صلاح عساف - أين ذهبت الغرانيق ؟

(1)

ها هى ذى أسراب الغرانيق ، تتصاخب فى الأعالى .



(2)

فى البدء ، سوف تخاله الحلم ، وأنت ترى الظلمة وقد أطبقت على الأشياء من حولك . لكنى أقول – ذلك ما يبدو لك فى أول الأمر ، وأريدك أن تنتهى منه فى الحال ، حتى تجد نفسك وقد استسلمت إلى ضجة الأصوات ، إلى حد تريد لو أنك أطبقت براحتيك على أذنيك ، أو تروح فى الغيبوبة . حيث تشعر وكأنك اضطررت للهبوط عبر جزيرة تعج بأجسادها ، وبات عليك ، وسط الذعر الذى سببه لها مرآك هابطاً ، أن تتخذ لقدميك موطئاً .

ذاك ما أخبرنا به دليل رحلتنا ، حينما كانت تلفنا برودة الليلات . نتطلع من خلال مزقة فى سماء الخيمة ، ناحية القمر الذى فاجأنا بالطلوع هلالاً :

- " تأتى الغرانيق أسراباً ، فى الأنصاف الأخيرة من الليلات التى يكون قمرها فى منزل المحاق ، سالكة ذلك الشريط الساحلى الطويل – عبر القناة – سبيلاً إلى موطنها البديل فى الجنوب " .

إننى أقول لك – وبوسعى أن أصير متيقناً من قولى : أنت لا تراها ، هذى حقيقة ، بينما لو استسلمت ستغمرك الأصوات . إنك سرعان ما ستعتاد على الأمر – أؤكد لك . ولو رحت تطلق المدى لخيالك لرأيت : الغرانيق وقد انتظمت رفّين طويلين ، على هيئة "الثمانية" ، خلف جناحى الغرنوق الأول : نقطة الالتقاء ، مثل هيكل طائرة ورقية مهولة . ولسوف تمر عليك اللحظات ، أنت الذى ما عشت لحظات انتظارها الحقيقى ، طرباً من اختلاط تصايحها ، قبل أن تتساءل : أى تلك الجماعتين يبدأ بالصياح ؟ وأيهما يجاوب ؟ الطيور القوية المنتظمة ، وقد راحت تستقبل الفضاء الوسيع ، أم تُرى صغارها التى تخلّفت فى الوراء ، وهى التى لم تؤت بعد عافية الجناح ؟.

أنصت لى : ها أنا الآن أدرك ، أقول لك ـ ما كان لدليل رحلتنا من نفاذ رؤية ، تلك التى لا تكون إلا لمن أخلص العشق "الجميل" للطير .







(3)

أنظر . هاهما الخيمتان فى ضوء النهار ، خاليتين تضربهما الريح . تلك التى ما لبثت أن أطاحت باستقامة الأعمدة المعدنية الصلبة ، ومزقت القماش الكثيف . التى فى المواجهة : هى خيمة الدليل وخيمتى أيضاً . أما التى تراها فى الجوار ، وكأن الريح فى هبتّها التالية ، ستطّوح بها إلى سطح القناة ، فهى للآخرين .

يقيناً أقول ـ ما كان لك أن تسأل ، وأنت ترى الدليل إذن ، فى تلك الليلة ، عبر ذلك الصمت المجلل بالترقب ، قد أُسلم إلى نشيج دون صوت :

(أ‌) كيف بدا القمر ذاك ، من خلف الغمامة الشاحبة ، قوساً مفاجئاً دقيقاً ؟.

(ب‌)متى بدأت هذه السفينة العابرة ، تلوح متخايلة ، وهى تشق قلب الماء ، وغلالة الندى الأبيض ؟.

ذلك أن الآخرين راحوا يتطلعون وقد عزموا على الرحيل .وفيما تلا، حين صار القمر بدراً ، واستضاءت الظلمة ، وبدت الأشياء ساطعة وقريبة ، أكثر قرباً واتضاحاً مما لو كانته فى أى وقت ؛ سقط الدليل مريضاً ، وما كنت تراه إلا طريحاً فى الفراش .

لكنك ، كنت ترى هؤلاء هنالك ، لليلات طوال ، بمحاذاة ذلك الشاطىء القريب ، متجاورين أو فرادى ، قبالة قوافل السفن العابرة التى تدفقّت دون انقطاع : يصخبون بالصفير والتهلل وتحريك الأطراف ، مثل أطفال الحارات والأزقّة .

فى الليل ، كنت قد طرحت الأغطية الثقيلة ، وتقدمت إلى البعيد كى أبول . رويداً ، ما استبانت الكتلة الصغيرة المعتمة التى راحت ترتعش فى الغبش . كان مكوّماَ لمّا جعلت أراه وأقترب ، يحدّق فى موجات السطح المتهادية ، وهى تلتطم فى خفوت بأحجار الشاطىء القريبة ، ويغالب الارتجافة .

لما عدت بالدليل إلى الخيمة ، وأنزلت الكنار ، وأحكمت وثاق الرباط ، قال : " نادتنى الغرانيق فى الماء ! " .


(4)

قال : نحن انتظرناها طويلاً ، من دورة قمر إلى دورة قمر .

لكنها لا تخلف لنا المواسم ، دعهم يرحلون ، ماذا يأخذون من سفن عابرة ؟ إنهم هكذا ، ومنذ جاءوا إلى هنا ، يروننا أكثر استمساكاً بالحلم ، أكثر استسلاماً . ستأتى الغرانيق ، أسراباً تقود أسراباً ، ستملأ الأرض والسماء بالأصوات ، سيكون علينا أن نصيدها وحدنا ، وحدنا ، ستنطلق الأعيرة ، إلى قلب السماء ، عياراً وراء عيار ، ستضطرب الأجنحة وتتوقف ، ستعم الفوضى فى الأسراب ، ستتهاوى الطيور الكبيرة وترتطم ، ستتكوّم هناك أو تتفرق ، هناك ، هناك ، على التباب البعيدة والرمال النائمة ، سيكون عليك أن تتراكض إليها ، خفيفاً ، خفيفاً ، وقد اشتعل قلبك بإيقاع التهاوى ، ستخال أنك تسمع خفق الجناح وقد توقّف ليهوى من هناك ، هناك فى الأعالى . قال ، هل تعرف ؟ بات مقدّراً ألا أغمض عينىّ ، اننى أكاد أسمع رفيف الجناح فى الوسادة . قال ، نعم ، رفيف الجناح فى الوسادة . وضحك كثيراً .


(5)

هنا ، فى العتمة العميمة ، تلك التى يُسلمك إليها انقطاع قافلة البواخر . لا بارقة ضوء تراها ، سوى ما يلتمع به طرف القناة البعيد ، عبر أشباح التباب الرمادية الشاحبة . إننى أظنها النجمات المرتعشة ، وقد تخايل ضوؤها فى الماء ، لا قطيع الغمامات البيضاء المتكاثرة تلك ، مثلما يتراءى لك .

كنت تراهم ، وقد فرغوا الآن من المجاهرة والتلويح ، يرمقون آخر السفن المغادرة ، يتقدمون على قطع الأحجار الصغيرة المدببة، بقليل من التسليم إلى خيمتهم هناك . فى الأول ، أقبل واحدهم إلى خيمتنا ، ليرى الدليل . لكنهم مضوا يتقاطرون كل ليلة ، فى مواجهة دليل رحلتنا المريض . كانوا يثرثرون وحدهم طيلة الوقت ، وكانوا لا يجابهون سوى بالصمت والتحديق ، من فوق أغطية الفراش الثقيلة . غير أنك ما تكاد تشعر بجلبة الأصوات وقد تلاشت، وتراهم يتراجعون ، حتى تروح تستسلم إلى ضحك الدليل ، وقد تواصل حتى الصباح .

لقد تيقظت أنا فى ذلك صباح البعيد ، على غنائه الضاحك فى الخيمة . كان قد شق قماش الوسادة ، وراح ينثر حشوها فى الهواء ، مخاطباً ندف القطن المتصلبة : طيوراً تسمى الغرانيق . وحين حلّ المساء ، كان قد تسلل . ركض قابضاً على بندقيته الوحيدة ، فى اتجاه التبة الرملية العالية . من هناك ، كنت تسمع دوىّ الأعيرة المتسارع ، وهى تنطلق شارخة صمت الفراغ .


(6)

ماذا يمكن أن أقول ؟

وأنا ما أزال راغباً لو أنى ما أتيت إلى ذكر تلك الليلة .

ذلك لأننى الآن ، أشعر بلزوجة الطحالب المالحة ، قريباً من أنفى. وأرى بهر الضوء وقد ضاقت له الحدقات حتى يظل بمقدورك دائماً ، أن تتوقع الصباح ، كى يمكنك التخلص من ضجيج أصواتهم، فى هدأة الرمال الساكنة تلك ، وأنت ترى حبّاتها الدقيقة تتنفس فى الشمس .

وسط الليل ، فتحت عينىّ . الضوء الذى أحال المكان إلى قطعة من منتصف الظهيرة : أول ما رأيت . فى مقابل الخيمتين ، كانت سفينة قد ألقت حبالها فى الماء ، وراح كشافها الكبير يوجه الضوء القوى إلى رؤوس الرجال . بدوا على الفور كما لو أنهم غرقى ، تختفى رؤوسهم فى الماء ، ثم تعاود الظهور . على أنهم راحوا يتنادون بأصوات جهيرة ، مثلما اعتادوا ذلك فى أواخر الأيام ، وهم يجهدون من خلال غوصهم والسباحة فى تعويم جسم صغير إلى الشاطىء القريب .

مددوا القامة القصيرة على أحجار الشاطىء الحادة ، تلك التى بدت شديدة الصفاء فى النور ، وجعلوا يلطمونه براحات الأكّف إلى حد البكاء . على رعدة ، خلتها مفارقة الروح ، مضت تنفض الجسم الصغير كله ؛ أدرك الغريق الفواق . لكنهم سريعاً ما تقدموا يحملونه بالأذرع المرفوعة إلى خيمتنا .

راحوا يعّرونه من ثيابه الثقيلة المبتلّة ، ورفعوا الجسم المنتفض الصغير إلى الفراش ، وشدوا عليه أغطيته الكثيرة . ثم هاهم أخذوا يتناوبون ، أخيراً ، على الحبل الطويل المُلقى : يوثّقون السرير الحديدى والدليل ، بعقدة غليظة لا تُحل .

إننى لمّا صحوت ، خطوت فى الصباح إلى خيمة الآخرين . فى طريقى ، عدت مرة أخرى كى أستوثق من رؤية الأشياء : الخيمة المفتوحة ، السرير الخالى ، الأغطية المبعثرة ، الحبل المكّوم .


(7)

فى الليلة التى تلت الاختفاء ، أول الليل ، كنت قد نزلت الماء ، وجعلت أنادى الدليل …

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى