(8) الرزق على الله !!

(الفصل الثامن من قصة الخلق)

استيقظ محمود أبو الجدايل متأخرا كعادته.. كانت لمى تجلس على طاولة مكتبه تتصفح أخبار العالم عبر شبكة النت على الحاسوب. صبح عليها بقبلة ودخل إلى المطبخ يعدّ مغلياً من الزنجبيل والكركم وشاياً من الزعتر المجفف.

ملأ كأساً من مغلي الزنجبيل والكركم ، وحلّاه بملعقتي عسل ، ووضع الزعتر في بكرج قهوة وأضاف إليه ماء مغلياً ، وتركه يتخمر إلى أن يحتسي الزنجبيل .

خاطبته لمى بعد أن ارتشف شفة زنجبيل وأشعل البايب :

- ثمة تحقيق صحفي في صحيفة "أخبار الأمس" أجراه صحفي تجول في وادي الحدادين مستطلعا أحوال الناس ، تطرق فيه إلى أسرة الرجل الذي حاول اغتيالك !

- ماذا يرد فيه ؟

- يتحدث عن الأسرة "بعد مرور قرابة ستة أشهر على إعدام القاتل الذي حاول اغتيال الكاتب محمود أبو الجدايل . أم وثلاثة أطفال أكبرهم (طفلة) في حدود الحادية عشرة من عمرها ، يعيشون في مسكن من غرفتين ومنافعهما أقرب إلى الكوخ . الهزال البادي على الأطفال والأم يشير إلى سوء تغذية "

ويتابع الصحفي قائلا " سألت الأم إن كانت تعمل فأجابت بالنفي ، وحين سألتها كيف يعيشون ؟ أطرقت للحظات ليبدو حزن دفين ينعكس من عينيها ويخالج وجنتيها، وما لبثت أن هتفت " الرزق على الله " ويتابع أيضا :

" أحسست أنها تخفي العمل الذي تقوم به، و لم أرد أن أثقل عليها بأسئلتي، أو أقول لها " لكن الله لا يطعم خبزا " فاكتفيت بالقول : ونعم بالله ! وأنا أكاد أدرك نوع عملها الذي من الواضح أنه لا يدر عليها ما يكفي لمؤونتهم ، وإلا لما بدا هذا الهزال وخاصة على الأطفال، أو أن الهزال قد ألم بهم قبل عمل الأم ، وهم الآن يستعيدون بعض عافيتهم .

- هل يلمح إلى دعارة تمارسها الأم؟ تساءل محمود.

- يبدو أن الأمر كذلك .

أطرق محمود للحظات يفكر فيما إذا في مقدوره أن يقدم معونة لهذه الأسرة ! تساءل دون أن يفصح عمّا فكر فيه :

- وماذا أيضا في التحقيق ؟

- حديث عن نفايات مهملة وزعران وقطط وجرذان وفئران على الأدراج وفي الأحياء. ومحاولات من بعض أبناء الحي لإقامة درابزين في منتصف الأدراج يساعد المسنين على تسلقها.

- فظيعة قصة الأدراج هذه في سفوح جبال عمان ! ياما صعدت وأنا ألهث أدراج اللويبدة وجبل عمان وجبل الحسين ، لأستريح بعد بضع درجات لألتقط أنفاسي.

قال محمود، وهو ينهض إلى المطبخ بعد أن أخذ آخر رشفة من كأس الزنجبيل . سكب شاي الزعتر في كأس وعاد إلى الجلوس في الصالون ، مفكراً في أمر الأسرة :

- حبيبتي ! أريد ان أستشيرك في أمر.

- ما هو ؟

- ما رأيك في أن نقوم بتقديم مساعدة لهذه الأسرة المسكينة !

أطرقت لمى للحظات بدورها .

- عمل كهذا لا يقوم به إلا العظماء حبيبي وأنت انسان عظيم !

ولم يجد محمود نفسه إلا وهو ينهض ويعانق لمى بحرارة :

- وأنت أعظم سيدة في الكرة الأرضية حبيبتي. كله من فضلك أنت . لولاك لكانت حالات الانتحار تراودني بين يوم وآخر .

- والآن ؟

- الآن أريد أن أعيش حتى سن المائة وبالحد الممكن من قوتي ، من أجلك ! وسأطلب إلى الله أن يقوي عزيمتي ويشدد من صلبي!

- آمل أن يستجيب الله إلى دعائك حبيبي.

- ماذا لدينا اليوم ؟

- لا شيء !

- كأنك أهملت الإشراف على حسابات متاجركما !

- ذهبت بالأمس وطمأنني سليم على أن الأعمال تسير على ما يرام في المتاجر والبيوت والبيارة . يشغل كثيرين .

- لكن هؤلاء العاملين في حاجة إلى مراقبة أعمالهم .

- هو يقوم بذلك وإذا ما تطلب الأمر مساعدتي فسأفعل .

- أشعر بالجوع . ماذا سنأكل ؟

- ما تريد !

- مللت الشواء والستيك وما شابه ، أين يمكن أن نجد مطعما لديه طبخ منزلي كالمحاشي واليبرق والملفوف !

- يوجد في جبل عمان مطعم جديد فيه وجبات شهية من هذه .

- لنذهب إليه . وأفكر في أن نذهب بعد ذلك إلى أسرة من حاول قتلي!

*******

بعد أن تناولا طعام الغداء . استخدم محمود أبو الجدايل هاتفه الجديد ليحصل عبر أصدقائه من الكتاب والصحفيين على هاتف الصحفي الذي كتب التحقيق . اتصل به وأخذ منه عنوان مسكن الأسرة .

ابتاع من متجركمّاً كبيراً من اللحوم المنوعة والفواكه والخضار والحبوب والحلويات ، لكن ليس بالقدر الذي فعله لأسرة أم أمل . انطلق مع لمى في اتجاه وادي الحدادين .. توقفت لمى إلى جانب الشارع على مقربة من العنوان الذي أعطي لهما . ثمة درج يصعد إلى أعلى إلى جانبه كشك صغيرعلى رصيف الشارع ، يبيع الجرائد والسجاير والمرطبات والعلكة وسكريات للأطفال.. اقترب محمود من الكشك . رأى شابا يجلس خلف طاولة البضائع يقرأ كتاباً. تنبه الشاب لوقوف محمود أمام الكشك . نهض واقفا . خاطبه محمود:

- مرحبا .

- أهلا .

- ممكن سؤال ؟

- تفضل .

- هل تعرف أين يقع بيت أم بشير هنا ؟

- أعرف ..

وأطرق الشاب للحظات قبل أن يكمل ليسأل :

- ألست الأستاذ محمود أبو الجدايل ؟

- بلى أنا .

خرج الشاب من الكشك وصافح محمود مرحبا .

- كثيرون يسألون عن بيت أم بشيرأستاذ ، لكنهم يختلفون عنك .

- غير مهم .

- بعد أن تصعد قرابة خمسة عشر مترا على الدرج ، تجد طريقا في اتجاه اليمين ، تسلكه لما يقرب من أربعين مترا . تجد درجا ينحدر إلى خرابة صغيرة فيها غرفتان . هذا هو بيتها .

- أشكرك !

- العفو أستاذ . لكن عفوا .. هل تعرف من هي أم بشير ؟

- طبعا أعرف !

- عذرا لفضولي .. لماذا تسأل عنها إذن ؟

- لأطمئن عليها وعلى أولادها!

فغر الشاب فاه ..

- تطمئن على أسرة من حاول قتلك ؟

- الأسرة لا ذنب لها ، والرجل نال عقابه ، لأنه صادف وأن قتل رجلا غيري .

- أي انسان نبيل أنت أستاذ ؟!

- تشكر. هل تعرف أحداً ممكن أن يساعدنا في حمل أغراض اشتريناها للأسرة .

- أنا سأساعدكم.

وصرخ ينادي ولداًا كان يقرأ دروسه على شرفة منزل قريب في بناء مجاور، طالبا إليه أن ينزل ويبقى في الكشك إلى أن يعود .

سلم الشاب على لمى دون مصافحة . حمّله محمود بعض أكياس التموين . وحمل هو بعض الأكياس . بقي بعض الأكياس حملتها لمى .

انطلقوا إلى بيت أم بشير . كان الشاب يصعد الدرج بخطوات سريعة . طلب إليه محمود أن يتمهل وأن لا يخبر أم بشير بهويته إذا لم تعرفه .

كانت أم بشير تنشر غسيلاً على حبل ممدود أمام الكوخ ، شاهدت القادمين ينحدرون الدرج بأحمالهم . أدركت أنهم قادمون إليها بمساعدة من فاعلي خير . فهرعت لاستقبالهم ولمساعدتهم وهي تنادي الأطفال أيضا ليخرجوا للمساعدة :

" زهرة ! بشير اطلعوا يمّه ساعدونا"

خرج الأطفال وهرعوا خلفها ..

" يا ألف أهلا وسهلا .. حلت علينا البركة والخير.. "

" كيف حالكم يا أم بشير " قال محمود .

" الحمد لله على كل شي"

أخذت بعض الأكياس من يد لمى وأعطتها للأطفال ثم أخذت بعض الأكياس من يد محمود وهي تهتف " اتفضلوا اتفضلوا "

وضعوا الأكياس أمام باب البيت ليشرع الأطفال في ادخالها إلى المطبخ . ودخلوا ليجلسوا على فراش أرضي من البسط .

تعرف أم بشير صاحب الكشك " علي " . سألت بعد ترحيب من جديد :

- ألف أهلا وسهلا . الله يكثر خيركم ويفرجها عليكم في كل زمان . ما عرفتني بالأخ والأخت يا علي.

- أنا ساعدتهم في حمل الأغراض معهم ولا أعرفهم !

وسارع محمود إلى الإجابة :

- احنا فاعلين خير يا أم بشير . أنا اسمي محمود . والسيدة اسمها لمى .

- هل لديكم جمعية خيرية يا سيدي !

- لا للأسف ليس لدينا جمعية . لكنا قد نعمل .

وأخرج محمود مغلفا يحتوي على ثلاثة آلاف دينار . قدمه لها وهو يقول :

- هذا مبلغ يسير من المال لمساعدتكم . يوجد عليه رقما هاتفين . حين تحتاجين شيئا خبرينا .

وهمت لأخذ يد محمود لتقبيلها غير أنه أبعد يديه الاثنتين وهو يرجوها ألا تفعل .

- يكثر خيركم يا سيدي . ماذا تشربون . عفوا . لدينا شاي فقط .

- شكرا لا نريد شيئا . يجب أن ننصرف . لي طلب واحد منك . تفضل يا سيدي:

- هل الأطفال في المدرسة ؟

- نعم ثلاثتهم في المدرسة .

- دعيهم يكملون تعليمهم واعتني بهم، وسأكون معك ومعهم ما حييت .

- أنت تأمر يا سيدي ، لن أكون لهم إلا الأم الرؤوم . إلهي يكثر أمثالك .

ونادى على الأطفال ليقتربوا منه . جلس أصغرهم ( واصف ) أمامه وجلست زهرة إلى يمينه وبشير إلى يساره .

مسد على شعر واصف وسأله في أي صف هو أجاب أنه في الأول الابتدائي . ونظر إلى بشير قائلا : وأنت ؟ أجاب أنه في الثالث ، ثم إلى زهرة لتقول أنها في الخامس .وراح يسأل أم بشير عن مستوى تعليمها لتخبره أنها أنهت الاعدادية ، وأنها تحب المطالعة .

نهضوا لينصرفوا وأم بشير تحلف عليهم أن يبقوا ليشربوا الشاي ، غير أن محمود أقنعها أنهما مرتبطان بأكثر من موعد ، وليس بإمكانهما أن يتأخرا . صافحها وصافح الأطفال مقبلا ، ثم صافح عليا وشكره ..

وفيما كان محمود ولمى يقتربان بصعودهما من رأس الدرج فوجئا بأم بشير تهرع خلفهما جرياً وهي تصرخ منادية : سيدي سيدي .. عفوا يا سيدي .. تعثرت على بعد أربع درجات منهما لتتابع صعودها حبواً على يديها وقدميها .. هرع محمود إليها ليوقفها ، غير أنها أبت وهي تحاول قدر جهدها أن تنطرح على قدميه لتقبلهما وهي تهتف " دعني أسجد أمام قدميك وأقبلهما يا سيدي لأنني رأيت فيهما قدمي الله " غير أن محمود أبى وظل يجاهد ليوقفها ، إلى أن أوقفها وهو يردد " أستغفر الله العظيم ، أستغفر الله العظيم "

كان الشاب علي قد باح بسر محمود أبو الجدايل ما أن عرف أنه ابتعد قليلا ، وقف أمام أم بشير قائلا : هل تحبين أن تعرفي من هو محمود هذا الذي أغدق عليك كرمه !

- يا ريت !

- إنه محمود أبو الجدايل الذي حاول زوجك قتله ؟!

لم يتوقع علي إطلاقا تأثير الحقيقة على ردة فعل أم بشير.

أطبقت يديها على رأسها وفغرت فاها هاتفة : لا. لا . وهرعت عدوا خلف محمود ولمى .

*******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى