أمل الكردفاني- خداع النفس .. يجب إضافته كاضطراب عقلي

قال تعالى:
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) البقرة).

قرأت قصصاً عديدة للأدباء الروس كتولستوي وشيخوف وغوركي عن خداع النفس. ولأن تلك القراءات قد مضت عليها السنون، بت أتذكر نخاعها دون الكثير من التفاصيل، فمثلا؛ لن تجد ألطف من قصة الفتاة التي تعيش لوحدها والتي وجدوها ميتة في غرفتها وحولها عشرات من خطابات الحب المرسلة إليها، وليتوصلوا لأقاربها كي يستلموا الجثة، أمضوا زمناً طويلاً في تتبع الشخص الوحيد الذي أحبها وأرسل لها تلك الخطابات.غير أن النهاية كانت مفاجئة، إذ تبين أن من كان يرسل لها تلك الرسائل الغرامية هي نفسها. فالفتاة لم تجد بُدَّاً من الحياة داخل خداع النفس لكي تتمكن من تحمل الوحدة. وفي رواية اناتول فرانس الآلهة عطشى تنتهي الثورة بأكل بنيها بعد صعود المرتزقة والانتهازيين، وفي الكل ضد الكل لآدموف يضحي البطل بنفسه لحماية المهاجرين الذين كان يقتلهم، وفي الوحوش الزجاجية لتينسي وليامز تكتشف أماندا وأبنيها خداع النفس بعد فوات الأوان، وفي عالمنا الواقعي هناك كثيرون يعتقدون أنهم مطربون عظماء حينما يغنون في الحمام، وهناك من يقضي دهراً من عمره وهو ينتظر السلام الإنساني، وبعضهم يقدس تعاليم ماركس تقديس الهندوسي لبقرته، ومثلهم غالبية مؤمنة أيمانا لا يقبل الشك بأن هناك ما يسمى بديموقراطية وحرية، وهم يتعرضون يومياً لغسل أدمغتهم منذ ولادتهم عبر المؤسسات الدعائية العالمية...ولذلك ليس غريياً أن تحتشد كنيسة صن مون بالمتعبدين باعتباره المسيح الموعود. سألت صديقة عن الكلام الخطر الذي أخفيه لأن إعلانه قد يفضي لقتلي، فأجبتها بأن ما يجعل أي كلامٍ كلاماً خطراً ولو كان تافهاً هم من يمتلكون (السلطة والثروة)؛ وهم أنفسهم من يستطيعون تبخيس الكلام الخطر عبر تجاهله وإخفائه داخل موجات من الضجيج المزعج من المقولات الإنصرافية. والشعوب هي أكثر من يخدع نفسه، إذ أنها ترفض الحقائق كي لا تقع في الإحباط...، إنهم يصدقون كل الأكاذيب الإيجابية ما دامت تمنحهم التفاؤل والأمل. فالغناء في الحمام ليس حكراً على الأفراد. هكذا يؤكد جوستاف لوبون وفرويد..وعلم الاجتماع. ثم يتأكد ذلك بالعمليات النفسية الإحتيالية التي تقوم بها الحكومات على الشعوب فتديرهم إدارة تحقق مصالح الفئة المسيطرة.
إن بث خداع النفس اليوم أصبح علماً كاملاً له أصوله وأدواته ومناهجه، كما تم خلق جمهوره في ساحة الرقص، ومناصريه، وآكلي ما يتساقط من بقايا الفضلات.
تنتهج الرأسمالية نظرية إقتصادية تقول بأن العرض هو ما يخلق الطلب وليس العكس، وفي نظرية التحكم، تحوسب التكنولوجيا الإنسان بدلاً عن أن يحوسب الإنسان التكنولوجيا، وتقوده هي بدلاً عن أن يقودها هو. وهو مناط الكثافة الرأسمالية التي تزيد من تخزين الثروات (ومن ثم السلطة) في يد قلة قليلة لا تقبل بدخول آخرين لحقل الألغام الذي تحيط نفسها به. فمثلاً: تمتلك دول الخليج ترليونات الدولارات كودائع في البنوك الأمريكية، لكنها حتى الآن لم تفكر في إنشاء مجرد برنامج صغير منافس للويندوز، فهذا ممنوع عليها كما كان ممنوعاً على محمد علي باشا، حينما بدأ الثورة الصناعية العسكرية في مصر، فتمت محاصرته ووقف نشاطه الطموح بأوامر وتهديدات أوروبية مباشرة.
ولكن الشعوب لا ترى أبعد من أرنبة أنفها، فهي لا ترى الهيكل الهرمي للسيطرة على العالم..حيث القمة التي تملك كل السلطة والثروة والتي تقوم بتوزيع القليل منهما والكثير من الأدوار على من هم أدنى منها لتحشيد المغفلين النافعين.
العالم اليوم مؤدلج بالكامل بالآيدولوجيا الكاذبة المصدرة عبر الإعلام الدعائي، ومقاومة هذه الأمواج العاتية ضرب من المستحيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى