مصطفى نصر - تلك الرغبة

توقفتُ عن السير فجأة, لمحت امرأتين تنظران إلى وتتحدثان ضاحكتان . أحداهما شديدة الشبه بفواكه حتى ظننتها هي في أول الأمر, كانت طويلة وشعرها الطويل ينسدل خلف ظهرها قد تكون أحداهما تعرفنى وتحدث الأخرى عنى . قررت أن اقترب منهما أكثر لأراهما عن قرب, لكن شاحنة أطلقت نفيرها عاليا ومرت أمامى فحجبت عنى رؤيتهما .

المرأتان مازالتا في مكانهما أمام سنترال المنشية الذى جئت إليه لسداد فاتورة التليفون . سارتا نحوى , تقابلنا في منتصف الطريق . المرأة الطويلة ذات غمازتين في الخدين مثل فواكه تماما .

أيقنت أننى لم أقابلهما من قبل ولا أعرفهما . توقفت راغبا في العودة إلى الرصيف المقابل . قالت الأخرى – وكانت أقصر من الأولى بكثير :

- أننا تحت أمرك .

لم أجبها لأننى أبحث عن مظاهر الشبه بين الطويلة وفواكه : العينان اللوزيتان ووجهها الطويل . المشكلة الآن أننى أراها كثيرا في طريقى وأنا سائر . كلما رأيت امرأة جميلة وطويلة آتية من بعيد ؛ منيت نفسى في أن تكون هي . كانت تأتى إلى بيتنا كثيرا ؛ فأحس بشيء غريب , لحظات حلوة .

رغم أنها أكبر من زوجتى إلا أنها أكثر خفة ورشاقة . تقفز مسرعة لفتح باب الشقة إذا دق, خطوات قليلة جدا وتصل إليه . لم أشعرها بإحساسى هذا , وكيف أفعل ؟! إنه جنون . خفت من أشياء كثيرة . قوانين صارمة مفروضة علينا . أشياء لا أعرف كيف أسميها ؛ تربينا عليها وصارت جزء من حياتنا.

كنت حريصا في كل كلمة أقولها , وكل لمسة ألمسها . عندما تأتى لمصافحتى أبعد يدى عن يدها مسرعا – حتى لو كنت وحدى - أشعر بقشعريرة , أرتعب , أخاف من أن تلمح تلك الرغبة في عينى . لكنها قالت لى يوما أنها ترتاح في الحديث معى , تشكو لى أحيانا من تصرفات زوجها معها . أبتسم وأنا أحدثها . لكن عندما حدثنى صديق , من أن هناك رائحة خفية تشمها المرأة فتعرف إن كان ذلك الرجل يريدها أم لا ؛ وقتها زاغت عيناى . لم يكن صديقى يحدثنى وحدى في هذا الموضوع , لكنني أحسست أنه يعنينى بذلك ؛ رغم أنه لا يعرف حكايتى مع فواكه , فأنا لم أحك له عن هذا قط . تذكرت – وقتها – وجهها وجسدها وابتساماتها . هل شمت رائحة تلك الرغبة التى يتحدث صديقى عنها ؟!

قالت المرأة القصيرة ثانية :

- عندك مكان ؟

تقف الطويلة – شبيهة فواكه – كالملكة – تعض شفتيها خجلا, أو تتظاهر بالخجل . ماذا أقول لها فأنا لم أفعل هذا من قبل , ولا حتى قبل أن أتزوج . لكن دافعى إليهما هو أن أقترب من الطويلة أكثر. فقد أجد شبها بينها وبين فواكه .

سارتا خلفى , البيت بعيد عن المنشية . سرت بجوار الطويلة , حدثتها . الأخرى أحست بميلى إلى زميلتها ؛ فدعتنى أحدثها ولم تشترك في الحديث إلا بكلمات قليلة مقتضبة . قلت وأنا أشد المرأة الطويلة من يدها :

- احذرى السيارات يا فواكه .

ضحكت قائلة :

- فواكه ؟ إسمى لواحظ .

شقتى عالية وليس في البيت أسا نسير. كانتا تلهثان وهما تصعدان السلم . قالت القصيرة :

- كيف تصعد كل هذه الدرجات كل يوم ؟

- تعودت .

لم أكن مرتاحا للحديث فوق الدرجات , لأننى لا أجيد الحديث وأنا ألهث, ولأننى لا أريد أن يحس الجيران بأن معى نساء .

أدرت المفتاح في " الكالون" مرتعشا , فقد أفتح الباب فتواجهنى زوجتى ؛ فهى تعود – أحيانا – من العمل قبل موعدها , أو أن أجد إحدى إبنتى ّ وقد خرجت من مدرستها قبل موعد انصرافها

نظرتا إلى الشقة بانبهار. قالت القصيرة للواحظ ؛ بينما كنت أعد الشراب لهما :

- إنه غنى , ذلك يبدو من أثاث بيته الثمين .

قالت هذا وجلست , فهى تعلم أننى ميال إلى زميلتها . قالت وأنا أحمل أكواب الشراب :

- أدخلا حجرة النوم وأسرعا .

أريد أن انتهى من هذه المشكلة , فلو ضبطتني زوجتى أو ابنتاى ؛ ستكون فضيحة على مستوى العائلة والجيران أيضا , وقد يصل الأمر إلى الطلاق .

وقفت لواحظ بقميص نوم قديم وممزق من الجانبين , رمت شعرها الطويل خلف ظهرها العارى وتابعتنى في دهشة , فقد شردت وذهبت بعيدا عنها . أهدت فواكه إلى زوجتى قميص نوم أزرق ؛ كان يبدو طويلا على زوجتى . وظللت أطلب منها أن ترتديه كلما أردتها . بعد أن اختلفتا معا اختفى هذا القميص. بحثت عنه كثيرا في دولاب الملابس- في غياب زوجتى – فلم أجده . أحسست بأننى كنت أتعامل مع ذلك القميص, لا مع جسد زوجتى .

هل شمت زوجتى رائحة الرغبة التى أبديها لفواكه . ربما . فلا أعرف للآن سبب خلافاتهما معا. ليس هناك سبب مقنع . كانت زوجتى تثور عليها وهى تتحملها . لكن بعد ذلك ثارت وأقسمت ألا تأتى إلى بيتنا ثانية . طلبت من زوجتى أن تمنعها من ذلك , لكنها كانت مرتاحة لذلك الحل .

رمت لواحظ شعرها ثانية إلى الأمام بحركة أغراء واضحة ودعتنى إليها . لكنني تذكرت زوج فواكه وولعه بها . يحكون أنه لم يكن يتركها حتى أيام الدورة الشهرية ؛ مما جعلنى أظن أن ذلك سبب له المرض اللعين الذى أماته .

قالت المرأة القصيرة من مكانها في الخارج :

- تريدنى بعد أن تنتهى من لواحظ ؟

لم أجبها . تفرست في وجه لواحظ , لاحظت أنها مختلفة عن فواكه التى بها سحر خفى يسرى في جسدها كله . لم أجده في أية امرأة غيرها .

فكرت كثيرا في أن أزورها في بيتها مثلما كنت أفعل قبل اختلافها مع زوجتى , لكن ذلك سيؤدى إلى عواقب وخيمة ؛ فزوجتى ستعلم لاشك , كما أننى لا أعرف ماذا سأفعل لو اختليت بها . إنها الآن في وضع يسمح لها بالزواج ثانية . أتكون زوجتى خافت من أن أتزوجها بعد أن أصبحت خالية ؟

زفرت لواحظ في ضيق :

- لم أعجبك ؟

لم أجبها فقد حاولت أن أجمع كل قوتى ثانية . تذكرت زوج فواكه الذى قتله شدة تعلقه بها . العائلة كلها تتحدث عن ذلك . يقولون إنها قتلته بحبها وجمالها . يحكون أنه كان يصلى فمرت من أمامه بقميص النوم , فترك صلاته وأسرع خلفها يلاحقها . هكذا حكت فواكه عن ذلك في مباهاة لأخواتها فأنتشر الخبر وأصبح دليلا على مدى جنونه بحبها .

قالت لواحظ في ثقة :

- لا تهتم .

وساعدتنى فانتهيت بعد لحظات قصار جدا لا تستحق تعبى وركوب التاكسى من المنشية إلى بيتى .

كانت لواحظ سعيدة لأنها نجحت ولأننى انتهيت مسرعا . جاءت الأخرى , تقابلتا على الباب – وقت أن كانت لواحظ تخرج من الحجرة – اصطدمتا معا فابتسمت لواحظ في سخرية معلنة بأننى لن أفلح معها ولا مع غيرها , على الأقل في الوقت الحالى , فقالت القصيرة وهى ترفع فستانها محاولة خلعه :

- سأنتظرك بعض الوقت .

صحت فيها :

- لا , أرجوك .

كنت أريد أن أتخلص منهما , أن أبعدهما عن الشقة بأية طريقة , أريد أن أرميهما من النافذة لكى لا تنزلا على درجات السلم فتقابلهما زوجتى أو أبنتاى .

قالت المرأة القصيرة :

- ليس لى ذنب. فمادمت جئت إلى بيتك من حقى الأجرة كاملة مثل لواحظ تماما .

دفعت إليهما مبلغا حددته – أنا – ولم أزد عليه مليما , ولم التفت لإلحاحهما الطويل بأن أزيد .

تابعتهما من النافذة وهما تخرجان من باب البيت , تحدثتا وهما تشيران إلى شقتى , ثم اختفتا في الطريق المزدحم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى