وقد العقل وحطب الوجدان في ديوان " مخبزة أونغاريتي" للشاعر محمد عرش
"مخبزة أونغاريتي" الديوان الشعري الخامس للشاعر محمد عرش،وقد جاء في حلة أنيقة، من الحجم المتوسط، عن مطبعة دار المنهل سنة 2018 ( منشورات بيت الشعر في المغرب). يقع الديوان في سبعين صفحة، يضم بين دفتيه سبع وعشرين قصيدة.
حين تقبل على قراءة قصائد الديوان، تشعر بمتعة تغمرك من الداخل، وتحس بغبطة تتسلقك من الباطن، متعة يخلقها هذا النضج الشعري، الذي يطالعك به الشاعر، عبر لغة رمزية ثخينة، لغة جيدة السبك، حسنة النسج. الكلمة في الديوان تشع بدلالات كثيفة، تومض ولا ينتهي ومضها عند حد، وتبرق ولا يقف بريقها عند مدى. لغة منسابة، تتفجر من وقد العقل، وتتدفق من حطب الوجدان..
الصخر، جبال، أوتاد
تشد الأرض إليها،
لكن النحات
هاجر في حذاء هرقل
وحط الكون على كتفي حارس،
تسلل لرؤية معشوقته. ص 9( باب الماء).
وعبر صور شعرية مبتكرة، تتركب من عناصر متباعدة، يشعل المشهد بألق المجاز، وتتشكل من مكونات متنافرة، تلهب اللوحة بجذوة الاستعارة، "داخل علاقات فريدة (خارج المعهود والمألوف) تذيب التنافر والتباعد، وتخلق الانسجام والوحدة" حسب رأي جابر عصفور في كتابه "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب".
صور تتولد من تأمل عميق لمعطيات الواقع، وتخلق من إمعان دقيق لتجربة الشاعر في الحياة، بما في التجربة من تكوين معرفي متعدد الروافد، وتحصيل ثقافي متنوع الجسور.
من يمر بأقصى،
وأقسى سرعة،
القطار
أم الحقول؟
أم الأمكنة
أم الذكريات
من وراء زجاج القطار؟!
هناك بئر،
يروي عطش الطيور ص 18 (القصار).
وعبر معاني ودلالات شاسعة ، يوحي إليها الشاعر عبر شبكة من العلاقات والرموز والبنيات والتشكلات المعجمية والتركيبية والبلاغية والتناصية ، التي تذوب و تنصهر فيما بينها في انسجام وتناغم، وتتضافر وتتعاضد في بوتقتها في تناسق وتماسك، لتمنحها عمقا وقوة وجدية، وتعطيها دفعا، وجمالا، وتأثيرا.
العالم حطام قبل الإقلاع،
وبعد الهبوط،
الأرض مأوانا
والتراب لحاف الأضداد
قالها رهين المحبسين
قبل توزيع" رسالة الغفران".
الشعراء،
بدلوا البحر، ببحر،
الموج محا الحلم ص 21 (يوميات محافظ المقابر).
تستهويك هذه المضامين بأفقها الواسع، وامتدادها الرحب، فتسافر بك في آفاق المعرفة ، وتطوف بروحك في مدى الوجود. تسافر عبر الكلمات والأشياء، فيتبدى لك الحزن واضحا.
لماذا،
مطر الحزن،
يسكن كل الكائنات والأشياء؟
جسد شهر زاد ألف ليلة وليلة ص 26( الكلمات والأشياء).
تطوف في أطياف الحب، فيتراءى لك الدم الفائر، والجمال والأكف والبرتقال.
لولا، يوسف
ما كانت للجب دهشة الحب،
لولا السكاكين، والجراح
على أكف الصويحبات
ما اعترفن بنبي الجمال.
ما بين الأكف والبرتقال
مسافات ص 31 ( عكازة تقود الأعمى إلى بئر يوسف).
وهكذا تسير على خطى الديوان، فتتلمس كثيرا من الايحاءات ، التي تغرقك في جمال المعنى، وسحر المغنى، معنى متنوع، ومغنى زاخر بالحياة.
ما بين صفحتين،
خبأت وجهها،
وأمبرتو خبأ ضحكته
في لحيته،
أيهما الأسبق
الرعد أم البرق؟
حين أمطرت
خبأت دفترها تحت المظلة
وايكو في جيوب السرد، ص 34 (أشجار كلية الآداب).
وعبر إيقاع داخلي عذب، جسدته الأصوات من حيث المخارج والصفات، ومختلف أشكال التكرار، سواء على مستوى الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، بالإضافة إلى المتواليات المتوازنة بكل مظاهرها الصرفية التركيبية والمعجمية الدلالية.
هذا الزقاق، يمتد
من أول حرف، إلى آخر الأصابع،
وقد خلفها الغبار
تكمن جملة،
تمتد-بدورها- من أول حرف، إلى آخر الأصابع،
وقد خلفت غبار الحرب، ص 36 ( مجرد وشم).
وكل هذه المظاهر الإيقاعية، ساهمت -بشكل لافت- في بلورة أحاسيس الشاعر، والتأثير في المتلقي تأثيرا، خلق في نفسه متعة جمالية، وتذوقا فنيا، رفع بذائقته إلى مراقي الصفاء، وعلا به إلى مراتب الجلاء.
أقرأ الغيم،
من قفاه
أله رغبة،
في الهطول، أم لا؟
أله رغبة،
في مغازلة القصيدة،
أم لا؟
أقرأ الغيم
من قفاه ص 62 (حبر من شتاء)
يظل الشاعر محمد عرش صوتا متفردا في المشهد الثقافي، وطاقة إبداعية مميزة في حركية الشعر العربي الحديث، له قدم راسخ في مجال القول الشعري، لأنه يخضع تجاربه التعبيرية، لمغامرة التميز والحداثة والتجريب الدائم، بجرأة نادرة، وشجاعة جسورة، سنده في ذلك المعرفة المتنوعة، والثقافة المختلفة،واستيحاء عدد من الصيغ التعبيرية والجمالية كالمسرح والتشكيل والسينما، وغيرها من الصيغ الفنية التي باتت روافد أساسية لكل من أراد أن يضفي على كتاباته التعبيرية العمق والتفرد والانتشار.
عبد العزيز أمزيان
"مخبزة أونغاريتي" الديوان الشعري الخامس للشاعر محمد عرش،وقد جاء في حلة أنيقة، من الحجم المتوسط، عن مطبعة دار المنهل سنة 2018 ( منشورات بيت الشعر في المغرب). يقع الديوان في سبعين صفحة، يضم بين دفتيه سبع وعشرين قصيدة.
حين تقبل على قراءة قصائد الديوان، تشعر بمتعة تغمرك من الداخل، وتحس بغبطة تتسلقك من الباطن، متعة يخلقها هذا النضج الشعري، الذي يطالعك به الشاعر، عبر لغة رمزية ثخينة، لغة جيدة السبك، حسنة النسج. الكلمة في الديوان تشع بدلالات كثيفة، تومض ولا ينتهي ومضها عند حد، وتبرق ولا يقف بريقها عند مدى. لغة منسابة، تتفجر من وقد العقل، وتتدفق من حطب الوجدان..
الصخر، جبال، أوتاد
تشد الأرض إليها،
لكن النحات
هاجر في حذاء هرقل
وحط الكون على كتفي حارس،
تسلل لرؤية معشوقته. ص 9( باب الماء).
وعبر صور شعرية مبتكرة، تتركب من عناصر متباعدة، يشعل المشهد بألق المجاز، وتتشكل من مكونات متنافرة، تلهب اللوحة بجذوة الاستعارة، "داخل علاقات فريدة (خارج المعهود والمألوف) تذيب التنافر والتباعد، وتخلق الانسجام والوحدة" حسب رأي جابر عصفور في كتابه "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب".
صور تتولد من تأمل عميق لمعطيات الواقع، وتخلق من إمعان دقيق لتجربة الشاعر في الحياة، بما في التجربة من تكوين معرفي متعدد الروافد، وتحصيل ثقافي متنوع الجسور.
من يمر بأقصى،
وأقسى سرعة،
القطار
أم الحقول؟
أم الأمكنة
أم الذكريات
من وراء زجاج القطار؟!
هناك بئر،
يروي عطش الطيور ص 18 (القصار).
وعبر معاني ودلالات شاسعة ، يوحي إليها الشاعر عبر شبكة من العلاقات والرموز والبنيات والتشكلات المعجمية والتركيبية والبلاغية والتناصية ، التي تذوب و تنصهر فيما بينها في انسجام وتناغم، وتتضافر وتتعاضد في بوتقتها في تناسق وتماسك، لتمنحها عمقا وقوة وجدية، وتعطيها دفعا، وجمالا، وتأثيرا.
العالم حطام قبل الإقلاع،
وبعد الهبوط،
الأرض مأوانا
والتراب لحاف الأضداد
قالها رهين المحبسين
قبل توزيع" رسالة الغفران".
الشعراء،
بدلوا البحر، ببحر،
الموج محا الحلم ص 21 (يوميات محافظ المقابر).
تستهويك هذه المضامين بأفقها الواسع، وامتدادها الرحب، فتسافر بك في آفاق المعرفة ، وتطوف بروحك في مدى الوجود. تسافر عبر الكلمات والأشياء، فيتبدى لك الحزن واضحا.
لماذا،
مطر الحزن،
يسكن كل الكائنات والأشياء؟
جسد شهر زاد ألف ليلة وليلة ص 26( الكلمات والأشياء).
تطوف في أطياف الحب، فيتراءى لك الدم الفائر، والجمال والأكف والبرتقال.
لولا، يوسف
ما كانت للجب دهشة الحب،
لولا السكاكين، والجراح
على أكف الصويحبات
ما اعترفن بنبي الجمال.
ما بين الأكف والبرتقال
مسافات ص 31 ( عكازة تقود الأعمى إلى بئر يوسف).
وهكذا تسير على خطى الديوان، فتتلمس كثيرا من الايحاءات ، التي تغرقك في جمال المعنى، وسحر المغنى، معنى متنوع، ومغنى زاخر بالحياة.
ما بين صفحتين،
خبأت وجهها،
وأمبرتو خبأ ضحكته
في لحيته،
أيهما الأسبق
الرعد أم البرق؟
حين أمطرت
خبأت دفترها تحت المظلة
وايكو في جيوب السرد، ص 34 (أشجار كلية الآداب).
وعبر إيقاع داخلي عذب، جسدته الأصوات من حيث المخارج والصفات، ومختلف أشكال التكرار، سواء على مستوى الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، بالإضافة إلى المتواليات المتوازنة بكل مظاهرها الصرفية التركيبية والمعجمية الدلالية.
هذا الزقاق، يمتد
من أول حرف، إلى آخر الأصابع،
وقد خلفها الغبار
تكمن جملة،
تمتد-بدورها- من أول حرف، إلى آخر الأصابع،
وقد خلفت غبار الحرب، ص 36 ( مجرد وشم).
وكل هذه المظاهر الإيقاعية، ساهمت -بشكل لافت- في بلورة أحاسيس الشاعر، والتأثير في المتلقي تأثيرا، خلق في نفسه متعة جمالية، وتذوقا فنيا، رفع بذائقته إلى مراقي الصفاء، وعلا به إلى مراتب الجلاء.
أقرأ الغيم،
من قفاه
أله رغبة،
في الهطول، أم لا؟
أله رغبة،
في مغازلة القصيدة،
أم لا؟
أقرأ الغيم
من قفاه ص 62 (حبر من شتاء)
يظل الشاعر محمد عرش صوتا متفردا في المشهد الثقافي، وطاقة إبداعية مميزة في حركية الشعر العربي الحديث، له قدم راسخ في مجال القول الشعري، لأنه يخضع تجاربه التعبيرية، لمغامرة التميز والحداثة والتجريب الدائم، بجرأة نادرة، وشجاعة جسورة، سنده في ذلك المعرفة المتنوعة، والثقافة المختلفة،واستيحاء عدد من الصيغ التعبيرية والجمالية كالمسرح والتشكيل والسينما، وغيرها من الصيغ الفنية التي باتت روافد أساسية لكل من أراد أن يضفي على كتاباته التعبيرية العمق والتفرد والانتشار.
عبد العزيز أمزيان
