إبراهيم محمود - الإيروتيكا بين الكتابة والقراءة..

لطالما كان هناك عقْد قران جنسي بين كل من الكتابة والقراءة، ولكل منهما الطريقة التي تسمّيها، وتعهد بها إلى التعبير عن ذات لم يكن لها من حضور خارج ما هي عليه، وهي في وضعية اللامسمَّى، إلى حدث خارجي مشار إليه.

على الأقل حين أستحضر رولان بارت وهو يطلق العنان للذة خاصة في معايشة النص " لذة النص " ومن ثم جاك دريدا، وهو يربط ما بين حب الذات والكتابة والاستمناء، وكيف أنهما يموقعان حضوراً لهما في العالم، في علم الكتابة " الغراماتولوجيا "، وما أفصح عنه عبدالكبير الخطيبي في مكاشفة فعل القراءة لدى النفزاوي، في مؤلَّفه " الروض العاطر في نزهة الخاطر"، وذلك في كتابه ذي الدمغة الجنسانية " الاسم العربي الجريح"..

واقع الحال، إن تحرينا أركيولوجيا الحالة العضوية للجسد، لمَا خرجنا من هذا الفضاء الرحب الذي يحيط بكل من الكتابة والقراءة معاً، ولم أشك يوماً في وشائج القربى القوية بين انتروبولوجيا الجنس النشط، وهي في أوج سريان فعلها الثقافي خارجاً، وممارسة القراءة والكتابة، من خلال حركة مدرَكة تاريخياً، نظِر في أمرها في اللوغوس اليوناني، وفي نشأة الفقه العربي- الإسلامي، حتى بغيبيته: جنَّتياً. ففي كل منهما لدينا هذا البعد الاستراتيجي من ولادة المرجو والمنشود، في مناخ من الحميمية شديدة الخصوصية، واشتباك الأعضاء في وحدة مقاومة لوعي، يفتح لها الطريق إلى نوع من الاستغراق في شهوة ممضي عليها من قبل الذات.

فليس في مقدور أي كان، أن يعاشر تلك الكتابة التي تفجّر معنى، وتعم كليانية الجسد، في ديمومة زمنية خاصة، دون امتلاء بالطاقة التي تبث الحماس وتوقّده في الجسد، وقد تهيأ لهذا الفعل الذي يرعش القوى الكامنة في الجسد. الكتابة هي نسيان الذات وهي في علاقتها بالآخرين، نسيانها وهي في سياق المعيش اليومي، ومنحها إجازة وقتية، مهمة من نوع خاص تتعلق بكيفية الدخول في وضعية نفسية، تهيب بالجسد لأن يدخل في حضرة الآخر: الأنثوي، والعكس صحيح، ليكون ما بينهما هذا المنتظَر مولوداً. وإن أوقفنا فعل الكتابة على الذات الكاتبة، فذلك يتمثّل في أوان حضور الاستغراق في الجسد، والتخلي عن الذات وهي تعيش أحداثها اليومي، لتقيم للحياة ذلك العمق الذي لا يُسبَر، وليس هناك ما يقصي بين الجسد وهو ينغمر كتابةً، وكتابة تعنيه، وهي تميط اللثام عن مقدار النعظ المستهدى من هذا الفعل.

في القراءة نكون إزاء مواز خاص بالمقابل. فالقراءة هي تولي مهمة الدخول في نص معين، لا بد أن فيه إثارة إيروتيكية معينة، لا يعود جسد المعني بها، إلا تجرداً من واقعه الذي يلحمه بالوسط العام، إلى واقع يغيب فيه عن عالمه ذاك.

الإيروتيكا الموصوفة هنا، تنفصل كلياً عن تلك التي تكون القاسم المشترك الأكبر بين عموم البشر، وحتى الكائنات الحية مجتمعة، جهة الإخصاب والإنسال. إذ لدى كل كائن حي، إذات كان سليم الأعضاء، قوة موهوبة إخصابياً، تتوقف على الشعور بالنعظ، أو اللذة التي تكون مقايضة منتظرة، دونها ليس من قابلية للتوالد أو الإنسال .

لدينا علامة فارقة نخبوية في الكتابة والقراءة اللتين عُمّقتا بحثاً وتحرّي أثر وجينالوجيا انبثاق وبصمة وجود معترَف به، أو يم الاهتداء إلى أثره وهو يمد بالجسد إلى الأمام.

وأن يقابَل بين الجسد والنص، أن يتم الحديث عن " نسيج النص " أن يتم الحديث عن الغياب عن الوعي، ومعايشة جسد من نوع آخر، يتناسب وحرَفية كل من الكتابة والقراءة، وهما لا تتاحان لأي كان، ولا كان يُسمَح لأي كان بالتمايز بهما، لوجود من يعتبر نفسه القيّم عليهما، من منظور سلطوي، أو أخذ الإذن منه، ليتم ذلك، وفي حيّز قواعدي معين، حتى الأمس القريب، ففي ذلك ما يدفعنا إلى التعبير عنهما بمزيد من الشفافية والمصارحة وقد شهدتا انعطافة تاريخية، لم يعد في مقدور المحظور، أو الممنوع، أو ما كان يُسمى بـ" ممنوع التفكير " أن يقتطع من الجسد ما يعطّل فيه حضوره هذا.

ومن السهل بمكان، الوقوف عند فعل الكتابة والقراءة، عند الحديث عن السمة الإنتاجية لهما " دورة الإخصاب والإنسال" على مدار الزمن، حيث يشكّل فعل كل من القراءة والكتابة الوشّاء المباشر والأمين على هذا الضلوع في الإثم المرغوب فيه، أو الثمرة المحرمة التي تسمّي شجرة شهوتها الوارفة الظلال والدائمة الخضرة ولزمن يتوقف حسابة على خاصية القائم بهذا الفعل، وليس ما يعرَف به الجسد من ممارسة جنسية، ومنذ متى يكون التهيؤ لهذا النشاط، وفي أي عمر، لا يعود في مقدوره التجاوب مع حامله، وهو يرغب في وصال الآخر، أو حتى ذاته " الاستمناء " وقد نفد رصيده هنا، إنها ممارسة إيروتيكية ترتسم معالمها في عموم الجسد الذي يتناسب وإرادة القوة الفاعلة في هذا المضمار المفتوح. إن الحركة التي ينظَر في أمرها، وهي ترينا الجسد، تعلِمنا عن بعد، وكيف يشكّل الانقطاع إلى الصمت، امتلاء بالنعظ الذي يمتد إلى زمن غير معلوم، وأن يكلّف هذا النشاط أحياناً حياة صاحبه، فلأنه في إدمانه الواعي، يدرك علام يقبل، وما ينتظره اسماً آخر يؤبّده في الزمن. إن الذين عرِفوا ببدعة الكتابة، وهم قرّاء في الأصل، ومن ثم جامعون بينهما، ومقاومة كل مانع لهذا النوع المميَّز والخطر للنشاط، يسهل معرفة المترتب على مصيرهما: توالدهما المستمر في الزمن، وحتى امتلاك ما أفصحوا عنه، وهو يشكل مأثرة إخصابية متجددة في أولئك الذين يقبلون على تداولهم والتأثر بهم.

القراءة، كما هي الكتابة والتي يشار إليهما بالقوة الإنتاجية، استعارة لصيقة بميكانيزم الجسد وقد تعزَّز ذاتياً، وليس متاحاً لأي كان، تقدير أو الكشف البياني الدقيق لطبيعة هذه الإيروتيكا باعتبتارها تفعيل أثر لا يُمحى لزمن معلوم، إلا حين يعيش مقاومة مستولدة، تحرّره من وطأة اليومي والمبتذل، والمحاكاة الاجتماعية وضوابطها، والقذف بالجسد في أوقيانوس كل من القراءة والكتابة، أو فضائهما الواسع الأبعاد، ومعين الخيال في ذلك،حيث يهاب باليد لأن تقوم بهذا الدور وهي موصولة بعموم الجسد، فلا تعود مجرد عضو خارجي، أو طرف جانبي، إنما داخلة في شراكة فاعلة، حيث كل حركة من جهتها، وهي تترك أثراً يكون الكتابةَ إمضاءة الجسد إيروتيكياً، أو في الترابط بين حركة اليد وهي تقلب صفحات كتاب ما، أو تحريك " الماوس " في الكومبيوتر، والعين المرافقة، بنوع من التواطؤ العالي المستوى، وجنون الذات شبقية. إنها رقصة الجسد الخاصة، التي تعتمر بالإثم، لتدشن لوضع مختلف لاحقاً.

إن إعلان حرب ما على أحدهم،مطاردة معينة له، التشهير المعين فيه، واستقباح ما يقوم به، من جهة نظام يحتكر الجسد الفردي، باسم أبوية تعتبر نفسها، ماكينة الإيروتيكا ومرجعيتها المقدسة، والمجيزة الوحيدة لمن تزكّيه، أو تسمح له بالنشاط المؤطّر،وتحت أنظارها، لا يعدو أن يكون حسداً أفاكاً، وحقداً أبوي الطابع، جرّاء شعور بصدمة الأبوية التاريخية، وهي تتعشش في " الطوط والتابو ": أي تلك الحقوق التي تجعلها سلطة ضاربة، وهي تمتلك قوة الحياة والموت. في مثل هذه الأبوية التي ترى نفسها في الكلام المقدّرلها، كما لو أنها تفرض نكاحيتها المشرعنة على كل المنتمين إلى دائرتها الاجتماعية، وكل ما يخرج عن طوع أمرها مسمى " زنى " وما يترتب عليه من صنوف عقاب مختلفة.

هذه الأبوية التي تعيش احتضارها، تفسخَها، أو موتها الرمزي، من الممكن تعقّب آثارها وفظائعها تاريخياً، وليس من البلاغة بمكان، معاينة ما يجري الآن في منطقتنا، وضمن مساحة جغرافية، بملايين كيلومتراتها المربعة، على أنه التعبير الصارخ والعاري والرهيب لهذه " النكاحية " القاتلة والمدمرة، أبوية مستغرقة في إيروتيكا سفك الدماء لمن تعتبرهم ساعين إلى نزع هذه الاحتكارية ذات العراقة تاريخياً، عبر سلطة لها أجهزتها الحامية لها، وبالتالي، ما يدفع بالباحث مقتفي أثر حقيقة الكتابة والقراءة في معايشة عالمهما الداخلي، إلى تعرية هذا العمق الدموي لها، عمق يتمثل في قضيب سلطوي لا يحاط به، يغيب فيه كامل الجسد، أي سيد مطاع غائب عن وعيه وقد " تقضبن "، فلا يمكنه استعادة فداحة ما هو فيه، وقد تخضرم فيه كل شيء، ليكون تجاوزه كلياً، السبيل الوحيد، للاحتفاء بإيروتيكا الكتابة والقراءة الفاعلتين هنا وهناك، بوصفها التمثيل العميق الأثر على حياة منكشفة جرّاء مقاومات مكلّفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى