عبد المنعم رمضان - الأيام الثمانية الأخيرة لملاكة»

1
في ذلك الليل الذي أتى بغير إذنْ
في ذلك الليل الذي كأنه جدارْ
رأيت قلبي نائما في جوف تيهْ
في جوفِ خوفٍ ليس بعده الذي يليهْ
في جوف سجنْ
وكل أعضائي التي منذ قليلٍ لم تكن تئنْ
رأيتها تئنْ
في ذلك الليل الذي أتى بغير إذنْ
رأيتُ حارسَ النهار يطمئنْ
وحارسَ الظلامِ قد يبكي ليطمئنْ
لأنني أصبحتُ ذات مرةٍ
أصبحتُ بعضَ الظنْ
وربما أصبحتُ كلَّ الظنْ
كأنني إذا سعيتُ نحو غابةِ الأرواحِ لن أراكِ رؤيا العينْ
كأنني إذا جننتُ لن أجنْ
وذات مرة أصبحتُ حائطًا من الغبارْ
وقبل أن تطالَني الرياحُ
قبل أن يطالَني الندى
أشعلتُ في الحائطِ تلك النارْ
لأنني أخشى إذا غافلني الحنينُ
أن أحنْ
لأنني أخشى إذا غافلني البكاءْ
أن أنقذَ الموتى من الموتى
وأُغرق الأحياءَ في الأحياءْ
٢
لو جاءتْ العاصفةُ
لو جاء صوتُ الريحْ
لو قارب النجاةِ كان قربَ البابْ
لو ساحةُ الأغرابِ أقفرتْ
لو ساحةُ الأحبابْ
لو أنّ شرفةً تمتلك النورَ الذي نريدْ
لو أنّها العاصمةُ التي ليس لها بلادْ
لو أن تيجانًا على الرؤوسْ
لو القلوبُ كلُّها مفعمةٌ بالحب
لو كلها مفعمة بغبشة المساءْ
لو أن ذلك السقف المغطى بالكرومْ
لو أنّه اختفى
سآخذ الإفطارَ بعد برهةٍ وآخذُ العشاءْ
وأنزوي في آخرِ الفناءْ
لعلّني أرى ظلالَها تخالطُ الغيومَ والنجومَ
لعلّني أرى نهايةَ الحدودْ
لعلّني بقدرةِ الحلمِ على استعادةِ الوجودْ
أنامُ في حديقةِ الغيابْ
٣
اليومُ الثامنُ كان اليومَ الثامنْ
انسلّتْ فيه لغاتُ الجسمِ
انسلّتْ فيه النظرةُ والإغفاءةُ والتلويحْ
انسلّتْ فيه سراديبُ الأشواقْ
انسلّتْ فيه الروحْ
اليومُ الثامنُ كان اليومَ الثامنَ جدًا
صار الليلُ طويلًا مثل الليلِ النائمِ في الطرقاتْ
وصارت لغةُ الليلِ لغاتٍ عاليةَ النبراتْ
وصار بكائي لا يُشبهُهُ
غيرُ الماءِ النازلِ من قدمِ الكلماتْ
وصار غنائي لا يُشبهُهُ
غيرُ النورِ الخامْ
اليومُ الثامنُ كان اليومَ الثامنَ جدًا جدًا
بتنا محمولينَ على أحوالٍ لا نعرفُها
بتنا محمولينَ إلى أضرحةٍ
لا تنتظرُ صباحَ العيدْ
بتنا مثل رجالٍ جوفٍ
مثل دموعٍ مستعملةٍ
مثل الوقتِ الآخرِ
مثل عبيدْ
بتنا كالكابوسِ
نحاولُ دون غيابٍ صِرفٍ أنْ نقتحمَ البابَ الآخرَ للسردابْ
نحاولُ دونَ غيابٍ صِرفٍ
ألاّ نصبحَ غيرَ اثنينِ
لنهتفَ باسمِ الإبنِ
وباسمِ الآبْ
اليومُ الثامنُ كان اليومَ الثامنَ جدًا جدًا جدًا
انصرف ظلامُ اللهِ بعيدًا
لم تَتْبعْهُ سوى أسرابِ ظلامٍ كنّا لا نعرفُها
ونسمّيها الغيبةَ
كنّا نخشى أنْ ندعوَها الموتْ
في ذاك اليوم تركنا كلَّ هُويتنا تنسلُّ
وصرنا شعبَ الموتْ
٤
لأنها في آخرِ المطافْ
تمدّدتْ
من غير أن تكونَ تحتها سحابةٌ بيضاءْ
من غير أن يكونَ فوقها مرجٌ من السماءْ
لأنها في آخرِ المطافْ
رأتْ أمام قبرِها
شخصين ليس يحسنانِ غيرَ الصمتِ
والدموعِ
والطوافْ
شخصين يدعوانِ نافخَ البوقِ إلى اللقاءْ
ويطردان حارسَ الموتى وصانعَ الفناءْ
ويحسبانِ أنّه يمكنُ أن يخافْ
٥
الموتُ فجأةً يكون شارعًا وغيمةً وبيتْ
الموتُ فجأة يكون موتْ
الموتُ بعد فجأةٍ يكون ساحةَ انتظارْ
الموتُ أجراسٌ بغير صوتْ
الموتُ ليس حفنة واحدةً من الغبارْ
الموتُ آخر الليل متاهةٌ سوداءْ
الموتُ أول النهارِ
مثلُه في آخر النهارْ
الموت ذلةٌ وغربةٌ وبعض كبرياءْ
الموتُ موتْ
٦
لأن غيمتي هناك تحت الشمسِ قربَ ساحةِ الفَناءْ
أشاءُ ما تشاؤه التي تشاءْ
أمشي على الرصيفِ مثلَ عاشقٍ
بغير خرقةٍ وغير ثوبْ
أمشي بلا صمتٍ بلا صوتٍ بغيرِ جارةٍ وغيرِ جارْ
أمشي بغير قلبْ
وعندما أصيرُ في الشرفةِ
عندما أصيرُ في الفِناءْ
وعندما عينايَ ليس تأبيانِ أن أرى حدائقَ الصبّارْ
أبحثُ عن بقايا حيرةٍ وظلِ مومياءْ
وبعدها ألوذُ بالأسرارْ
لكنني لما وقفتُ شاردًا على حدودِ الموتْ
رأيتُ أمي تغسلُ الهواءَ دون صوتْ
وتكتفي بأنْ تشيرَ لي:
اجلسْ هنا على أرجوحةِ الهواءْ
اجلسْ كأنكَ المطرْ
لكنني انطويتْ
وبعدها رأيتُ زوجتي تسيلُ مثلَ النورِ مثلَ النارْ
كأنها تزفُّ روحها إلى الحجْر
وقبلَ أنْ أهيمْ
رأيتُ ظلِّي في مكانِهِ القديمْ
كأنه هنا... هنا يقيمْ
٧
لأنها ماتتْ
لأنها تمددت على السريرْ
لأنها تكاد تصبح الحلم الذي بلا رداءْ
تكاد تصبح الوقتَ المعذّبَ الضريرْ
تكاد عند ملتقى الشبيهين تفارقُ السريرْ
لأنها ماتتْ
رأيت شمسها على حوافّ جبهتي
رأيت شمسها قرب انتهاء السورْ
رأيتها تحيطني
رأيتها تدسّ في حنجرتي
أغنيةً بيضاءْ
تدسُّ فوق سُرّتي
أوائلَ الأسماءْ
أو أواخرَ الأسماءْ
كأننا زوجٌ من الطيورْ
كأننا جماعةُ الطيورْ
كأننا الطيورْ
٨
هي الآنَ تجلسُ مثل الملاكِ على حافتينْ
وتجلسُ مثل الملاكةِ في آخرِ الزاويهْ
هي الآنَ ذاهبةٌ للطبيبِ
هي الآنَ تمسكُ تلكَ الجريدةَ
ترفعُها
وتصوّبُ
تقتلُ تلك الذبابةَ
تنفخها هكذا هكذا
ثم تزهو بما أنجزتْ
هي الآنَ تصبحُ هادئةً فجأةً
هي الآنَ تفرحُ بالقادرين على الموتِ دون ألمْ
هي الآنَ لا تكتفي بالضحكْ
هي الآنَ تنهض منذ الصباحِ المبكرِ
تغسل آنيةً الطهو
أو تغتسلْ
هي الآن سوف تطاردُ تلك الحشودَ من النملِ
سوف تطاردُها دائمًا
هي الآن تعرفُ سرَ تعاساتِنا وانكساراتِنا
هي الآن تعرف ما كنتُ سوف أقولُ لها
هي الآن تسمعُ أصواتَنا حين نركلُ هذا الهواءْ
وحين نسبُّ السياسةَ والأنظمهْ
هي الآن تحفظُ كلَ فساتينها
هي الآن تُخفي الثيابَ القديمةَ
تُخفي مفاتنها في الثيابِ القديمهْ
هي الآن تُخفي الأسى
هي الآن تعرفُ ما هو أكثر رعبًا من الموتِ
تعرفُ ما هو أكثر رعبًا من الآخرهْ
هي الآن تعرفُ كيف تعودُ من الرحلاتِ
وتعرفُ كيف تلوّح لي
هي الآن تبكي كأنّ القطارَ سيمضي بعيدًا
هي الآن تبكي كثيرًا كأنّ القطارَ سيمضي بعيدًا بعيدًا
هي الآن تقرأ هذه القصيدهْ


عبد المنعم رمضان
قصيدة عبد المنعم رمضان في رثاء زوجته (عليها الرحمة) (أخبار الأدب)


https://www.facebook.com/photo.php?...FqeRufaaYFgGO3HUp_xf449WXZvXPNl1KcXjcOwDCFByO
أعلى