د. بوزيد الغلى - ليلى العثمان و الحفر في " مظلومية المرأة".. تأملات في روايتي " وسمية تخرج من البحر " ، و " المرأة و القطة"

لا حديث هذه الأيام يعلو فوق " أحلام النساء" وتطلعاتهن في عيدهن العالمي ، و لا أجد أفضل و أحظى من إضاءة " سيرة القهر" الذي تئن من وطأته كثير من نساء العالمين ، و نساء الوطن العربي على جهة التخصيص ؛ وذلك من خلال استعادة بعض آلامهن النابعة من رحم مجتمع " موبوء بالقسوة و السطوة على الأضعف" الذي تستبين كثير من ملامح استضعافه في روايتي " المرأة و القطة " ، و " وسمية تخرج من البحر" للروائية القديرة ليلى العثمان.
تتقاطع البرامج السردية التي تشكل مادة لحُمة الروايتين في تكثيف صورة المرأة المهيضة و الأحلام الوردية الجهيضة ، إذ تغدو " وسمية " و" حصة" رمزين لحكاية واحدة تختلف تفاصيلها ، و تتحد نهايتها الموشومة بالموت غرقا أو شنقا . و الموت في الحالتين مصير أرحم من قبضة العسس في جوف الليل بتهمة التلبس ، و أرأف من ذكَر " منتهك " أذهبت النزوة و قسوة " عمة سالم " كل معاني مروءته ، فأضحى معفراً بيبس العاطفة .
في رواية " القطة و المرأة" تقيم الكاتبة تقابلا بين قصتين متضايفتين في حياة " سالم" ، الفتى الذي يعيد سرد الأحداث على سرير العلاج ، فحينما " يسري إليه الخدر ... يغيب . لا يحس بأي خيوط تشده إلى الحياة ، إلى كل ما حوله ، إلى الذين يريدون أن ينبشوا ذاكرته ، وكأنها قبر –حصة - ، أو قبر –دانة (ص 77). قد نستشف بشيء من الاقتصاد في القول ، إن القبر ، هنا، مذكر ابتلع المؤنث (حصة ،دانة) ، وليس المذكر ، رجلا فحسب ، نستريح بإدانته بعد التعرف على ملامحه و أبعاد صورته . إنما المذكر القاتل يتمفصل في صور (القهر ) :
قهر العمة المتسلطة (رمز العنف العائلي : شنقت القطة دانة، طلقت أم سالم من أبيه ، حرمته من زوجة أخرى ، تزوجت لابنه سالم (الفتاة حصة).. .
قهر الأب المقهور الذي يسلطه على ابنه العاجز جنسيا ، مثلما يسلطه ، أيضاً ، على زوجته "حصة"...، ذاك القهر المزدوج ينساب مشاعر و استيهامات و أحاسيس ، تفسح المجال أمام الاستبطان "introspection " الذي تعمد إليه الروائية لكشف دخائل نفسيات الشخصيات ، و إبراز التجربة "الجوّانية " الغميسة لكل منها ، فسالم ، مثلا، يحاول التعويض نفسيا عن الحرمان من الأم التي انتزع من دفء حضنها ، باحتضان قطته دانة ، إذ يقول : " كان وجه دانة هو الوجه الذي أحببته بعد أن غاب وجه أمي"ص33 ، بينما " يهرب من وجه أبيه ، من سؤاله النابت كخنجر . من وجه عمته الشامتة الغضوب" ص 51 ، دون أن ينفك عن الهواجس التي تجوس في نفسه تجاه " حصة التي عوضته حنان الأم، وفقدان دانة، حصة التي لونت لياليه بالحب وأضاءت ظلمات روحه" ، ما يفعل ببذرة شريكه المجهول في بطنها ؟ ، هل يطلقها ؟ ، كيف يطلق سعادته ؟؟؟.
و لا يقتصر الاستبطان على نماذج " الشخصيات المهزومة المنكسرة " التي تعمق أحاديثها و حواراتها الاستلاب بوجوهه المتعددة في واقعنا الاجتماعي ، بل يمتد إلى نماذج الشخصيات " المتغطرسة" ، " الشريرة " ، حيث تبرز العمة مثالا للبطش بالإنسان ، و بالحيوان (القطة دانة ) ، وكأنها إذ تقتلها شر قتلة ، تتخلص من ضرة تنازعها شهوة " الاستيلاء" و " الاستحواذ"، كما أنها بإبعادها لأم سالم ، و إخراجها عنوة من حياة طليقها المغلوب على أمره ، تتخيل إخلاء وجهه لها ، كي لا تنازعها في السيطرة عليه أنثى !. ، وتلك ذروة التمثيل السردي للاستلاب الذي تمارسه " العائلة " ، " التقاليد" ، على الفرد التابع غير القادر على تحقيق استقلاله المادي . إنه مجبور ، على الطاعة العمياء ، تنفيذ الأوامر (طلّق زوجتك ، تزوج لابنك...).! .
أما في رواية " وسمية تخرج من البحر" ، فتظهر رموز السلطة التي تكبح الأشواق و الحريات و تلجم المشاعر ، بل " تكره لحظة ود بريء"(ص 121) : " وجه فهد الغليظ " و صوت " قائد الدورية " ( ماذا تفعل هنا في مثل هذه الساعة... قم يا حمار ، ورد على سؤالي !)، و هواجس الخوف من خرق القيم و التقاليد ( الأنا الأعلى ) : (أنا خايفة ! ، أنا خايفة !... ، تعوذي من إبليس . لن يراك أحد . ثم . حتى لو رأوك . من سيعرفك ؟).
و ليست تخفى في الروايتين اللتين تناجيان ضمير القراء ، ضمير المجتمع الهاجع في مهجع التقاليد " البالية" ، قدرة الروائية ليلى العثمان على " استغلال طاقة القارئ على التخيل ، و استغلال طاقة اللغة على التصوير ، فتعبر بالصورة (السردية ) ... و بالإشارة و التلميح بدل التصريح والتفصيل " على حد تعبير الدكتور لطفي زيتوني ، و يكفي أن نتأمل على سبيل المثال لا الحصر هذا المقطع الذي ينساب خلاله وصف حركة " وسمية " التي يشلها الخوف : " تسربت إليه بخفة ... زفت جسدها النحيل ... و شعرها ثائر يموج على ظهرها ... وخطواتها أسرع من خطو الحمام ، إذ يرى حبة من البعيد ، تعلم أن اللحظة أزفت ، الخوف سوط يجلدها "ص121. الخوف شعور لا يبعثه البحر ، ولا الليل ، وإنما تقذفه العيون ، و " الأنوف التي تدس أطرافها في ستائر اللحظات المسروقة "(ص156).
لا تكفي هذه الكلمات المقدودة من جلدِ سرد نسائي جميل و عميق ، يأتلق فيه الوصف الأنيق ، و الحوار الشفاف الرقيق الذي يشف عن خبيئة النفوس الكابحة و المكبوحة ، الجارحة والمجروحة ، و بقدر ما أمتعتني اللغة الرقراقة الراقية ، والخيال الواسع البديع ، بقدر ما وخزني ضمير التأنيب ، لأنني ضيعت فرصة أخذ كل كتب الروائية القديرة ليلى العثمان التي أهدتني إياها ذات لقاء بمهرجان القرين الثقافي ، ليس لأنني استثقلت حملها من المشرق إلى المغرب ، وإنما غلبني الحياء أن آخذ جميع الكتب المهداة ، و لا أدع لجليسي شيئا ، و المثل عندنا يقول : " اللي ما يحشم ، ياكل حتى يشبع !".



وسمية تخرج من البحر



المرأة والقطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى