ظبية خميس - الزنزانة

في الليل.. أكاد أجن.. تماماً أطفئ الأضواء.. أتغطى جيداً.. أضع المخدّة على رأسي.. ولكن كل شيء يستيقظ ويحيل ذلك السبات.. إلى كابوس أشعث.
أحتمل الجدران في النهار.. أحتمل الصمت.. أحتمل (( أبو بريص )) وهو يتنزه في الغرفة.. أحتمل اللون البني.. أحتمل تلك القضبان لنافذة زجاجها بني هو الآخر.. وستائرها كذلك. أستطيع أن أستمع إلى العصافير التي لا أراها.. وأتخيل الشمس التي لا أحسها.. وأنسى كل شيء آخر.
في الليل تستيقظ الأسئلة.. وفي النهار تصمت الأجوبة.. وبينهما.. أمضي وأجيء.. أخربش على الحيطان.. وأرسم بقلم الكحل وجوهًا على الدولاب.. وأغطية السرير.. والمخدات..
أستطيع أن أراهم أمامي.. وهم يستفرغون الأسئلة.. وأجيبهم.. أقول لهم.. ذلك الذي يودون سماعه.. ولا يشبعون.. ولكنني لا أراهم.. ولا أرى نفسي..
كنت أود لو أنهم كانوا يجهزون عليّ.. أحياناً.. لكي لا أنتظر.. لا أنتظر. كل شيء في الصحو كان كابوساً، هذا الصحو الذي يطول.. ويطول.. بلا نهاية.. أحاول أن أنام.. فلا أنام.. لأيام ..وليالٍ.. أحياناً. وعندما أنام.. أجد أصواتاً عالية.. وطرقًا عالياً يوقظني.. فلا أفزع منهم.. ولكنني أفزع من الصحو.
في الليل.. وعندما يحدث أن أنام.. كانت الأحلام رائعة.. البحر.. دائماً.. متنوع.. ومختلف.. وجوه ألقاها هناك بقرب البحر.. الذي ليس هو نفسه في كل مرة جديدة، يحدث فيها الحلم. كنت أرى أنه هو المستقبل لو أن خلاصاً.. ما.. يحدث.
مرت حياتي كلها أمامي.. منذ لحظة الولادة.. وحتى لحظة الجدران الضيقة.. كلها مرت.. الطفولة.. والأهل.. والبيوت.. والعناوين.. والسفر.. والعمل.. كل أفكاري مرت من أمامي.. عارية.. أمام عيون وأيادي وأجساد تغتصبها لحظة فلحظة..
وكانوا لايملون من فعل الاغتصاب.. ذلك.
يتبادلون أماكنهم.. ويتقاسمون زمنهم.. بيني وبينهم أمتار. كانوا هم الطاولة.. وكنت أنا الكرسي الخشبي.
أحيانًا كان الغثيان يملأ رأسي.. وأنام نومة الغيبوبة.. عندما أصحو أصحو على أسئلتهم.
لمدة طويلة تخيلت أن هناك سماً في الأكل.. يدسونه لي كي لا أنام.. ولا أصحو.. رفضت الطعام.. وعندما جعت أكلت الخبز.. وشربت الماء.. ودخنت السجائر.. ((سجائرهم)).
الثياب.. نفسها.. البياض نفسه.. اللهجة المتكررة.. الوجوه التي تشبهني.. ولا تشبهني.. أجهزتهم الصغيرة.. ووجوههم ..التي تلتصق فيها رائحة الكلاب.
كنت أرى وجوههم كل يوم.. وأنساها كل يوم… بقيت القطعة السوداء على عيني.. حتى عندما قرروا أن يفكوها. وبقي النور الوقح هو الوحيد الذي يصل إلى وجهي منهم.
التعرية أولاً.. التهديد ثانياً.. أن يكسروك مثل عود الياسمين.. ويحرقوا حرارة قلبك بين أياديهم… التكرار لأقوالك… أن تقول… وتقول ثم تقول الشيء نفسه مرة ثانية، وثالثة، ورابعة… وهكذا.
ثم ماذا فعلت أنت بالضبط… وما الذي يريدونه هم بعد أن عرّوك كل تلك المرات… أنت لا تعرف غير أنهم ودوا لك أن ترى عورتك معهم… وهم مكسيون بالبياض… وبالجهاز.
في الحمام… يسقط الماء بعنف فوق الرأس… تريد أن تغسل رائحة صوتهم.. بيدك أولاً.. بأظافرك ثانياً… ثم بأسنانك…
في الأخير يتبخر كل ذلك الماء.. وكأنك لم تغتسل… ولا يبقى منه إلا قطرتان واحدة في عينك.. والثانية في الدماغ.. في القاع، تماماً.
عندما يطول ذلك الوقت الذي لا ينتمي لا لليل.. ولا للنهار.. وقت متصل.. بلا معنى.. كأنك في الفضاء البعيد.. في كواكب لم تلمسها شمس… يفترسك الشوق إلى صوت.. صوت ما.. هل البشر مازالوا هناك خارج هذه الجدران.. أمازالت لهم أصوات.. وملامح.. أهناك ضوء خافت لنومهم… ونهار شاسع لضجيجهم… تظن أنك لم ترَ بشراً منذ زمن.. أما هؤلاء الذين يغتصبون صوتك في كل يوم فقد حددت لهم خانة أخرى… خانة لها علاقة بفعل الولوج إلى عينيك… ثيابهم البيضاء… وجهازهم الأسود.
تعتذر كثيراً لكل من أحببتهم منذ الطفولة.. وحتى الآن. تتذكرهم… جميعهم.. تتذكر كل شيء.. وخصوصاً أخطائك في الحب..
الألوان .. أيضاً .. والحيوانات الأليفة.
لحظات الجنون الطليق.. رعونتك.. وأشيائك الجميلة.. تتذكر خصوماتك.. التي كانت بلا داعي… وتعد نفسك بعقد الصلح.. مع أولئك الأصدقاء…
تقترب من الله كثيراً.. في لحظة ما… وتخرج روحك من جسدك.. لترى كل شيء.. بوضوح أكثر.. وتتحول أنت إلى شيء، أيضاً، شيء يعبث به خارج إرادته شيء غير مسموح له بالاحتجاج… شيء في علبة بنية لها باب.. له مفتاح.. تحمله أيادي عديدة ترتدي الثوب الأبيض.
أحياناً تنساك روحك هناك.. تفلت… تفلت… تذهب إلى الكون… وتتركك وحيداً.. جداً مع الجدران… غريب حتى على ذرات بدنك… وصوتك يصبح كأنه صوت شيء آخر لا يمت لك بصلة.
يريدونك ميتاً… لكنك لا تموت.. ميتتهم في تلك اللحظة.. تتقوقع كجنين… لا أمل له في الولادة.
تستسلم لماضيك.. ولهم… وللجدران.. ولزمن يحدث بدون ملامح. أنت وهم… ألغوا درجات الضوء… والأحداث… والأخبار. أنت لم تعد تعرف لو أن العالم مازال هناك مكانه.. يتغير كل يوم… كما اعتاد على ذلك في دورته الطويلة. يقنعونك بأنه بالنسبة إليك قد توقف… وأنت ماذا تفعل… تدور حول نفسك… وتدور… وتدور… إلى أن تسقط من التعب.
في لحظة غامضة… تطرق أذنيك صرخة ما… من مكان ما… وصوت يجأر… عندما تحدق في ذلك الصوت… تكتشف أنه صوتك.
وفي لحظة أخرى غير متوقعة تجدهم يقولون لك وداعاً… تفتح الباب… وهناك يقف طويلاً، وثقيلاً الليل أمامك. تأخذ بقاياك وترحل… على إسفلت طويل أسود… في دنيا صامتة… وأضواء حادة..
عندما تحدق في المرآة… وتنظر إليك.. ترى أن عينيك.. قد تغيرتا… والآخرين.. أيضاً. أما الليل.. فمازال صعباً… وثقيلاً. تتذكر ذلك بعد سنوات.. تتذكره، وحدك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى