د. سامي عبد العال - المُتنطِّعُون: في إرهاب اللغة

في دائرة التداول العام، من يُعطِّكَ حبْلاً، ضَّعه( لِفه) حول رقبتهِ. تقول الأمثال الشعبية" من ذقنهِ وافتلْ له" كأحد الأساليب لكشف تناقضات المتحدث( الكاتب/ الخطاب) ونقض مبرراته وإظهار زيفها. وبخاصة إذا كانت صيغ الكلام عنيفة ولا تترك المتلقي وشأنه إنما تلاحقه بقيود غير مرئية. إنَّ أعمق ما يُفكِّك التفكير الإرهابي المؤدلج تبيان: كم هو يدمر الدين نفسه قبل أي شيء آخر. ذلك يجري تنكيساً لكاملِ البناء الايديولوجي وخلخلة أركانه التي تبتلع الاعتقاد. وهي الحركة السالبة القابلة للرصد مع عنف الجماعات الدينية وخطاباتها المتداولة. فإذا ما تتبعناها كانت كفيلةً بشق دروبٍ جديدة للفكر والاختلاف وإظهار كَون الإرهاب قتلاً لمعاني الفهم.

هل ثمة إشكالية فكريةٌ حول الكلام الديني المتنطِّع، أي المفرط والمتقعر والمتشدد؟ إنَّ العمل الناقض داخل خطابٍ كهذا يشبه عمل الفيروسات القاتلة، حين لا تهاجم أبداً الخلايا من الخارج إنَّما تسكن تكوينها الداخلي ناخرةً عبر بنيتها الأساسية حيث تنتشر وتتقوى، فتعيد توزيع أدوارها للاختراق والتجاوز. فالفيروس يصمم وجوده الطفيلي في جسم الإنسان وأنسجته، يغتذي على موارد الخلية المستهدفة. أي أنه يلتصق بآليات عملها مبرمجاً إياها وفقاً لوظائفه الحيوية الجديدة، وهذا ما يعطيه إقامة دائمة في الجسم دون أن يشعر به الإنسان.

بالنتيجة يجب تناول الاتجاهات الارهابية باستراتيجية التَّحلُّل الداخلي. أي بطريقة: أقتل نفسك بنفسك ... أو دعه ينتحر بسيفه(كيدهم في نحورهم). على ألاَّ يتم ذلك بخبط عشواء ولا بمجرد استنكار من قراءة أو تأويل. فالاعتقاد الديني دون غيره يتصلّب- إلى درجة الاستحالة- في مواجهة أي هجوم خارجي. وهو أشبه بالقنفذ التي يدخل لحمه الحي داخل أشواكه ليدمي أي عدو مفترس. لأنَّ المضاد البيولوجي anti- biological للاتجاهات الدينية العنيفة ليس العلمانية( كما يتوهم أصحابها)، بل إذا أثبتنا رجعَ (الأثر السالب) لرؤى هذه الاتجاهات, لكان ذلك قميناً بإضعافها وغربلة ذُراها.

في هذا السياق: من هم المتنطعون دينياً؟ جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ... قَالَهَا ثَلَاثًا ) رواه مسلم. هنا لدينا فرصة ثمينة: كلام ديني عبارة عن "حديث نبوي" يقر بعدة أشياء حول خطابات التدين. وبواسطتها يصح التساؤل: كيف يعارض الدينُ نمطاً معيناً من العنف على ذاته؟! ولماذا يتهدد الدين من أقرب الخطابات إليه؟ وهل بالإمكان التبرؤ من طابع التدين باسم الدين نفسه؟ بكلمات أخرى: هل يسقط نمط التدين المتعنف والمتكلف؟

هذا المعنى يظهر نقطة تقوم على مفارقة مهمة، وهي أنَّ الاعتقادات الدينية تحمل نقائضها على الدوام لدرجة الاختلال. حتى وإنْ كانت في خدمة أهداف عُلياً بالضرورة. وأنَّ تلك الاعتقادات عندما تصاغ تكتسب احتمالات تأثيرها بمآرب منحرفة وذات طابع افراطي ومغالٍ فيه. هل سيُواجه الدين وجوده السالب(أي الوجه الآخر له)؟ ينطلق هذا الحديث النبوي كأنَّه مرآة في محيط اللغة الدينية. فثمة كلام من جنس ما يقال يعتبر كلاماً كاشفاً في الكلام، أي ماهية الأساس باصطلاح مارتن هيدجر. فإذا قلنا إن الدين معتقدات وإيمان وأفكار متعالية، فتلك الذخيرة اللغوية تأخذ في إظهار مسيرتها. أي تقدم جرداً نقدياً ذاتياً أساسه التباين لما يمكن أن يحصل في مضمونها. وبذلك يمكننا القول: وشهد شاهد من أهلها... وبالتماثل أمام الارهاب المؤدلج: على نفسها جنت براقش.

وعليه يتأتى خطر العنف من ألصق الأشياء بالدين، التدين، التجربة الدينية، التعامل مع المقدس، القُوى العليا. إنها تمارس انقلاباً على ذاتها لا على أي شيء آخر. فكلام الحديث النبوي ينتمي إلى "خطاب الخطاب الأصلي" على طريقة نقد النقد. وأنه لن يوجد هناك أي كلام محصن دون ملاحقة تساؤلية. وها هو الإسلام يقدم مقترحاً جوهرياً بذلك في آفاق الديانات الإبراهيمية.

ليس ذلك الأفق إيماناً بديلاً بقدر ما سيفعل فعله النقدي داخل الانساق الدينية. فكل نسق من هذا القبيل يُبنى على لحظات لا واعية خاطفة إزاء التلقي. بالتالي ستحمل هذه اللحظات فوقها موارد الخطاب إلى أقصى نقطة ممكنة. لأنها لحظات تسرق الفهم والتحقق من المعنى المقصود. وإذا تمكنا من الوقوف على تلك المداراة – الخفية – سيكون ثمة خيط لنقض الثوب الأيديولوجي البراق. ولهذا فإن الشكل العنيف للطرح الارهابي لهو أقرب الأشكال التي تصب فيها الكلمات وتقولب المعاني.
  • التنطع في الدين يعني أن بنية التشدد سلطة ما. والسلطة قابلة للاستنساخ لمجرد أن يعلن المتنطعون قدرتهم على ممارسة الخطاب.
  • التنطع يسبب تمزقاً داخلياً للخطاب الديني. فرغم كونَّه سلبياً إلاَّ أنَّه يطرح معياراً ما. ويدفع المتلقي لاعتباره انتهاكاً غير مبرر، ويصبح طوال الوقت عرضة للنقد.
إذن لو تساءلنا: ما خطورة التنطع؟، لأتت الخطورة من أنه في صلب الدين. أي لا يذهب بعيداً بقدر ما يعرِّض ما يدافع عنه للانهيار. وربما اللغة العربية- عن قصد- لم تمس هذه القضية بحقيقتها. وتعاملت مع التنطع كسلوك انحرافي خارج دائرة الدين. لأن المعجم اللغوي لدينا لا يخرج بجذوره الاعتقادية إلاَّ نادراً. وكأن اللغة العربية تشكيل ثقافي غير محايد، تتواطأ للحفاظ على صورة التدين بمبررات عدم المساس بثوابت الأمة. فاللغة أكبر مصفاة ثقافية للدفاع الضمني عن الدين السياسي الاجتماعي.

لغة الخطابات جدار صلب يحتاج إلى حفر تحت جذوره العميقة لنعرف تاريخها وصورها المتراكمة. فأول مقابل للتنطع أنه يطلق على إلصاق الطعام في أعلى الفم. فيقال تنطّع الرجل، جعل طعامه عالقاً في الغار الأعلى من فمه، حيث موقع اللسان من الحنك. ربما كانت الإشارة مواربة خلف المعنى حينما ينصرف إلى حاجة حسية مباشرة. وربما يندفع المعجم بحيلة ثقافية لمعانٍ بعينها خوفاً من انزلاقها في طريق المحظور. وبخاصة أن لدينا خطاباً مغايراً قائماً على الحديث النبوي السابق. والمقصود هنا أنَّ كل شيء مباح في السياق الديني العام طالما يخدم القضايا الدينية، وأن ما يقال عن الضرر أمر نسبي غير واضح . إذن كلام التنطع أمر يرد بمعان وإيماءات هامشية تقلل من شأن ما يفعل. فقد يأخذ القارئ نحو أهداف أخرى.

لكن لأنَّ الهامشي يستدعي المتن بالضرورة، فالدرجة الثانية لمعاني التنطع هو التقّعُر والتفصُح. فهناك الرابط السري بين اللسان في المعنى الوارد بالأعلى(تناول الطعام) ودرجات التقعر الخطابي. وهو يتم عن طريق اللسان كذلك. لعلنا نلاحظ هذه السمة التي تميز الخطاب الديني بالتحديد بجميع أطياف التقعر البارزة. وليس ذلك تعليقاً لشيء بقدر ما يُعلِّق المتلقي في سقف الطيش اللغوي. لأن التقعر والتحذلق البلاغي يعميان المستمع ويصمان أذنيه عن التأمل الحر. إنه يربط التفكير بالتشدد في نحت الألفاظ ولي عنق الكلمات، واختيار العبارات الغريبة للإيهام بكونه يقول شيئاً مهماً. وطبعاً تبدو سمة عامة تكاد تشترك في جميع الخطابات الدينية والأيديولوجية. فالالتواء في الإلقاء والنطق والطرح بات مضموناً للخطاب الديني.

وليس بعض التنطع هذا المستوى من التكلم وحسب، بل شمل قراءة النص الأولِّ في الإسلام(القرآن). فشيوخ الجماعات الدينية يتفننون في القراءة الشفاهية المتقعرة. وذلك مدعوم بأحكام التلاوة والتجويد على ذات المنوال. وليت التلاوة الصوتية تزيد المستمع فهماً وتدبراً، إنما يقصدون منها إيقاع الرهبة والتخويف فقط. كما أن تأكيد القارئ على ألفاظ العذاب والجنة والنار قد حول الكلام من سياق الاعتقاد إلى ممارسة خطابية. أي يضاف بالتكملة إلى النص المقروء. بل يمارس وجوداً بديلاً للنص الأصلي ويحل محله. لأن مغالاة الشفاهية المتقعرة تملأ المساحة المضروبة بسلطة اللغة على إفراط المعنى المقصود ودرجاته. فجهنم الواردة في القرآن( مع القراءة الصوتية) ليست كلمة لكنها- بالنسبة للمتنطعين- حادثة في صورة حية. وكأن القارئ يريد إدخال المتلقي إليها عنوة ولا يجد مفراً من ذلك. يبدأ بتخويف المستمع من أول وهلة وما ينطبق على ذلك ينطبق على آيات العذاب والحدود التي يتحايلون صوتيا في إنزالها به.

حيث يقصد الصوت الشفاهي إلى تكريس الحضور المقوى للمعني. فلا يعرف المستمع فارقاً بين الحالة الشعورية للصوت وبين الواقع. وفي تلك اللحظة لا يستطيع أن يستفيق المتلقي إلاَّ وقد خضع تماماً. إنها سلطة الإمعان في الاستحواذ على التنوع بمبررات التماثل. وإذا تأملنا سرادقات قراءة القرآن( في المناسبات الخاصة والعامة) سنراها عزلاً شعورياً وتضخيما للمعاني بموجب الاستماع.

والتنطع في العمل يشير إلى المبالغة فيه. والخطاب الديني يستأثر بالمبالغة في وصف العصر الذهبي والأئمة وأمراء الجماعات وشيوخ الإسلام. حتى يقال إن هذا العالم أو ذاك هو حجة الإسلام وصوت الحق. لكن هل يوجد دين له حجة متمثلة في شخص كائناً من كان؟ أي أن قدرة الدين على محاججة الآخرين لا يتم إلاَّ بواسطة شيخ أيا كان. إنَّ أكبر تنطع يأتي من تلك الزاوية... فهناك ألفاظ التأله المنسوبة إلى أئمة الفرق والمذاهب والتنظيمات. حتى ليظن القارئ أنّه لا إسلام بلا شيوخ ولا نجاة دون أمير. وهو كذا في الفقه والفتوى والخطابة. ذلك يتيح مساحة كبيرة لهؤلاء الشيوخ لتحريف الدين ذاته والتلاعب به. إن الدين الاسلامي –بحكم اهتمامه بالتوحيد- لا يرتبط بأشخاص حتى وإن أسهموا اسهاماً بارزاً في تاريخه الفكري.

ثم كان التنطع في الشهوات... أي التأنق فيها والتشبع بها. وهذا المضمون يلتقي مع التنطع في الطعام من حيث كونهما يتعاملا مادياً مع الغرائز. وبالرغم من بُعد المعنيين لغوياً إلاَّ أنهما يوضحان التنطع الديني بشكل أو بآخر. لأنَّ التنطع يمثل شهوة الهيمنة لدى أصحاب الخطاب. وليست الشهوة هنا بسيطة التركيب وفق آليات ثقافية وسياسية واجتماعية فقط، إنما ترتبط- وتختلط كذلك- بشهوة التألُّه بالبصمات الإنسانية الأولية في تاريخ البشر. إن المتطرفين لا يمارسون التنطع من باب خدمة الدين. لكنه يرتبط بتأليه ذواتهم حيث يعتقدون أن رؤية الله منعكسة في وجودهم المقدس. .. هم الناطقون بلسان السماء .

والأغرب أن الأدبيات الدينية تعالج التنطع بمعايير الدين لا الفكر الحر. ويعتبرونه شاذاً بالنسبة إلى تمتين قوة الدين على تجديد نفسه بنفسه. جاء في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير: "(هلك المتنطعون) فهم المتعمقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. والمعنى مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استُعمل في كل تعمق، قولاً وفعلاً". واعتبر ابن الأثير أن هذا الأمر منهيٌّ عنه. والنهي هنا إذا ورد صراحة أم ضمناً يرُد القضية إلى بيت الدين لا غير. وذلك - بخلاف ما يعتقد ابن الأثير- سيكون نوعاً من زيادة التشدد مرة تالية. فعاجلاً أم آجلا سيهب متشددون آخرون زاعمين أنهم يفهمون مقاصد الدين بخلاف السابقين عليهم. وهكذا في النهاية سيرُد متنطعون على متنطعين آخرين دون نهاية!!

وبهذا ذكر النووي أيضاً أنَّ التنطع هو تجاوز الحدود فيما هو مسموح به أقوالاً وأفعالاً. وهذا الرأي لا يذهب أكثر من تقييد الكلام المفرط(المتنطع) بتنطع آخر. هذه الحدود الذي لا يتجاوزها الفرد. لكن ما هي الحدود؟ بالقطع : لم ولن يشير إليها النووي. ببساطة لأنه لم يُرد التخلص من المشكلة. كان ينبغي الانفتاح على التجربة الإنسانية التي تضمن عدم العودة إلى التنطع لا مجرد الرجوع إلى أصل القضية. وهو استعمال الدين للهيمنة على المجتمعات بالصوت والأيديولوجيا.

أما ابن تيمية فقد عالج القضية بشكل تكفيري إقصائي. فالتنطع يقع ضمن الابتداع في الدين ومشابهة الكفار. يقول (شيخ الإسلام) ابن تيمية في "مجموع الفتاوى: " الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( هلك المتنطعون )، وقال: ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم ) مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم، وأن يقوم قائماً ولا يجلس، ولا يستظل، ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مُروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه ) رواه البخاري.

هذا الكلام يضخم التنطع ولا يحلله كظاهرة دينية خطابية من الأساس، بل يرسم له كيفية الاستفحال. وليس أقرب إلى ذلك من أنَّ أغلب الجماعات الارهابية تعتبر ابن تيمية مرجعاً أساسيا لخطاباتها. وكم فرّخت تلك المرجعية في عقول الجهاديين بشتى صنوفهم أفكاراً دموية. كالوهابية والجهادية السلفية، وتنظيم داعش والقاعدة وجبهة النصرة وانصار الشريعة والجماعة الاسلامية المقاتلة... الوجوه مختلفة لكن التنطُّع واحد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى