جمانة القروي - عناقيد العنب

ما زال الوادي الفسيح مستمتعاً باشعة الشمس التي بدأت تتخلى رويدا رويدا عن سكب حرارتها، واخذت تستعد للرحيل وراء الجبال الشاهقة وقد لبست حلتها الارجوانية، كانت مفرزتنا تقصد احدى قرى الزيبار التي تكمن بين جبال وعرة وقطوع صخرية شاهقة، وارض سهلية تكثر فيها مزارع العنب والتفاح .

لم نكن قد دخلنا هذه القرية من قبل، ولم نكن نعرف اهلها او اي شئ عنها، فهي تبعد مسيرة ساعات طويلة عن مكان استراحتنا الاخير. كنا نحث الخطى لبلوغها قبل حلول الظلام حيث سنقضي ليلتنا فيها، وبالرغم من التعب والاجهاد اللذين اضنيانا جميعا واصلنا المشي إليها.

بدأ الالم يشتد على قدميّ فاصبحت اجرهما جرا، ومع كل خطوة اخطوها اعدهما بالراحة من ضغط الحذاء الذي سجنتا فيه منذ ساعات طويلة، وبانهما سيتحرران قريبا من ضيقه المزعج .

اجتاحني الاحساس ببلوغ الراحة التي باتت وشيكة مما كان يهون عليّ وعورة وخطورة وطول الطريق. ملأت انفي رائحة الخبز الطازج الخارج تواً من التنور، ولامست حرارته اصابعي، وانا اقطع منه الجزء المحمص الذي شوته النار، فصبغته بلونٍ بني شهي، فأضعه في فمي وامضغه على مهل. انعكست ظلال الاشجار الساكنة على السفوح الرمادية، تذوقت الشاي الدافئ ببطئ وروية، ورأيت امامي صحن الطعام المسكوب تواً، ورب البيت يدعونا للاكل بكل ود.

اخذ التعب والجوع مأخذهما منــي، ولم تعد احلامي التي حاولت بها تبديد طريق المسير الطويل من تخفيف الم قدمي، وكتفي الذي ينوء تحت ثقل السلاح،ورغم ذلك شعرت بان همتي ولهفتي للوصول والراحة تزداد كلما اقتربنا من القرية.

من بعيد لاحت الاكواخ الطينية وقد اكتست سطوحها بلون قرص الشمس الاحمر، احسست بفيض من النشوة والفرح، فقد كانت لحظات الوصول الى القرية بالنسبة لي تضاهي سعادتي وانا التقي حبيبتي، اين هي الان يا ترى..؟ أما زالت تذكرني ؟ ام ان رجلاً اخر قد استحوذ على قلبها ولم يعد حبنا سوى شئ انزوى في اغوار الماضي؟.

ها نحن اخيرا نقف عند اعتاب القرية بانتظار مختارها الذي سيوزعنا على بيوتها. أحقا بعد هنيهات قليلة سأخلع عن كتفي البندقية، وانزع حذائي اللعين، اجل سأفك لجامه حينما اطأ باب الدار فأستريح منه، وسأغمر قدميّ بالماء البارد واتركه ينساب عليهما فيخفف بعضا من ألمهما، سأجلس على السجادة اليدوية التي تحيط اركان الغرفة، وسأترك ظهري يتكئ على الحائط الطيني، ثم افرد رجلي امامي وادخن بهدوء ودون ازعاج من اي نوع كان، حدثت نفسي ومنيتها بالراحة.


لم اعِ إلا وآمر مفرزتنا يتوجه صوبي وهو يقول:" ستكون معهم ومن يقودهم الى جحر الدببة" لم افهم عن ماذا يتكلم، كنت كمن صفع على وجهه وهو مستمتع بغفوةٍ لذيذة! ماذا يقصد وأي جحر هذا؟ انه يمزح حتما، حدثت نفسي إلا ان عيناي مكثتا تتنقلان بين وجهي امر المفرزة والمختار الذي كان يهذي طوال الوقت بكلمات سريعة مبهمة لها طابع التذمر والاشمئزازا لم اعرف سببهما. قد لا يعني ما طلبه مني قبل لحظات، او ربما اراد ان يحوَّل القلق الذي شاب كلام المختار الى هدوء وراحة، لذلك قال ما قاله لي! كنت مازلت اطمئن نفسي حينما رأيت آمر المفرزة يوزع السلاح على ثلاثة من رجال القرية ويقول لي بصوت حازم لا لبس فيه :"رفيق ستصعد مع الفلاحين الى جحر الدببة وتصطادهم "! وقفت مذهولاً، لا اصدق ما سمعته.! لكنه كرر ذات الكلمات مرة اخرى وبصوت سمعه كل الرفاق. انتحيت به جانبا لأسأله "إي دببة التي ساقتحم جحرهــا مع الفلاحين"؟ لم تتغير ملامحه بل ظلت راكدة كما هي دائمــا واجــاب باقتضاب "الفلاحون يشكون من الدببة الذين يتسللون ليلاً ويهاجمون مزارع العنب وياكلون عناقيده، مما يؤثر كثيرا على محاصيلهم"! سكت آمر المفرزة وهو يمط شفتيه بكلمة المحصول.. كنت ما ازال تحت تأثيرالاجهاد والخدر الذي استبد بي ولم ادرك تماما لماذا اختارني انا بالذات.اقترب مني وعيناه مصوبتان لوجهي الذي احتقن بالغيظ وعدم التصديق وهو يقول:" لذلك اعطيت البنادق الرشاشة لهؤلاء الرجال، عسى ان تتمكنوا من قتل الدب او الدببة وتخليص القرية مما يؤرقهم "!

لم انبس ببنت شفة، اذهلني طلبه هذا، وانا في حيرة من امري وبين الحقيقة والخيال، اخترق صوت امر المفرزة العالي اذنيّ وهو يوضح لباقي الرفاق، مشكلة اهل القرية فكان يلوح بيمينه نحو الجبل تارة وبيساره نحو الحقل تارة اخرى إلا اني سمعت جملته الاخيرة وهو يقول "يشتكى المختار من ان هناك مجموعة من الدببة تأكل عناقيد العنب الناضجة من أشجارها، مما سبب لهم خسارة كبيرة!" حدثت نفسي ساخرا، وماذا عساي ان افعل للدببة، هل امنعهم من السير ليلاً ؟ وافرض عليهم حضر التجول؟ ام اثقفهم بمضار اكل العنب بكثرة، لانه قد يسبب لها مرض السكري؟ ام احذرهم من ان غزوهم الليلي على عناقيد العنب سيؤدي الى ما لا تحمد عقباه،أو اني اهددهم بفرض ضريبة الضرر بالمحاصيل! ضحكت بمرارة لما راودني من افكار وتساءلت مع نفسي لماذا انا؟ ربما لاني وقفت خلف امر المفرزة مباشرةً، واول شخص وقعت عيناه عليه؟ كتمت غضبي ما ان رأيته يشير الي، ولعنت حظي وسوء طالعي الذي سيجعلني بمواجهة آكلي العنب !

لا اعرف من اين شحذت الهمة، ولا كيف تقدمت الرجال لنسلك الطريق الذي كان يتلوى كافعى فيخفي عن بصري على الاقل اثنين منهم خلف الصخور الكبيرة التي كنا نتسلقها. كثيراً ما تغلبنا حسن نيتنا، وربما سذاجتنا في بعض الاحيان، فلا نتبصر بالعواقب التي قد تترتب على اعطاء السلاح لرجال لم نخبرهم سابقا، وبدون اي تخطيط او تريث أمرني القائد العسكري بالتوجه نحو الجبل معهم، حدثت نفسي بامتعاض. نفذت الأمر على الرغم من الالم والارهاق اللذين المّا بي، وبقيت الاحق الرجال بنظراتي المنتبهة والمتفحصة طوال الوقت حذرا ويقظة، فمسكت بندقيتي بيدي، وتركت سبابتي تلامس قفل الزناد مهيئة لاطلاق الرصاص.

واصلنا السير في مسارات ضيقة ومنحنيات قصيرة لا تستوعب اكثر من جسم انسان واحد، كنا ما نزال نصعد برؤوس منحنية وظهور مقوسة واصابع مستعدة لاطلاق النار في اية لحظة تحسباً لظهور الدببة . فجأة داهمتني وساوس وهواجس شريرة، وانا اضع بندقيتي على كتفي لامسك بيدي الحجر الاعلى من رأسي، واثبت قدمي على الحجر الاسفل الذي تحتهما، حتى لا اسقط في الهاوية التي كان مداها يتسع كلما تسلقنا القطوع. ماذا لو كان هذا كمين لتسليمي الى جحوش (*) السلطة وقبض الثمن؟ وما ادراني ان هؤلاء الرجال ليسوا عملاء للاعداء ؟ في كل دقيقة كنت اتوقع ان تخترق قلبي او رأسي رصاصة من احدهم، فاراني اتدحرج من هذا العلو الى الوادي ومازالت اصابع يدي الاثنتين تحتضنان الحجارة تلو الاخرى حينما باغتتني كلمات ابي" كان يا ما كان في قديم الزمان، كانت هناك دبة تعيش في احد الجحور بين جبال عالية وعرة "! من عمق روحي سمعت صوته ينساب الي عبر الزمان والمكان اللذين يفصلانه عني"في احد الايام تاه احد الجنود عن زملائه ولم يعد يعرف طريق رفاقه الاخرين، ظل يبحث عنهم دون جدوى!" التفت خلفي فوجدت الرجال الثلاثة مازالوا يمشون ويتسلقون الواحد بعد الاخر وبنفس الهمة التي بدأنا بها طريقنا. ماذا سأفعل اذا صوب الرجال بنادقهم نحوي؟ ورأيتني مقيداً مسحوبا الى ما وراء الجبل! اشتدت بي الظنون تجاه الرجال الذين معي دون ما سبب، فقد توقعت الغدر والخيانة منهم، رغم ان شيئاً سيئا لم يبدر منهم! كنت اسمعهم يتكلمون فيما بينهم، حاولت الاصغاء علني استشف ما يضمرونه لي، لكني لم افهم من حديثهم، الذي بقيت اذاني تبتلع كلماته دون جدوى، شيئاً. عاد اليّ صوت والدي وهو يكمل حكايته الليلية "جلس الجندي عند نبع ماء صافٍ يتدفق من باطن الارض واخذ يشرب منه، وهو كذلك رأى امامه دبة كبيرة بنية اللون شعثاء الشعر!" التفت ورائي كان الرجال الثلاثة ما انفكوا يتسلقون الصخور.

حملت الدبة الجندي المسكين واخفته في كهف بعيد، ولكي لا يهرب منها اخذت تلعق باطن قدمه حتى تسيل الدماء منهما"! لم يخفف المشي الطويل والارهاق من صفعات ذاكرتي بحكايات الطفولة، واصلنا الصعود الى القمة ونحن نفتش في طريقنا عن جحور الدببة دون ان نعثر على اثرهم. رنت طقطقة حبات سبحة والدي في صدى عقلي وهو يحكي لي حكاية الجندي التائه. بضيق واستياء تساءلت مع نفسي، اين نحن ذاهبون؟ لقد قاربنا الوصول للسماء، ماذا لو خرجت لنا الدبة من بين المنحنيات والاحراش وخطفتني فأتحول الى عشيق لها؟ ثم ماذا لو لم ارُق لها او اعجبها فقد تغرز مخالبها في عنقي وتتركني لحتفي؟ رغما عني ضحكت من تساؤلاتي وهواجسي، هل سأعتبر شهيداً اذا سرقتني الدبة ؟؟ هناك حتما من سيعترض على ذلك. وسيحسدني البعض لاني سأنعم بدفئها، وربما قد يتهمني البعض الاخر بالتواطؤ معها لسرقة عناقيد العنب؟؟ افكار مشوشة اختلطت بمختلف الاحاسيس، ونحن مازلنا مستمرين بالصعود وتسلق الصخور لبلوغ القمة التي لم يكن احداً منا يعلم ان كانت الدببة تسكنها فعلاً ام انها اختارت مكانا اخر.

اصبح الامر سيان عندي وباغتني شعور باللامبالاة ولم اعد اهتم او افكر بالعواقب. تناهى اليّ مرة اخرى صوت ابي وهو يقول:"عند الغسق كانت الدبة تنزل الى القرية كي تسرق الطعام للجندي الذي احتفظت به ودللته "! اتراها حقيقية تلك القصة ام انها من وحي الخيال لا احد يدري؟ لقد مر اكثر من عقدين على سماعي لتلك الحكاية الغريبة، التي حضرت الان في ذهني، وكما سمعتها عشرات المرات من والدي.

صوت احد الرجال قطع علىّ استغراقي حينما قال "لقد وصلنا للقمة ولا اثر لهم هنا "! مكان موحش يخيم السكون والصمت عليه، لا يخرقه سوى خرير الماء وحفيف الاشجار. اكتست ارضه بخضرة مائلة الى السواد، وتناثرت الاشجار القصيرة غير المثمرة التي لا تفقد لونها ولا اوراقها على مدار السنة، وعند اقدام احدى الصخور الكبيرة تفجر ينبوع ماء رقراق، انساب في جدول تملأه الاحجار التي تضفي على تموجاته ألواناً غريبة، حيث اخترق الارض لعمق لم نتبينه. وقفنا هناك وكتمنا انفاسنا كما اللصوص محاذرين من صدور اي صوت يثير الدببة، واخذنا بالبحث في كل الاماكن المحتملة لاختبائها سواء كانت ذكر ام أنثى او دياسم (**). فتشنا عن اي شئ يدلنا على وجودها دون جدوى، وما ان فقدنا الامل بذلك حتى رغبت بتخفيف بعضا من التوتر الذي اصابنا جميعا ونحن نبحث عنهم، فخلقت جوا من المرح والمزاح استعنا به على النزول.


(*) الجحوش .. هم الكورد الذين كانوا يتعاونون مع السلطة
(**) دياسم : صغار الدب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى