جمعة شنب - خَلاص.. قصة قصيرة

لقد بلغ السيل الزّبى! والهرولة في هذه الدقائق أمرٌ حميد...
الرّجل الذي خِلته حبيبي لسنة كاملة، جلفٌ ودقيقٌ بصورة تفوق الوصف. كما انّه لا تفوته شاردة ولا واردة..
والحقّ أنّه لم يعتد التبجّح بذلك، لكني كنت أرى ذلك الإدراك في عينيه اللّئيمتين. ولقد أحسستني دومًا عاريةً أمامه، ومذعورة.
إنّ مثل هذا الرجل لا يصلح حبيبًا: ربّما، لو عمل محقّقًا في دوائر الأمن، لحظي برتبة رفيعة، ولأقل: لو اختصّ بالتحقيق مع النساء الجامحات، كان حقّق انجازات مبهرةً للدّائرة التي عمل لديها.
انتهيت منه الآن. لن ألتقيه بعد أبدًا، ولو نازعتني إليه نفسي اللوّامة، ولهفت للقياه. ولو طار بي الشوق الجارف لذلك الإحساس الدنيء، إذ تخدرّ روحي، وتلتذّ أنوثتي شعورًا بالضعف، بل بالشلل التامّ في حضوره: هذا الرجل تملّكني، واغتصبني بصمته وقوّته. ولقد أمضيت سنتي مبعثرةً عاجزة. لقد أدمنت الشعور بالعجز بين يديه. أيّ رجل مجرم هو!!
لم يرحمني مرّةً واحدةً في لقاء أو حوار أو مكالمة هاتفيّة. بل لم يرحمني في مناماتي. جاءني غير مرّة، متماسكًا، آمرًا، ناهيًا، ينطق بالحكمة. ودومًا كان رابط الجأش وصارما.
هذا الرجل يعرف كلّ شيء.. كلّ شيء يخصّ المرأة، ولا يمكن الإفلات من براثنه. إنّه كائن مصبوب من الفولاذ الخالص.
لطالما حاولت نسج كلماتي وترتيب افكاري بصورة توحي بالثقة، لكنّه كان يدمّر كل تحضيراتي، ويخترق جدران مناعتي، ولا يعلّق. كان غالبًا ما يقفز عن الموضوع، ويضيعه في قصّة من قصصه الأسرة، فأعلم أنه إنّما لم يبتلع روايتي، ولم تنطل عليه حيلتي، وأنّه إنّما استهان بأمري، ورآني امرأة بائسة، كخرقة تبادلت على استخدامها عائلات ممتدّة.
صدّقوني: حبيبي هذا سافل، ومتمرّس في القسوة. ولطالما تساءلت: هل لمثل هذا المخلوق أن يخطىء؟ أبدًا لم يسقط في هنة عابرة، مع كل تشعّبات أحاديثه الشهيّة، الآسرة. لم يتأتئ، لم يتردّد، وسيّان إن حدّث وعيناه ساهمتان، أو محدّقتان في عينيّ. إنها ثقة لا تدانيها ثقة رجل في العالم، ثقة مترفّعة ومقرفة، ترغم السامع على الصمت، مأسورًا، مشدوهًا، لاهثًا وراء المزيد..
وحبيبي لم يكن مملّا في سرده. بل لم يسمح لي لحظةً بإحساس من هذا القبيل.. ربّاه ! كم أمقت أسره وقيده الذي طوّق خاصرتي، وخواصر أهلي وصديقاتي وجاراتي على امتداد عام حافل !!!
حبيبي سافل.. قاسٍ ومستقيم للغاية، برغم أنّ كثيرًا من أقواله وفعاله تصدح - بمهارة- بالفجور. لكنّي لم أملك إلّا أن أعجب من ذاتي التافهة، كيف تُجلّ فسوقه، وتؤمّن على فعاله الشنيعة، لا سيّما حين يروي لي بعض تجاربه مع امرأة أخرى، جرؤت وسألته عن قصّتهما معًا.
كلّا لم يرحمني. كان يتدفّق كسيل عرم في سرد تفاصيل، لا تخطر ببال بلهاء مثلي. وكنت أتميّز غيظًا، لكني -أبدًا- لم أجرؤ على الاحتجاج على كثير من المواقف المدينة التي قام بها، لا بل جاهر واسترسل في الحديث عنها، بحياد مقيت، كأنّما هو يمتلك الحقّ، ويفعل الحقّ، ويحكم بالحقّ، أوليس الله وحده الحقّ!
كنت أمقت أقواله وفعاله في قرارة قلبي الضعيف، لكنّه لم يترك لي ثغرةً واحدةً آتيه منها. إنّه يقرأ ما في خلايا دماغي، وقبل أن يتبلور لي موقف، وقبل أن تصل الحروف طرف لساني السقيم، يكون قد صاغ أسئلتي وأجابها وأخرسني، لا بل غيّر موقفي من الاحتجاج إلى التعاطف والموافقة، بل والتسليم بأنّ ما قام به ما كان ليكون غيره..ألم أقل لكم إنّه رجل محكم ككبسولة فضائية؟ إنّه ببساطة لا يكذب !
نعم هو محكم ومعتوه في آن. فأيّ معنى لكل هذه الدقّة والترفّع والثقة والأنفة؟ وهل تتطلب الحياة كل هذا التزمّت والمصداقيّة؟ لقد خيّل إليّ -غير مرّة- أنه رجل- برنامج، لا يعتريه النقص، ولا يحمل مثل جيناتي، أو حتى جينات نادل المقهى الهادئ الذليل.
إنّ أنفه دقيق، وشعره مصفّف بعناية، وملابسه منسّقة بصورة تبعث على الطمأنينة، وتوحي بذوق رفيع. إنّ حركاته مدروسة بعناية أيضا، وليس في عينيه أيّ تعبير شاذّ. كلّا ، إنّ عينيه رهينتا لسانه، موظّفتان منافقتان ومخلصتان، تتآمران معه على المتلقّي، عليّ أنا، فأحسّ بقهر دفين، حين أراه كاملا متكاملا..
كنت ككرة قدم منفوخة جيدًا، تتطوطح بين رجليه برضا. هو جميل بشكل ما. ولماذا (بشكل ما) هذه؟ انه جميل بالمطلق. (بشكل ما ) تعبير يليق به، ولا يليق بي. تخيّلوا: لقد رحت أسرق كلماته، فلا أجد لها موضعًا، حتى أردّها إليه، وأعود سيرتي الأولى: كرةً منتفخةً بانتظار الرّكل. وأنا امرأة -شأن كلّ نساء الأرض- من لحم ودم ومشاعر جياشة.
إنّه أنيقٌ، كثير الأناقة، وسيمٌ جدًّا.. حذار أن يتورّط أحدكم بالقول إنّه رأى وسيمين كثرًا، من أولئك الذين على التلفاز وأغلفة المجلّات..إنّ عليكم أيها البلهاء! إن تروا حبيبي حتى تفقهوا ما أقول.فلأهرول إذن...
حبيبي كامل، كاملٌ لدرجة تثير الغيظ والحنق والشعور بالنكوص..إنّه رجل قادر على هزيمة إحدى عشرة امرأةً، وثلاثة وعشرين رجلًا في آن، حين يلصق سبّابتيه بإبهاميه، ليشرع بالكلام، فلا عجب أن هزمني، وفي كلّ الجولات. إنّه محاضر جاذب طاغٍ، وإنّه محارب ماهر، يعمل بمهنيّة عالية، على كلّ أشكال الأسلحة والحمير والضفادع. يتحكّم بكمّ الأكسجين في رئتيّ سامعه، يخنقه لثوانٍ، ثمّ يمنّ عليه بأسباب الحياة جميعًا، يسقيه ماءً وقهوةً، ويقدم له سيجارةً في وقت مفصليٍّ دقيق، ويأتيه بكلام إنسانيّ رخيم، يعجز عن صوغه شاعر ملهم..حبيبي ملهم، ومتسلّط، وصادق.. رجل ذوّاق، تجري الفلسفة على لسانه، جريان الموت في دورة الحياة..
أنا انتهيت من هذا المخلوق الآثم للتوّ. قلعته من قلبي، كما تقلع ريح عاتية شتلةً عابسةً في صحراء نائية.. إنّ أيّ امرأة في موقفي كانت ستفعل ما فعلت، وربما لا تفعل متحاذقة.
أنا لست حزينة، إنّما فزعةٌ ومهتاجة، وأرغب في انتزاع كومة شعر من ناصية مديرتي في العمل، وإحراقها أمام زميلاتي. تراودني أيضًا رغبة في الرّكض: لم تعد الهرولة مجدية. أريد ان يبلّلني العرق، حتى يصبح قميصي منشّىً وخشنًاً، ينهش لحم ظهري.
وبي رغبة بالحملقة في وجه أمّي أيضًا، والتهكّم عليها، حين تطلب منّي اصطحابها إلى بيت خالي. أنا لا أحبّ أمّي. أمّي امرأة رعناء متصابية، حرصت كلّ الوقت على أن أظل خادمتها البكماء. لم تقلقها يومًا -كباقي الأمّهات- عنوستي، لا بل إنّها حرصت عليها. فلقد وقفت سدًّا في وجوه ثلاثة رجال تقدموا لخطبتي: اثنان منهم موظفان مستقلّان ورصينان، أحدهما يحمل شهادة عالية، ولديه راتب شهريّ محترم، كما إنّه أنيق أيضًا.
أنا لست آسفةً على حبيبي، ولا على هؤلاء المجانين الثلاثة. لكني سأحرص على مدّ لساني كلّه في وجه أمّي اليوم. سأفعل ذلك بصورة مقزّزة، وسأصرخ، وأبالغ في علوّ صوتي. وليأت من شاء من العائلة والجيران وخلق الله الفضوليّين، لمشاهدة تلك اللحظات التاريخيّة. ولماذا لا تكون تاريخيّة وقد تقيّأت حبيبي المفزع؟
انتهيت منه: كنّا في مكان شبه معتاد. التقينا فيه سبع عشرة مرة: مقهى متوسط، يعرف ندله اسمينا، ودومًا يوحون إلينا بأنّهم إنّما يعاملوننا معاملة استثنائيّة، ويتحاذقون بتذكّر قهوتنا: وسط مغليّة بشكل مبالغ فيه له، ودون سكّر لي..
سبق وقلت انّه رجلٌ آثمٌ وحكيم. لم ينشئ حوارًا قطّ إلا وأشبعه. ولم يفتح دائرةً إلّا وأعمل فرجاره المدبّب في إغلاقها. وعندما أخذنا موقعنا المعتاد على الطاولة الصغيرة المستديرة، والكرسيّين الخيزرانيّين، بدا كما عهدته. ولقد هيّأت نفسي للاستماع إلى بعض تفاصيل أيّامه التي لم نلتقِ خلالها، قبل ولوج مسألة جدليّة، كثيرة التفاصيل، من مسائله اللّامتناهية. هكذا أنا في كلّ لقاء: كلام عاديّ موجز، ثمّ لكمات معتبرة، تترك أثرًا في نفسي، وترسم ملامح جديدة للرجل.
هو نبع لا ينضب، على عكسي أنا الضّحلة المعرّاة. وكلّما التقيته، ظللت في انتظار اللّقاء القادم، عطشى تلاحق سرابًا واعدا.
هذه المرّة لم تمض دقيقتان حتّى قال لي إنّه يريد الزواج منّي!! نعم. للمرّة الأولى خلال سنة وتسعة أيّام، قال لي، بحدّة وحزم ورشاقة وثقة، انّه يريد الزواج منّي، فما وجدتني إلّا وقد انتصبت كملدوغة، وشتمته في أهله، شتيمةً لم تجد لها موقعًا لائقًا أيضاً. وحملت حقيبتي، وحثثت الخطى إلى الخارج، و ظلّ هو في المقهى.
سأظلّ أركض في الشارع الطويل. لطالما وددت ذلك. وأظنّها السّاعة الأنسب!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى