إبراهيم محمود - اعترافات قملة.. قصة قصيرة

لا بد أن أكون محلَّ استغراب ممن يعتبِر نفسه الوحيد الذي يتكلم، أن له لغة. يا لأنانيته! منذ متى كان الكلام حكراً يتوقف على الداب على اثنين فقط؟ نعم، نحن معشر القمل لنا أيضاً لغتنا، طريقتنا في الحياة، أسلوبنا في التعامل مع بعضنا بعضاً. أتكلم، لأنه يجب علي أن أقول ما يعنيني ككائن حي، وأعبّر عن قمليتي، كما أنا وليس كما لست أنا، وقد كان علي أن أتكلم قبل الآن، سوى أنني ما كنت أحب الكلام، لكنني أنني وجدت ضرورة لأن أتكلم.

سأبدأ من هذه النقطة، حيث أكون: يسمّيني من يعتبر نفه الوحيد الذي يتكلم " حشرة "،وما أن ينطقها ، حتى يعبّر عن احتقاره لي، لأنني أعرِف إلام يرمي، أي عديمة القيمة. يا للمستبد. أنا لست حشرة في حقيقة أمري، وإذا كنت أصنَّف في عالم الحشرات، فليس بالصورة التي نقدَّم بها، والتقويم الدوني الذي نُشمَل به.

أكثر من ذلك، حين يجري توصيف القمل بأنه من " الحشرات الطفيلية والضارة ". من أين جاء بهذا التوصيف ؟

هل حقاً أنا طفيلية؟ وماذا يسمّي نفسه:الكائن الإنساني الوحيد الذي يعرف ما يريد، وماذا يفعل ؟ أحقاً تنتفي فيه الطفيلية والضرر؟ أحقاً يعرف مايريد، وما يفعل كذلك؟ وماذا يُسمي هذا القتل الذي يعرَف به أكثر من غيره، حتى في بني جنسه؟ ماذا يسمّي تطفله الكبير على سواه؟

ومن أين جاء بصفة " الضرر "؟ أليست هي طبيعتي؟ ألا يناقض هذا الذي يعتبر نفسه سيد المخلقوقات، وليس هناك من أساء إليها جميعاً مثله؟

إذا كان هناك من يُسأل ما إذا كنت حشرة طفيلية وضارة بالفعل، أن يسأل خالقنا جميعاً. هو من خلقه، ومثلما خلقه خلقني. ووهبني سلوكاً حيوانياً معيناً، أتميز به، مثلما ميَّزه بسلوكات معينة. فلماذا يتعالى علي، ويستخف بي إلى هذه الدرجة، إذ يتقزز مني، وما أن يسمع باسمي، أو يراني حتى يتقزز مني؟

لست أنا من فعل ويفعل ذلك. هذا مقدَّر عليّ من قبل من خلقني. ولا أخالف سلوكي، لا أغيّره، أو أتنكر له، كما يتنكر لأفظع الجرائم التي يرتكبها، أو يبرّرها.

مثلما كانت القملة الأولى في الخليقة، هكذا أنا. إنني أخلص لأسلافي من القمل، ولا أحيد عن طريقهم، وليس كما يبدّل هذا المغرور بنفسه سلوكه، كلما رأى في ذلك،ما يصله إلى بغيته.

أن أكون حشرة طفيلية وضارة، فذلك لا شأن لي به، إنما هو طبعنا نحن معشر القمل الذي لا يتغير ولا يتبدل. إن الحديث عن أول قمل كالحديث كآخر قمل، والعكس صحيح. لا نحب الحديث عما نقوم به، إننا نتنشط في صمت. هكذا نحن، وليس بإثارة الضجيج، كما يفعل الداب على اثنين .

أما عن كوني حشرة طفيلية، فالجميع على علم تماماً، أن قصده هو أن أعيش على الدماء، أنني أمتص دماً من فروة رأسه.

كيف تكون النتيجة إذا قارن بيني وبين فعله وهو يمارس القتل حتى في أقرب مقربيه، إذا ركبته شهوة القتل والضرب والتشفي؟

لا أقوم إلا بدوري، لا أميّز بين رأس كبير أو صغير، خلافه طبعاً، بين رأس رجل أو امرأة، خلافه طبعاً، بين رأس غني أو فقير، خلافه.

نعم، أعترف أنني أمتص الدم من فروة الرأس، كما هو حكْم الغريزة التي تجعلنا نحن معشر القمل معروفين، محافظين على سلوكنا لا نجري فيه تبديلاً، خلاف هذا الذي لا يرى أي مانع لديه لأن يبدّل، ويفعل في قريبه، أو جاره أو أي كان من بني جلدته، الفظائع وعِظام الأمور، وهو يسفك الدماء. أم عني فليته يعلم أنني لا أضر حصراً، إذا تمت مجاراته لبعض الوقت، إنما أفيده، إن نقطة الدماء التي أمتصها على مراحل، وأنا ألتصق بفروة رأسه، تكفيني لزمن طويل، ولا أهرق دماء غريزة مثله، ونقطة الدم تلك، ربما تترتب عليه فائدة صحية.

لكم يستلذ في قتلنا. حين يمسك بأي منا، وفي أقل من ثانية " طَق " بين إظفريه، وينتهي أمره، وهو يُمعَس أو يفقع، أو يقضي على جمع لنا في رأسه، بمبيد يُسمّيه " المبيد الحشري " . يا له من متعدّ على الحقيقة، وهو يعمل فينا إبادة!

لو أنه قلَّدنا في بعض مما نعرَف به، لكان أكثر فائدة لنفسه ولبني جلدته، لكنه يتعالي على كل شيء، حتى على نفسه.

ما أن يحك جلده، حتى يصرخ فزعاً: إنه القمل،ـ ويبدأ بهرشه، ويبادر سريعاً إلى البحث عنا وإعمال القتل فينا، أو كما هي مفردة العزيزة عليه كثيراً في الذين مثله " إبادته ".

مذ كنا، هكذا نحن، في المكان نفسه، والأسلوب نفسه في الحياة، ولنا بيئة ثابتة،وهو، وإن كان يُسمي لنفسه وطناً، لا يجد مانعاً في أن يغيّر مكانه أو وطنه، ويتنكر حتى لقرباه كذلك، ولم نتصرف مثله يوماً، لا أي يوم .

نعم، اسمي قمل، أو قملة، وربما لو كنت أكبر من ذلك لكان لي اسم آخر، ولا شأن لي بهذا الاسم، فهو من أطلقه علي، هو من وضع لي تصنيفاً، كما حدَّد أوصافاً لي، كما حدد طريقة تعامل معي في التخلص مني، ومنح نفسه الاسم الذي جعل منه حجة ليُسمي نفسه الكائن الذي لا مثيل له. ليته اعترف مثل أي منا نحن معشر القمل، بما يرتكبه من فظائع، لعلِم أكثر مما يعلمه الآن، ولكان موقفه مني ومن كل حي، وحتى من خالقنا جميعاً، غير ما هو عليه الآن كلياً.

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى