طلحة محمد - خمس عيون.. قصة قصيرة

لن يكون موعدها القادم كسابق مواعيدها التي نظّمتها دون اوان ، فكلّ ما سيحصل لها سيلقي بها من أعلى القمم السبعة وكأنها ريتشارد باس ، لم تكن لتستوفي أجَلَها أبدا لولا حماقتها ، فعلى نسيم هوى صباحي عليل مصحوب برائحة أشجار الزيتون و "خبز ملّة " يتصاعد دخانه هنا وهناك ينذر بخراب قبيلة كاملة قد نصّبت نفسها ملكة عليها مذ ألقى بها الزمن في براثين الحياة ، ترى نفسها "ماسينيسا" تتبرك " بيوغرطة " تلبس تاج سيفاكس أيضا ، كان هذا هوسها وكأنها في عالم " اليس في بلاد العجائب " .
لم تكترث لقرارات عقلها الذي ما يكاد يكبح جموحها في الذهاب لصديقها في الرصيف المقابل، وككل أيامها انتظرت خيوط الشمس تطلّ من نافذتها لتوقضها ، بدأت يومها بحمام دافيء واستحضرت جمالها وأناقتها أمام مرآتها السّحرية تمسحها بنَفَسِها وتداعبها بأناملها تستجدي فيها صورة "فلّة" بفرط جمالها وتدللها كصبية في مهدها، تتقاسم معها ثنايا وجهها ، تناغيها بما تحب وتقول في ريبها المتلازم: مرآتي يا مرآتي من هي أجمل الجميلات ؟
تتأخر خطوة الى الوراء وترقص رقصة الباليه تشكّل دراما راقصة ومعبّرة عن لهفتها وشغفها ثم تتوقف لبرهة ، ترتدي كعبها العالي لتطلّ على أمواج " نازاري " من نافذة الأمل والمستقبل .
وكمظليّة عسكرية محترفة أمسكت بعمق يديها بحبال مظلتها تاركة نفسها للهواء يأخذها أين يشاء، تتردد وتعيب على الزمن، تنزع كعبها العالي ، تبقى حافية وكأنها على مضمار رياضي تستعمل الزّانة لتقذف بها في الضّفة الأخرى هناك يوجد الحب والحياة .
يرسى بها التفكير تارة عند قدميها، تستيقظ من حلمها ترتدى جبّتها التقليدية وتمسح مساحيق التجميل وتلعنها دون أن تخاطب مرآتها .
حملت حقيبتها على جناح السّرعة وبخطوات سريعة وقفت على عتبة باب صديقها .
ظلت تدقّ جرس الباب تلقي بأُذُنها مستمعة لأنغامه، تتمايل بجسدها تحرّك رأسها يمينا وشمالا، تعزف مقطوعات افتراضية على أوتار قلبها وتتناسى طول انتظارها .
تتجاهل مراقبة المارّة لها وهي تمزّق أحبال صوتها دون اكتراث ، ودونما كلل تتقدم وتتأخر بخطى منتظمة ، فقدت الأمل لبرهة ومع دعاء صامت توسّطت به يديها نحرها انسدل السّتار من جهة واحدة فقط على الخشبة ببروتوكول مغاير لم تعهده في المسرحيات السابقة.
بدأ المشهد الأول بموسيقى ساخرة تقدم البطل بتحية روتينية لجمهوره وبدأ في فرد قامته بشكل ملحوظ رافعا رأسه بزاوية ثلاثين يوشك أن يسقط قبعته السوداء ، يتفقد جيوبه برتابة يخرج سيجارة يشعلها ويتلاعب بدخانها بعمق شفتيه، نظر إليها بكبريائه المعهود بادلته النظرات وأطلقت يديها من الدعاء وشرعت في التصفيق فهمّ بابتسامة الجوكر وبادر أخيرا بالترحيب .
تذوّقت جرعةً من الحيرة وتبعته إلى داخل المنزل بخطوات متثاقلة مع صمت رهيب صَاحَبه صوت حذائها ودقّات قلبها المتسارعة، أبطأت قليلا بسبب الظلام الدّامس الذي يحجب الرؤية، وضع صديقها يده على الحائط ومرّرها بحذر حتى لامست قفل المصباح ، ظغطه بلطف ثم دار حول نفسه و انحنى ، طَغَت إضاءة المكان على خشبة المسرح و انسدل السّتار باكتمال المشهد الأول.
جلست مع صديقها على طاولة كبيرة ، شرع في هزِّ حقيبته المملوءة بالكراريس والكتب التي لفظت الكثير منها رتّبوا ما يجب ترتيبه وبدءا في مراجعة دروس مقرّر البكالوريا ،فتحا كتاب الفيزياء يعتلي صفحته الاولى الكثير من النواسات يفتل بعضها بعضا وكأنها لوالب في مضمار كانا قد ألِفَاها في الرسوم المتحركة الصباحية .
بدءا في تبادل النظرات وكأنهما سيارتان متقابلتان على طريق سريع يحذّران من تصادم وشيك على الوقوع .
بقيا بأربعة عيون يتراشقان لغة مريبة .
تحرسهما أيضا عين خامسة في زاوية الغرفة .
بدأ المشهد الثاني في خروج مباغت عن النص تسجل أحداثه كاميرا خفية، استدار البطل إلى صديقته ثم نزع الكرّاس من يدها وتشابك معها بالأيدي.
شرع في إنفاق الكثير من المكبوتات عليها بكل تبذير كان قد حصّلها من بقايا مآسيه العابرة، مارس معها أقسى أنواع الاغتصاب بعنف شديد ، لم تنطق الضحية ببنت شفة وظلّت في بكاء مخنوق لا يُسمع أنينه .
هدّأ البطل من روعه وشُرُودِه وعاد إلى النّص ، إلا أنه تلعثم في الكلام وهمّ في ترتيب أفكاره رويدا رويدا ليعيد حماسة المشهد من جديد ، لم يسترجع شريط الأحداث كاملا حتى غادر الجميع .
فَرَدَ يديه للأرض ثم فرّقهما يمينا وشمالا ، نزع قبّعته أيضا، انحنى، دار بعينيه نحو صديقته ثم ّ استقام يبعثر انقسامات وجهه لينكر أنّه مذنب .

ايحاءات
ريتشارد باس : متسلق جبال بريطاني قام بتسلّق أعلى سبعة قمم في العالم
ماسينيسا ، يوغرطة، سيفاكس : ملوك نوميديا
اليس في بلاد العجائب : رواية للأطفال مكتوبة من قبل "تشارلز لوتويدج دودسون" تحت اسمه المستعار "لويس كارول "
فلّة : بطلة المسلسل الكرتوني فلّة والأقزام السبعة
نازاري : شاطئ أضخم أمواج في العالم بالبرتغال
خبز ملّة: خبز تقليدي يحضّر تحت الرمال الصحراوية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى