إبراهيم محمود - النص بوصفه الآخَر دائماً

من بين أكبر الإساءات إلى النص، وربما أولاها، هي في اعتباره نصاً واعياً، وكونه النص الذي يكتبه كاتب ما، مهما كان مقامه عالياً، أو ذا باع طويل في الكتابة. إذ إن الذي يمكن القول فيه، مع التأكيد، وهو أنه الآخر دائماً.مبرّر هذا القول هو ما يلاحَظ من كتابات، دون تحديد أي منها، حيث لكل منها سهم من الانزياح عن الحقيقة الخارجة عن التملك، وإسهام في إنتاج الخطأ الذي يلقي بظلاله على كامل ما يُكتَب، إذ الكتابة هنا تتقدم باعتبارها نصاً، وأن لحظة النظر المباشرة فيه، سرعان ما يتبين حجم هذا الخطأ الذي لا يتخذ إيقاعاً واحداً، أو تلويناً معيناً، في المساحة المعطاة للنص، والتي تتمثل في عدد كلماته، بدءاً:
- من العنوان الذي لا يُغفَل عنه، ولا يغفَر له، إن نُظِر في أمر المكتوب، بعنوانه المعلوم، أو الصريح الفصيح، كما يُتقدَّم به، جرّاء هذا المبني عليه نصاً.
- وباسم إرادة واعية، ليتلبس الإثم النص، كما هو الخط البياني الذي يستقيم، أو ينحرف، أو يتقطع، وما في ذلك إلى أوجه الخلل في بنية الكتابة منذ تحديد العنوان، وما ينطوي عليه من حمولة معرفية ودلالية معينة، كما لو أنه البوصلة التي يهتدي بها الكاتب.
- ومن ثم الإقبال على الكتابة المتمحورة حول موضوع معين، وهو بطابعه الفلسفي، التاريخي، الاجتماعي، الفني، السياسي، التربوي، العلمي، والنفسي...الخ.
- ووفْق مخطط ذهني، ربما يجد صورة له مرسومه على الورق، من خلال إشارات أو علامات معينة، أو نقاط استناد، تمثّل مجموعة الأفكار الفرعية، أو العناوين الفرعية، وما تنطوي عليه من تحديدات نصية، تتلاقى في النهاية المفترضة، حيث ينتهي الكلام، أو تتوقف الكلمات المفصحة عما يُسمى بـ" اكتمال " الفكرة، وجلائها في تلك المساحة الحسية .
يبدأ المشكل من بدء التفكير في الموضوع الذي يتعايش الكاتب وإياه، انطلاقاً من جملة/ لائحة تصورات ذهنية، يطلق لها العنان، ضمن فضاء تخيلي، في حيّز زمني معين، واعتماد اقتصاد معلوم لديه، يسمّي عناصره، وكيفية تحريكها، وحوامل هذه العناصر من الكلمات التي تتراوح بين الجمل الفعلية واستغراقها لأزمنة مختلفة، وجمل اسمية، ذات علاقة بطبيعة الموضوع، وهو موضوع لكاتب معين، في مكان معين، في زمان معين، وبلغة معينة.
التحديد للبدء الذي يرسم مؤثّراً نفسياً معيناً لدى الكاتب، وذلك الرهان الذي يتقدم بالكاتب على أنه الصواب فيما ابتدأ، وصولاً خطياً معينالً إلى النهاية، وذلك اليقين الذي يترك صدى نفسياً آخر في واعية الكاتب، وهو أنه قد أعطى الموضع: النص حقه سرحاً، تفسيراً، تأويلاً، وتلك الهجنة التي تقوم بين هذا الثالوث، ليتنفس الصعداء تالياً، وهو في داخله يحتفي بـ" وليده " النصي، أو نصه الذي يُذيّل باسمه أو إمضاءته، أو حيث يتحرر باسمه بمفهوم تملكي.
صفة الملّكية لا علاقة لها البتة بالمفهوم العام أو الخاص لما هو مادي، كامتلاك عقار، وتسجيله باسم مالك معين، وقد بلغ كل ما يخص مشروعية امتلاكه الشخصي: النّصاب، فهنا، يتحدد موقع البيت/ العقار في مساحة معينة، ومواصفات هندسية معينة، ليكون الشخص الذي تعود إليه ملكية العقار: مالكاً فعلياً.
في حال كتابة النص، لا مجال البتة لأي إجراء من هذا القبيل. ليس من عقار، يفوّض أحدهم، بذاته ولذاته،حق اعتباره عائداً إليه بصفة قانونية، وما يترافق مع ذلك من شعور بالراحة النفسية ذات الصلة بتأكيد الذات. إنما هناك اللامجال، إن جاز التعبير، والذي يشير إلى أن المدوّن تحت مسمى النص،أبعد ما يمكن عن خاصية الملْكية، أبعد ما يمكن توصيفه بأنه الباعث على تلك الراحة النفسية، كما لو أنه قد أنجز مهمة معينة، وبنجاح .
النص يتقدّم في كل أسمائه ومسمياته، من أول نص حرّر في التاريخ اللامعلوم للبشرية إلى آخر نص مطروح للقراءة، في منبر معين، أو ضمن كتاب ما، نص لا ينفذ إلى الحقيقة، بوصفه النص الذي يقرَأ منسجماً، أو هارمونياً، وكونه لا ينفد قراءة، أو مناقشة، من باب التعزيز لمقوله على أنه النص بوصفه الآخر، وليس ما اُعتبِر، حتى وهو غفْل من الاسم، ذلك النص الذي يبعث البهجة أو الحبور في نفس كاتبه. إننا إزاء مسافة لا يمكن المساومة عليها بتعيينها كإحداثية جغرافية: مكانية، بمقدار ما تتعرض للتمدد والتجذر الدائمين، أكثر من خاصية الحرارة والبرودة في الأجسام المعدنية خارجاً.
ماالذي يسوّغ اعتبار النص بوصفه الآخر دائماً ؟
إنه النص نفسه، الذي ما أن يفكّر فيه أحدهم، دون تحديد لموقعه الثقافي، مهما تحدَّد من تفاوت بينهما، حتى يخرج عن طواعيته، حتى يصبح المجهول أكثر من كونه المعلوم.
إن سؤالاً كهذا: من الذي يكتب النص، نصاً؟ ربما يسمّي جوابه سريعاً: إنه " فلان "الاسم واللقب، والمهنة كذلك!ّ
لمن يُكتَب هذا النص؟ لا بد أن الجواب المتعلق بسؤال كهذا، حاضر، شأنه في ذلك شأن سابقاً: للآخرين، أو إنه يُطرَح للقراءة.
حسنٌ. منذ متى كان النص المحرَّر بالطريقة هذه، يصار إلى تصديقه على أنه المعهود به إلى الحقيقة، وما في هذه الإحالة من ثبات النظرة، وزخم اليقين على أنه النص المتماسك، العميق، المحاط به فكرياً من جهاته كافة؟
لدينا هنا أكثر من وهم نفسي، اجتماعي، تاريخي، وتربوي، يقف وراء تفعيل النص بالطريقة هذه وطرحه للقراءة التي تعني في الحال أنه كتِب باسم شخص محدد، وأن ما كتِب يعني جمعاً معيناً، وهو ينطوي على مفارقات واختلافات مواقف، وأن مجرد التفكير في العلاقة هذه، يحيلنا إلى حكم الغائب وليس الحضور للآخر: القارىء.
النص بوصفه الآخر، هو النص الذي يثير داخله فكرة لا ترتهن إلى شخص يتحدد باسمه، لأن الكاتب أبعد ما يكون عن اعتباره العالِم المدرِك، الواعي لموضوعه، بما أن بنيته/ تركيبته النفسية معقدة، وأن لكل منها، طبقاتها، أو أغوارها، وتبعاً لمجتمعها، ونوعية ثقافتها، وأسلوب الكتابة بالمقابل، ويبقى القاسم المشترك بينها في مختلف الحالات، هو أن النص المحرَّر هو الآخر، وذلك من جهتين" الآخر المركَّب ":
من جهة الكاتب، حين يقبِل على مباشرة الكتابة وكله عزيمة ووضوح رؤية، كما يزعم، على أنه يدرك ما يبحث فيه، في مختلف أبعاده وأطوار موضوعه " إن اعتبرنا النص كائناً حياً، يُراعى فيه ما هو عضوي، ليُعايَن في ملامحه، وصفته الحيوية، ودون ذلك لما اعتبِر النص جسداً ". في العالم النفسي للكاتب، كما تقول طبقاته النفسيه، حتى حامل " أناه " لا يمكن الرهان عليه، على أنه يحيط علماً فعلياً بما كان، وهناك ما يشدنا إلى القاع الخطِر والعميق الغور" الهو " هناك العالم المجراتي الذي يستحيل تسميته في مكوناته " الأنا الأعلى: المجتمع " وهو مجتمع يتعدى كل تحديد له.
ربما بالطريقة هذه، يُستَحسَن الحدث على أنه النص الذي يكتب في حاضر معلوم بتوقيت ومكان معلومين،سوى أنه جهة الكتابة وموضوع الكتابة جنساً ونوعاً، ينتمي إلى عالم هو في حكم الغياب، أو الآخر، أكثر من كونه المعطى الحسابي الذي يسهِل على الكتابة التصدي لموضوعه، دون تحديد محتواه.
نعم، في وسع الكاتب أن يتحدث، عن أنه صاحب النص، وأن من حقه أن يثبت عليه اسمه، وأن ينسبه إليه في مقال، أو بحث، أو دراسة.. تلك إجراءات يمكن اعتبارها شكلية، أي متَّفق عليها إجمالاً، إنما ما لا يُنسى، ومالا يجب أن يُنسى هنا، هو أنه في نصه عن مسألة عائلية عائدة إليه، لوقوع مشكل، أو خلاف، يمكن حله في مدة زمنية معينة. إنه خلاف تنعدم فيه الذاتية المحضة، وتتراجع فيه " الأنا " إلى الوراء تحت وطأة حضورات قوى لا تُستنفَد، أو تتم حيازتها، هي قوى أخرى، لآخرين، مهما قل عددهم أو كثر. قوى هي سلطات متفاوتة، وبينها صراعات، دون مراعاته، لا يمكن الإيذان للنص أن يأخذ طريقه الفعلي، الطريق المشجع على سلوكه إلى مدينة القارىء، ريفه، غابته، واحته، حقله الاجتماعي، وموقعه...الخ
هنا، لا يجري الحديث عن تصدعات النص، ثغراته، أو ما يدخله في حكم " الاستقراء الناقص "، تلك بداهات، أعتقد أنه ينبغي التسليم بها، إنما يتمحور الحديث عن هذا الآخر الذي يكونه النص، وأن النص إذ يعاش من الداخل، كما تتم مكاشفته من الخارج، كحاضرة مكانية معينة، ومؤرَّخ لها زمانياً، لا يتآلف مع كاتبه، أو يقر له بحقوقه الذاتية، جهة حرية التصرف فيه، بما أنه مفكَّر فيه، وداخله مجتمع مقدَّر، وليس معرَّفاً به، كما لو أنه مرئي من ألفه إلى يائه.
نص الكاتب هو الآخر الذي ما أن يباشر فيه منذ لحظة التفكير الأولى، منذ المعايشة الشعورية الأولى، حتى يتسم بتلك الخصوصية المعتبَرة في استقلالية الاسم والملْكية المانعة، يكون للكاتب حصة فيه ، وإن كان مشدوداً إليه، كي يتدبر أمره بمزيد من التروي، ومزيد من أخذ ما ليس من حقه التصرف فيه، والتشديد عليه في الحسبان.
النص بوصفه الآخر، هو يحرَّر باسم معين، ولكنه العصي على الامتلاك، مساحةً، رؤية، عمقاً، وفضاء، لأن الذي يكتب ليس كالذي يُرى ويُصافَح في البيت أو الشارع، إنما هو البعيد جداً عنه، كما هو اسمه وسجله الرسمي.
هذا الآخر الذي يشار إليه هو ما يمكن التأكيد على أنه مدخلنا إلى النص، إذ يجعلنا أغنى لأنفسنا وتجاهها ومع الآخر.
النص بوصفه الآخر ليس رسالة، ليس تعميم حقيقة، إنما حديث افتراضي عما يسهّل علينا دخول التاريخ بصواب أكثر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى