا في الاحلام الثلاثة التي كشفت النقاب عن حوادث قادمة، الأول حصل على النبي نفسه برؤيته أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين، ومن ثم رؤيا صاحبيه في السجن وتفسيره لهما بنجاة الأول (ساقي الخمر) وصلب الآخر (حامل الخبز الذي تأكل الطير من رأسه). أما الحلم الثالث الذي كشف عن أحداث لاحقة فهو رؤية الملك لسبع بقرات سمان وسبع عجاف، وبعدها سبع سنابل خضر وأُخر يابسات، ما أضاف للحكاية 14 عاما من أحداث الخير والقحط.
خامسا: كان للجمادات دور في صناعة الأحداث وتقرير المصائر. فمثلا ورد القميص في ثلاثة مواضع: الأول عندما أتى به أخوة يوسف وعليه دم مدعين أن الذئب قد أكله، لكن كان القميص نفسه "دليلهم" قد كشف مكرهم لأنه لم يكن ممزقا إضافة إلى يقين النبي يعقوب، والد يوسف (ع)، ببهتان أولاده لأن الذئاب والأسود، بل سائر الحيوانات، لا تقرب لحوم الأنبياء. وكان القميص الثاني قد أنجاه من مكيدة امرأة العزيز وأثبت براءته بعد الكشف عن موضع الشق فيه: من "دُبر" وليس من "قُبل". أما القميص في الحادثة الثالثة فأعاد البصر لوالده وليؤكد أن ليوسف (ع) مكانة خاصة. الأمر ذاته ينطبق على صواع الملك الذي بوساطته أخذ أخاه إليه وأحتال على أخوته ليذكرهم بفعلته ويأتي بأهله أجمعين في نهاية المطاف.
سادسا: تعدد الثيمات مثل الغدر والخيانة والصبر والأمل والوفاء والحكمة إضافة إلى الأحوال الاجتماعية والاقتصادية مثل الرق والعبودية والشرك والوفرة والقحط والتدبير. ولعل هذه السورة الوحيدة التي تطرقت إلى ثيمة الحب بمثل هذه التفاصيل بدءا من بلوغ يوسف (ع) أشده ثم مراودة امرأة العزيز له في قصرها عندما غلقت الأبواب وافتضاح أمرها، ما أضطرها إلى دعوة النساء لحفل خاص قطعن أيديهن عندما شاهدهن جمال من "شغفها حبا". كان ذلك الحب والصد السبب الرئيس الذي ألقى بالنبي في غياهب السجن لـ 11 عاما ولم يخرج منه إلا بعدما شاهد الفرعون حلمًا في منامه.
سابعا: تعدد الرواة، ففي أغلب القصص القرآنية كانت الحوار بين اثنين أو ثلاثة وليس بمثل هذا العدد الكبير من الرواة: يوسف (ع) وأبوه وأخوته، العزيز وامرأته، قريب امرأة العزيز الذي صار حكمًا في حادثة شق القميص، نساء المدينة، الفرعون، مفسرو الأحلام، صاحبا السجن، وأخيرا الشخص الذي كشف عن صواع الملك.
ثامنا: التشويق الذي يميز القصص عادة ويجعل القارئ شغوفا بالتفاصيل اللاحقة أو يتخيل تلك المشاهد. وفي هذه السورة ثمة العديد من الأحداث والانعطافات المشوقة من بينها رمي النبي في البئر حيث نتساءل هل يخرج منه؟ دخوله السجن ظلمًا وكيف سيخرج منه وينتصر للظلم الذي تعرض له؟ مشهد دخول أخوته عليه "فعرفهم وهم له منكرون". ولعل الاحلام الخمسة (حلم النبي، وحلم صاحبيه في السجن، والحلمان اللذان راودا ملك مصر) أضافت كثيرا من التشويق للقصة بمجملها، خاصة أن الطبيعة البشرية ترى في الأحلام نافذة رحبة للخيال بعيدا عن الواقع الممل.
تاسعًا: الأحداث التي تدعونا للتأمل والتفكر وتتيح لنا مجالا رحبا للتفاعل مع السرد. فمثلا عندما كان النبي في السجن وحكا له صاحباه رؤياهما اشترط عليهما قبل تفسيره الإيمان بدينه وترك عبادة الأصنام. شاء من هذه الخطوة أن يطمئن صاحبه الثاني الذي سيؤول مصيره إلى الصلب بعد ثلاثة أيام بأنه سيرحل مؤمنا ويلقى ربه الكريم بصحيفة بيضاء. أما الحادثة الثانية فكانت عندما طلب الملك إخراجه من السجن، فقد اشترط عليه يوسف (ع) أن يسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن عن السبب في ذلك، رغبة منه إثبات براءته أولا كي لا يخرج بفضل من الملك وليتبوأ مكانة ومنزلة أرفع عنده عندما يستعيد حقه المهدور حتى لو كان معنويا.
وأخيرا، مركزية القصة التي كشفت النقاب عن بناء سردي محكم. فقد بدأت برؤيا "أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين" وانتهت بتجسيد تلك الرؤيا بعد أكثر من أربعين عاما عندما أتى أهل النبي من أرض كنعان ودخلوا على مجلسه وقاموا بذلك الفعل أمام الجميع.





https://www.facebook.com/photo.php?...gQP_BB7I5ZWN1VO-CzzKeoEeHxNGOipyvc1fPo8q_MZMP

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى