حمدان عطية - القرصة

يلتقيان كل أسبوع عند بائع الكتب ولا يتحدثان، هذا اليوم اكتشفا أن هناك رابطا خفيا ظاهرا؛ انخرطا في حديث عن الكتب السماوية، كان هو قد سبقه فالتقط نسخة من العهد الجديد لها غلاف زاه، تجلس مريم العذراء ببراءة جذابة تحمل رضيعها، ينظر لأمه في استغراق تام، حدّثه عن بابل القديمة والخروج.
انبهر بحديثه: قرأت عن بابل والبرج الذي فتن الناس، إنهم مولعون حتي الآن بالفكرة، يبنون أبراجا عالية كأنما يتوقون للوصول للسماء والنفاذ إليها!
وقف الرجل مذهولا لفيضه في الحديث مغتبطا، تبدو ملامحه أكبر من صاحبه فلحيته الخفيفة بيضاء بالكامل، أفرغ بائع الكتب عبوة كبيرة من الكتب القديمة وتزاحم القراء ليشاهدوا العناوين، مَدَّ الرجل يده وقرصه في خده قرصة الغبطة والفرح به، مودعا حتي يشاهد ما أفرغه البائع علي الأرض؛ متابعا: لابد أن نلتقي ثانية!
دار دورتين حول الكتب القديمة المتناثرة ومضي، حين اختلي بنفسه أحس بلهيب يدب في موقع القرصة تماما، فوبخ نفسه: لِمَ لم أمنع هذا التجرؤ علي وجهي! ولماذا تخاذلت؟!
لكنه سارع: ليس بيني وبين الرجل عداء، إنه لقاء عابر.
قطع عمله هذا اليوم وعاد إلي بيته
لم يحادث أحدا..
صنع قهوة حتي ينفض هذا الهاجس اللعين الذي يدوّي حوله كذبابة طنانة ملحاح، يطردها من اليمين حتي تأتيه من اليسار؛ أنا تخاذلت ووقفت مستسلما متجمدا كتمثال، وأرقت كبريائي مع رجل علاقتي به عابرة، لماذا أندمج هكذا سريعا مع أناس لا أعرفهم جيدا؟! هذه هي النتيجة تجرؤ فادح، أتعثر فيه، بدا عصبيا، أهمل هندامه حتي إنه ذهب للقاء الأصدقاء ولم يحلق ذقنه لأنه كان خجلا أن ينظر في المرآة!
فغامت ملامحه الرائقة خلف الشعيرات المتناثرة علي وجهه..
اقترب الموعد الأسبوعي الذي يشاهد فيه الرجل فأسرّ في نفسه خطة؛ حين أشاهده للوهلة الأولي سأصفعه علي وجهه في مكان القرصة تماما وأجري خلف العمارات؛ لكنه استدرك: المكان يعج بالمارة والقراء، سيمسكون بك لا محالة وحينها سيكون الثأر لرجل كبير السن من كل الجهات، راح يقلب الكثير من الافتراضات والخطط: سأذهب للقائه ولابد أن أصل لطريقة أرد بها اعتباري! لا بد أن أمسح الإهانة، كل حين أحس باللهيب، أنا أخشي أن تترك لي ندبة مكان هذه القرصة الشائنة!
هذا هو يوم اللقاء..
جاء الرجل ليسلم عليه، تنحي عنه ولم يرد..
ـ لقد جرحتني جرحا هائلا.
ــ ضحك الرجل: سطحي أم عميق؟
رمقه شذرا ودار بعيدا عنه يشاهد الكتب.
حدّث نفسه: لأصفعْه وأمض سريعا، هذه فرصتك حتي تتخفف من هذا العبء الثقيل!
يراوحه إحساس بالجبن، إنه يحفز نفسه لكن لا يستطيع المضي فيما عزم عليه.
وقف الرجل بجواره قائلا:
ــ كيف جرحتك؟
ــ حين قرصتني.
ارتفعت ضحكة الرجل حتي ارتمي رأسه للخلف.
ثم انحني أمامه مقدما وجهه له: هذا وجهي اقرصني، اقرصني بشدة، حتي يلتئم جرحك،
مد يديه وضغط علي خده، والرجل يضحك ويقول: اضغط بقوة حتي تبرأ تماما!
خجل فاحتضنه وقبل بعضهما الآخر وانخرطا في متابعة العناوين، حين نال منه التعب انسحب ليستكمل يومه في عمله الأساسي، يحادث نفسه:
ــ هل قرصت الرجل؟
ــ هل قرصته بالفعل؟
لقد كان يضحك عاليا..
هل يضحك وهو مقروص في وجنته؟!


* عن جريدة اخبار الادب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى