صلاح عساف - أغنية حزينة عن بندقية

(1)

( لعبة العلبة )

طريق العودة الليلى إلى البيت ، وتّرقب طلوعه علىّ فى أى وقت ومن أى مكان . وعلبة السجائر الفارغة ، إلا من سيجارة وحيدة أبقيها له دوماً . (عادة ما تكون معى علبة أخرى فى جيب سترتى). إنها لعبة العلبة التى نلعبها سوياً ، شبه كل ليلة . بعد أن أراه قادماً نحوى من البعيد ، بمعطفه الثقيل الذى حال لونه ، وشعر رأسه الحليق أبداً .

فى طريق عودتى هذه المرة ، كان الخدر قد بدأ يسرى بطيئاً ، مثل زوال الألم ، إلى أطرافى . غير أن جفنىّ أحسستهما ثقيلين . خطواتى متزنة إلى حد ما ( كنت أراقب نفسى ) . معى بطاقتى ، وبضعة جنيهات ، وعلبة سجائر أخرى .

كان ضوء مصابيح الأعمدة العالية ، يوشك أن يحجبه الطلّ الساقط ، والذى بدا واضحاً وهو يغطى أسطح السيارات الواقفة . وكانت بلّورات النور تكبر فى عينىّ الدامعتين قليلاً ، بفعل هبوب نسمات الهواء الحادة . تكبر حتى تتداخل فيما بينها ، ثم تنسال موشكة على التلاشى .

حتى الآن ، وفى كل الليلات التى كان يترّبص لى فيها ، لم أسمع له صوتاً قط . ما أن يصير منى على مقربة ، تسمح لكلينا أن يتسمّع صوت اصطكاكها على الإسفلت ، حتى أرميها له . ولسوف أراه ينحنى ، مثلما يفعل كل مرة ، ليفتحها متلهفاً ، وآملاً أن يجد داخلها أكثر من واحدة .

بدأت حكايته معى ذات ليلة كنت أشعر فيها أننى أحسن حالاً . لم تكن دقّات الطبول البعيدة قد اتضحت بعد ، وعرفت أنها دقّات طبول. ولم أكن منتشياً للدرجة التى تمكننى من القول بأننى لا أخاف . ومع ذلك ، أوجست منه رعباً عندما حازانى فى أول الأمر ، مبقياً على مسافة ما بيننا ، ومشيراً بإصبعين متلاصقين إلى شاربه المهوّش . ليلتها ، كانت علبة سجائرى عامرة . سحبت سريعاً عدة سيجارات ، والتقطت علبة الثقاب من جيب بنطالى ، وتركت كل ذلك فى راحتىّ كفيه الممدودتين نحوى بتوسل .

حين نظر إلىّ ، راح شىء ما يقشعر مؤلماً داخل أعماقى ، وأنا أحث خطاى المتعثرة مبتعداً بسرعة .

حين سدّدت نظرتك الشاكرة إلىّ ، هالنى هذا الأسى المعشش فى العيون . فيما راح رجع ضربات الطبول المكتومة ، الآتى من مكان بعيد فى رأسى ، يتعالى فيما يشبه الدمدمة . هاهى الذاكرة الخائنة تنفتح ، ويُبعث وجهك الغائب حيّاً من جديد ، مجللاً بحزن عينيك الأبدى .

مّوفق . لماذا يضىء وجهك الذى انطفأ ذاكرتى ، كأيقونة جليلة مطوية على سرّها ؟ .

حرب الخليج الثانية ( كم يلزمنا من الوقت كى يمكننا أن ننسى تلك الأيام ؟ ) . كانت جذوة إلهامنا متوقدة ما تزال . وكنا نتقابل يومياً على مقهاك الأثير ، والقريب من بيتك القديم ، قبل دقائق من نشرة أخبار التاسعة ، لنشاهد معاً تقرير مسرح العمليات اليومى .

كنت تقترب من وجوهنا ، وبصوت خفيض ترمينا بالأسئلة المسنونة التى لا إجابات لها :

- " لماذا تشبه آلة الحرب أعضاؤنا الحميمة ؟ .. أنظروا إلى المدفع . أنظروا إلى ماسورته وهى ترتد لكى تقذف .لماذا يشبه المدفع عضو الذكورة ؟ " .

كنت لا تلقى منا إجابات تشفى غُلّة أسئلتك الموجعة . عندها تعود بظهرك إلى كرسيك ، ضاحكاً ضحكتك المغتصبة الشبيهة بالشهقة ، وتوغل فى السؤال :

- " هل يقول لى أحد ، لماذا يسمّون المسدّس مسدّساً ؟ لماذا لم يكن مربّع أو مخمّس ؟ هل يقول لى أحد ؟ " .





(2)

( الأسئلة والأسلحة )

من المؤكد أننى أفرطت الليلة فى الشراب . ويقيناً أننى أقطع الطريق ملتاثاً ، وأنا أخوض فى وحل أحلامى .

هى خطوات قليلات مشيتها . وعند واحدة من انحناءات الطريق ، حدثت معجزة صغيرة . معجزة كان يستعصى علىّ تصديقها هكذا ، والإيمان بها فى الحال . ربما تحدث لآخرين غيرى ، ويروونها لآخرين غيرى ، يصدّقونها فى تسليم لا يخلو من دهشة لا وزن لها .

مّوفق . طالعاً من غلالة الضباب المخيّم من حوله ، وواقفاً قبالتى يذكرنى بأن غيابى كان طويلاً ، ومعانقاً إياى بقوة آلمت أضلاعى ، مثل شخص عائد لتّوه من سفر بعيد .

كان الأمر ملحّاً بالنسبة لى ، أن أقول له أولاً ، أننى تذكرته فقط منذ دقيقة مضت . لكننى قلت شيئاً آخر :

- " لا تتعب قلبك يا صديقى . لن تعثر على أجوبة لأسئلتك " .

- " أنت سكران . وهذا كلام السكارى " .

- " لو كنت سكراناً لصدقت أننى قابلتك بمجرد أن خطرت على بالى".

مّوفق . بنحول جسمه العضلىّ فى معطفه الثقيل ، وحقيبته الجلدية المعلّقة على كتفه ، والتى رآها المخبر لغزاً يوماً ما ، فاسُتدعى إلى أمن الدولة على الأثر . ( كان قد استبدلها بعد تلك الواقعة بواحدة صغيرة ، ظلّ يُرى ممسكاً بها فى يده بعد ذلك ) .

- " الآن . ماذا تفعل ؟ . أقصد هذه الأيام ؟ " .

- " لا شىء . أعيش فى بيت أمى . أين سجائرك ؟".

( ماتت أمه بعد أن طلقّها أخيراً فى هدوء . تاركاً الشقة والبنتين معها ) .

فتحت علبة السجائر ، وناولته السيجارة الوحيدة التى ادخرتها له :

- " أسئلتك يا موفق .. لو كنت منك لأسلمت قلوعى للريح ، ولألقيت بكل أدويتك إلى أقرب صندوق قمامة " .

ضاحكاً ضحكته الشهيرة المختصرة التى تشبه شهقة الغريق ، قال :

- " هل تعرف أننى اشتريت بندقية ؟ " .

- " بندقية ؟ .. هل أقول لك من الذى ستقتله ؟ " .

- " لا يا أخى . أنت تعرف أننى أبحث . لماذا نسمّى هذه القطعة من السلاح بندقية ؟ . ما علاقتها بالبندق ؟ . العرب يسمّون (فينيسيا) بالبندقية . ما العلاقة ؟ . كتبت عدة صفحات وتوقفت ".

- " إذن . أصبح عندك بندقية ؟ " .

- " نعم . أصبح عندى الآن بندقية " .


* * *


كان الفجر قد أذّن منذ قليل . وفى الدقائق الأخيرة التى سبقت وصولى إلى البيت ، كان بمقدورى أن أشهد الوقت الذى لا تستطيع أن تفرّق بين انحسار الليل وقدوم الصباح ، وتراجع النهار فى المغرب ، وهبوط الليل .

فى ليلتى المثقلة تلك . نمت عميقاً وطويلاً . نمت بملابسى و حذائى وحزنى . طوانى النوم على وسائد من موج رجراج . ورأيت الماء ينساب هابطاً فى بطء من الأعلى . ينساب رقراقاً وهابطاً دون صوت ، ودون أن يوقفه شىء .

أفقت بهلع على حقيقة العتمة فى حجرتى . عتمة خفيفة كابية . أتُراها عتمة ما قبل الليل ؟ أم العتمة التى تسبق مطلع النهار ؟ .

سألت نفسى وقمت . أضأت نور الحجرة ، وعدت أدفن وجهى فى الوسادة . متيقّناً من كونى الآن فى أوائل ليل اليوم التالى . كم ساعة نمت؟.

حين تصاعدت عالية ضربات قلبى ، وتأكد لى عدم قدرتى على الإمساك بالأشياء ، خرجت إلى الشارع . فى طريقى إلى بيت أمه ، كانت خطواتى على الإسفلت إيقاعات مرتبكة من مشىّ وطبول وركض .

أخرجت المفتاح من جيبى ، ودخلت . طالعتنى فوضى الأشياء المهملة وهى تنهى حياتها على مهل فى الأركان ، ورائحة العطن المختزنة فى هواء الشقة الفاسد .

فى حجرته ، كان مّوفق مُلقى بجانب من وجهه على أرضيتها ، ومرتمياً على بطنه فوق بندقيته . بدت مؤخرة البندقية المتعامدة على جسده ، وكأن ماسورتها مرشوقة فى جانبه . ومن حوله ، تناثرت بضعة أوراق وكتب .

أمسكته من كتفه وجذبته نحوى . غير أن رأسه الثقيلة ، ظلت ساقطة إلى جانبه . قلبّته على جانبه الآخر ، وعلى ظهره . قلّبته ورحت أفتّشه وأتحسسه فى كل موضع . رحت أتسمّعه وأشتمّ ملابسه …

كنت أبحث عن قطرة دم . قطرة دم واحدة .

فيما راح رجع ضربات الطبول البعيدة ، يتعالى فيما يشبه الدمدمة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى